626- وعَنِ ابنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُما قالَ: أَمَرَهم النبيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أنْ يَرْمُلُوا ثَلاثَةَ أَشْوَاطٍ، ويَمْشُوا أَرْبعاً مَا بينَ الرُّكْنَيْنِ. مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.
مُفْرَداتُ الحديثِ:
-أَنْ يَرْمُلُوا: بضَمِّ المِيمِ، والرَّمَلُ هو الهَرْوَلَةُ، وهو الإِسْرَاعُ في المَشْيِ، معَ هَزِّ الكَتِفَيْنِ، وتَقَارُبِ الخُطَى.
-أَشْوَاطٍ: جَمْعُ شَوْطٍ بفتحِ الشِّينِ المُعْجمَةِ، هو الجَرْيُ مَرَّةً إلى الغايَةِ، والمُرادُ هنا الطَّوْفَةُ حَوْلَ الكَعْبَةِ.
-الرُّكنَيْنِ: هما اليَمَانِيُّ والرُّكْنُ الشَّرْقِيُّ الذي فيهِ الحَجَرُ الأَسْوَدُ، ويُقالُ لهما: اليَمَانِيَّانِ. تَغْلِيباً.
ما يُؤْخَذُ مِنَ الحَدِيثِ:
1-اسْتِحْبَابُ الرَّمَلِ في الأَشْوَاطِ الثَّلاثَةِ مِن طَوَافِ القُدُومِ، وهو خَاصٌّ بالرِّجالِ؛ لأنَّهم المُخاطَبُونَ به في عُمْرَةِ القَضاءِ، وهم الذينَ تَظْهَرُ فِيهم حِكْمَتُه مِن حَيْثُ إِظْهَارُ القُوَّةِ والجَلَدِ للجِهَادِ؛ ولأنَّ النِّساءَ يُطْلَبُ مِنْهُنَّ السَّتْرُ والتَّحَفُّظُ.
2-اسْتِحْبَابُ المَشْيِ في الأَشْوَاطِ الأَرْبَعَةِ البَاقِيَةِ.
3-أنَّ ذلك مُسْتَحَبٌّ في طَوافِ القُدومِ، وكذا طَوافُ الحَجِّ والعُمْرَةِ، إذا قَامَا مَقامَ طَوَافِ القُدُومِ.
4-في حديثِ ابنِ عَبَّاسٍ أنَّه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أمَرَهُم أَنْ يَمْشُوا ما بينَ الرُّكْنَيْنِ، وهذا في عُمْرَةِ القَضَاءِ؛ رَأْفَةً بحَالِ الصَّحابَةِ، فَقَدْ جَاءَ آخِرَ الحديثِ قَوْلُ ابنِ عَبَّاسٍ: "وَلَمْ يَمْنَعْهُ أَنْ يَأْمُرَهُمْ أَنْ يَرْمُلُوا الأَشْوَاطَ كُلَّها إِلاَّ الإِبْقَاءُ عَلَيْهِمْ"، كما جاءَ في صحيحِ مُسْلِمٍ: ((إِنَّ الْمُشْرِكِينَ جَلَسُوا مِمَّا يَلِي الْحِجْرَ)) أي: على جَبَلِ قُعَيْقِعَانَ، ومَن هو فيه لا يَرَى مَن يَكُونُ بينَ الرُّكْنَيْنِ اليَمَانِيَّيْنِ.
أمَّا فِي حَجَّةِ الوَدَاعِ فَقَدْ جَاءَ في حديثِ جَابِرٍ الذي في مُسْلِمٍ (1218): "أَنَّه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رَمَلَ ثَلاثاً، ومَشَى أَرْبعاً". كما هو صَرِيحٌ في هذَيْنِ الحديثَيْنِ اللذَيْنِ معَنا، فيكونُ آخِرَ أَمْرِهِ عليه الصلاةُ والسلامُ الرَّمَلُ في كُلِّ الثَّلاثَةِ، فتَكُونُ سُنَّةُ الرَّمَلِ هَكَذا.
5-الحِكْمَةُ في إِظْهَارِ الجَلَدِ والقُوَّةِ أَمَامَ الأَعْدَاءِ مِن المُشْرِكِينَ، الذينَ قالُوا حينَما قَدِمَ النبيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وأصحابُه مَكَّةَ: إِنَّه يَقْدَمُ عَلَيْكُمْ قَوْمٌ قَدْ وَهَّنَتْهُمْ يَثْرِبُ، فأمَرَ النبيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أصحابَه أَنْ يَرْمُلُوا الأَشْوَاطَ الثَّلاثَةَ، فكانَتْ سُنَّةً لعُمومِ المُسلِمِينَ؛ ولذا فإنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَعَلَه حَتَّى بَعْدَ أَنْ طَهَّرَ اللهُ مَكَّةَ من المُشْركِينَ والشِّرْكِ في حَجَّةِ الوَدَاعِ، ولَمَّا خَطَرَ بذِهْنِ عُمَرَ بنِ الخَطَّابِ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ تَرْكُهُ, فقالَ: "مَا لَنَا وَلِلرَّمَلِ، إِنَّما كُنَّا أَرَيْنَا بِهِ المُشْرِكِينَ قُوَّتَنَا، وقَدْ أَهْلَكَهُمُ اللهُ". ثمَّ رَجَعَ فقالَ: "شَيْءٌ صَنَعَهُ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فلا نُحِبُّ أَنْ نَتْرُكَهُ".
قالَ ابْنُ جَرِيرٍ: ثَبَتَ أَنَّ الشَّارِعَ رَمَلَ ولا مُشْرِكَ يَوْمَئِذٍ بمَكَّةَ، فعُلِمَ أَنَّهُ مِن مَنَاسِكِ الحَجِّ.
6-فيهِ اسْتِحبابُ إِظْهارِ القُوَّةِ والجَلَدِ أمامَ أعداءِ الدِّينِ؛ لأنَّ في ذلك عِزَّ الإِسْلامِ، وتَوْهِينَ أَعْدَائِهِ.
7-إِظْهَارُ القُوَّةِ في العِبَادَةِ والنَّشاطِ عليها لمَقْصِدٍ حَسَنٍ، لا يُنافِي إِخْلاصَها للهِ تعالى.
8- قالَ في فتحِ البَارِي: لا يُشْرَعُ تَدَارُكُ الرَّمَلِ، فلو تَرَكَهُ في الثلاثةِ لَمْ يَقْضِهِ في الأَرْبَعَةِ الباقِيَةِ؛ لأنَّ هَيْئَتَها السَّكِينَةُ، فلا تُغَيَّرُ.
9-قالَ الشيخُ: يُسْتَحَبُّ أَنْ يَرْمُلَ مِن الحَجَرِ إلى الحَجَرِ في الأطْوِفَةِ الثَّلاثَةِ، فهو سُنَّةٌ باتِّفاقِ الأَئِمَّةِ، ففي مُسْلِمٍ من حديثِ ابنِ عُمَرَ قالَ: "رَمَلَ رَسولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِن الحَجَرِ إلى الحَجَرِ ثَلاثاً، ومَشَى أَرْبَعاً فِي الحَجِّ وَالْعُمْرَةِ".
وفي صحيحِ مُسْلِمٍ عن جَابِرٍ: "رَمَلَ ثَلاثاً، ومَشَى أَرْبعاً".
قالَ التِّرْمِذِيُّ: والعَمَلُ عليهِ عندَ أهْلِ العِلْمِ.
وقالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: رَمَلَ في عُمَرِهِ كُلِّها، وفي حَجِّه، وأبو بَكْرٍ، وعُمَرُ، وعُثْمَانُ، وكانَ أَصْلُ هذا الرَّمَلِ إِغْاَظةَ المُشْرِكِينَ، ثمَّ صارَ سُنَّةً معَ زَوالِ سَبَبِه، كالسَّعْيِ والرَّمْيِ.
10- قالَ الشيخُ: فإنْ لَمْ يُمْكِنْهُ الرَّمَلُ للزَّحْمَةِ، كانَ خُرُوجُه إلى حَاشِيَةِ المَطَافِ, والرَّمَلُ أفْضَلُ من قُرْبِهِ إلى البيتِ بدُونِ رَمَلٍ؛ لأنَّ المُحافَظَةَ على فَضِيلَةٍ تَتَعَلَّقُ بذاتِ العِبَادَةِ أَهَمُّ مِن فَضِيلَةٍ تَتَعَلَّقُ بمَكَانِها.