فصلٌ: ويَجُوزُ باتِّفَاقٍ أَنْ يَلِيَ هذه الأفعالَ مَعْمُولُ خبرِها إن كانَ ظَرْفاً أو مَجروراً، نحوُ: (كانَ عِنْدَكَ، أو في المَسْجِدِ زَيْدٌ مُعْتَكِفاً) ([1])، فإن لم يَكُنْ أحدُهما فجُمهورُ البَصْرِيِّينَ يَمْنَعُونَ مُطْلقاً، والكُوفِيُّونَ يُجِيزُونَ مُطلقاً([2])، وفَصَّلَ ابنُ السَّرَّاجِ والفَارِسِيُّ وابنُ عُصْفُورٍ فأَجَازُوهُ إن تَقَدَّمَ الخبرُ معَه، نحوُ: (كانَ طَعَامَكَ آكِلاً زَيْدٌ) ومَنَعُوه إن تَقَدَّمَ وَحْدَه، نحوُ: (كَانَ طَعَامَكَ زَيْدٌ آكِلاً)، واحتَجَّ الكُوفِيُّونَ بنحوِ قولِه:
88 - بِمَا كَانَ إِيَّاهُمْ عَطِيَّةُ عَوَّدَا=........
وخُرِّجَ على زِيَادَةِ كانَ أو إضمارِ الاسمِ مُرَاداً به الشأنُ، أو رَاجِعاً إلى (ما)، وعليهنَّ فعَطِيَّةُ مُبتدأٌ، وقيلَ: ضَرُورَةٌ، وهذا مُتَعَيَّنٌ في قولِه:
89 - بَاتَتْ فُؤَادِيَ ذَاتُ الخَالِ سَالِبَةً=.............
لظُهُورِ نَصْبِ الخبرِ.
([1]) ممَّا جَاءَ مِن ذلك في أَفْصَحِ كلامٍ وأَعْرَبِه قولُه تعَالَى: {وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُواً أَحَدٌ}، فإِنَّ {له} جارٌّ ومجرورٌ مُتَعَلِّقٌ بقولِه: {كُفُواً}؛ إذْ معنَاهُ مُكَافِئٌ، وقد وَلِيَ {يَكُنْ} وهذا النصُّ يَرِدُ على جُمهورِ البَصْرِيِّينَ الذين يَمْنَعُونَ مُطلَقاً، ويُؤَيِّدُ ابنُ السَّرَّاجِ والفَارِسِيُّ وابنُ عُصْفُورٍ الذين يُجِيزُونَ إذا تَقَدَّمَ الخبرُ مع المعمولِ فوَلِيَ كانَ، ألا تَرَى أنَّ {كُفُواً} الذي هو خبرُ {يَكُنْ} قد تَقَدَّمَ على الاسمِ الذي هو {أَحَدٌ} معَ أنَّ {له} الذي هو معمولُ الخبرِ قد وَلِيَ {يَكُنْ}.
([2]) أنت تَعْلَمُ أنَّ اسمَ كانَ وأخَوَاتِها وخَبرَهُنَّ مَعْمُولانِ لكان، والمعمولُ الذي هو مَوْضِعُ الكلامِ في هذا الفصلِ هو معمولُ الخبرِ، واعْلَمْ الآنَ أَنَّ مَنْشَأَ الخِلافِ بينَ هؤلاءِ جميعاً هو: هل مَعمولُ المعمولِ يُعْتَبَرُ مَعْمُولاً للعاملِ الأصلِ الذي هو هنا كَانَ؟ فالذي يُؤْخَذُ مِن تعليلِهم لهذا الخلافِ أنَّ البَصْرِيِّينَ يَرَوْنَ أنَّ معمولَ المعمولِ لا يُعْتَبَرُ مَعْمُولاً للعامِلِ الأصلِيِّ، ولهذا حَكَمُوا بأنَّه لا يَجُوزُ أن يَلِيَ كانَ أو إِحْدَى أَخَوَاتِهَا مَعْمُولُ خَبَرِها؛ لأنَّه أَجْنَبِيٌّ مِن كَانَ، فإذا وَلِيَهَا لَزِمَ أن يُفْصَلَ بينَ العاملِ الذي هو كانَ، والمعمولِ الذي هو الاسمُ والخبرُ بالأجنَبِيِّ الذي هو معمولُ الخبرِ، وأنَّ جُمهورَ الكُوفِيِّينَ يَعْتَبِرُونَ معمولَ المعمولِ مَعمُولاً للعاملِ الأصلِيِّ، فلهذا أَجَازُوا أنْ يَلِيَ كانَ معمولُ خبَرِها؛ لأنَّه ليسَ أَجنبِيًّا، فلَمْ يَلْزَمِ المَحظورُ المَذْكُورُ.
88 - هذا عَجُزُ بيتٍ مِن الطويلِ، وصدرُه قولُه:
قَنَافِذُ هَدَّاجُونَ حَوْلَ بُيُوتِهِمْ =.............
والبيتُ للفَرَزْدَقِ مِن كلمةٍ يَهْجُو فيها جَرِيراً وعَبْدَ القَيْسِ، وهِي مِن النَّقَائِضِ بينَ جَرِيرٍ والفَرَزْدَقِ، وأوَّلُها قولُه:
رَأَى عَبْدُ قَيْسٍ خَفْقَةً شَوَّرَتْ بِهَا = يَدَا قَابِسٍ أَلْوَى بِهَا ثُمَّ أَخْمَدَا
اللغةُ: (قَنَافِذُ) جمعُ قُنْفُذٍ، وهو - بضَمَّتَيْنِ بينَهما سُكونٌ، أو بضَمِّ القَافِ وسُكونِ النونِ وفَتْحِ الفاءِ وآخِرُه ذالٌ مُعجَمَةٌ أو دَالٌ مُهْمَلَةٌ - حيوانٌ يُضْرَبُ به المَثَلُ فِي السَّرَى، فيُقَالُ: هو أَسْرَى مِنَ القُنْفُذِ. وقَالُوا أيضاً: (أَسْرَى مِن أَنْقَدَ)، وأَنْقَدُ اسمٌ للقُنْفُذِ، ولا يُصْرَفُ، ولا تَدْخُلُه الألفُ واللامُ، كقولِهِم للأسَدِ: أُسَامَةُ، وللذئبِ: ذُؤَالَةُ. قالَه المَيْدَانِيُّ. [1/239 الخيرية] ثُمَّ قالَ: وَالقُنْفُذُ لا يَنَامُ الليلَ، بل يَجُولُ ليلَه أَجْمَعَ. ويُقَالُ في مَثَلٍ آخَرَ: (بَاتَ فُلانٌ بلَيْلِ أَنْقَدَ) وفي مَثَلٍ آخَرَ: (اجْعَلُوا لَيْلَكُمْ لَيْلَ أَنْقَدَ) وذَكَرَ مِثلَه العَسْكَرِيُّ في (جَمْهَرَةِ الأَمْثَالِ) بهامشِ المَيْدَانِيِّ. (2/7) (هَدَّاجُونَ) جمعُ هَدَّاجٍ وهو صيغةُ مُبالغةٍ مِن الهَدْجِ أو الهَدَجَانِ، والهَدَجَانِ - بفَتَحَاتٍ - ومِثْلُه الهَدْجُ - بفَتْحٍ فسُكونٍ - مِشْيَةُ الشيخِ، أو هو مِشْيَةٌ فيها ارتِعَاشٌ، وبابُ فِعْلِه ضَرَبَ. ويُرْوَى: (قَنَافِذُ دَرَّاجُونَ) والدَّرَّاجُ صِيغةُ مُبالغةٍ أَيْضاً مِن دَرَجَ الصَّبِيُّ والشيخُ - مِن بابِ دَخَلَ - إذا سَارَ سَيْراً مُتَقَارِبَ الخَطْوِ. (عَطِيَّةُ) هو أَبُو جَرِيرٍ.
المَعْنَى: إِنَّهُم خَوَنَةٌ فُجَّارٌ يُشْبِهُونَ القَنَافِذَ في سَيْرِهم بالليلِ طَلَباً للدعَارَةِ والفَحْشَاءِ، وإنَّمَا السببُ في ذلك تعويدُ أبيهِم لهم ذلك.
الإعرابُ: (قَنَافِذُ) خبرٌ لمُبتدأٍ محذوفٍ تقديرُه: هُم قَنَافِذُ، وأَصْلُه كالقَنَافِذِ، فحَذَفَ حرفَ التشبيهِ مُبَالغةً، (هَدَّاجُونَ) صِفَةٌ لقَنَافِذَ، مَرفوعٌ بالواوِ نِيَابةً عَن الضمَّةِ؛ لأنَّه جمعُ مُذَكَّرٍ سَالِمٌ، والنونُ عِوَضٌ عَن التنوينِ في الاسمِ المُفردِ، (حَوْلَ) ظرفٌ مُتعلِّقٌ بهَدَّاجُونَ، وهو مُضافٌ وبُيُوتِ مِن (بُيُوتِهِم) مُضافٌ إليه، وبُيُوتِ مُضافٌ، والضميرُ مُضافٌ إليه، (بِمَا) الباءُ حرفُ جَرٍّ، و(ما) يُحْتَمَلُ أن تَكُونَ مَوْصُولاً اسمِيًّا، والأوضحُ أن تَكُونَ مَوْصُولاً حرفِيًّا. (كَانَ) فِعْلٌ ماضٍ ناقصٌ. (إِيَّاهُمْ) مَفعولٌ مُقَدَّمٌ على عامِلِه وهو (عَوَّدَ) وستَعْرِفُ ما فيه، وقولُه: (عَطِيَّةُ) اسمُ كانَ. (عَوَّدَا) فِعْلٌ ماضٍ مبنيٌّ على الفتحِ لا مَحَلَّ له، والألفُ للإطلاقِ، والفاعلُ ضميرٌ مُستتِرٌ فيه جَوَازاً تقديرُه هو يَعُودُ على عَطِيَّةَ، وجملةُ الفعلِ والفاعلِ في مَحَلِّ نصبٍ خَبَرُ (كانَ) وهذا الإعرابُ إنَّمَا هو بحَسَبِ الظاهِرِ، وهذا إِعْرَابٌ غيرُ مَرْضِيٍّ عندَ جَمْهَرَةِ عُلماءِ النحوِ، وستَعْرِفُ الإعرابَ المقبولَ عندَهم.
الشاهدُ فيه: قولُهُ: (بِمَا كَانَ إِيَّاهُمْ عَطِيَّةُ عَوَّدَ) حيثُ إِنَّ ظَاهِرَه يُوهِمُ أَنَّ الشاعرَ قَد قَدَّمَ معمولَ خبرِ كَانَ - وهو (إِيَّاهُمْ) - على اسمِها وهو (عَطِيَّةُ) معَ تأخيرِ الخبرِ وهو جُملةُ (عَوَّدَ) عن الاسمِ أيضاً، فلَزِمَ أن يَقَعَ معمولُ الخبرِ بعدَ الفِعْلِ ويَلِيهِ، هذا هو الظاهرُ مِن البيتِ، والقولُ بجَوَازِهِ مَذْهَبُ الكُوفِيِّينَ.
والبَصْرِيِّونَ يَأْبَوْنَ ذلك، ويَمْنَعُونَ أن يَكُونَ (عَطِيَّةُ) اسمُ كانَ، ولهم في البيتِ عِدَّةُ تَوجِيهَاتٍ:
أحدُها: - وهو الثانِي فيما ذَكَرَه المُؤلِّفُ العَلاَّمَةُ تَبَعاً للنَّظْمِ - أنَّ اسمَ كانَ ضميرُ الشأنِ، وقولُه: (عَطِيَّةُ) مُبتدأٌ وجملةُ (عَوَّدَا) خبرُه، وجملةُ المُبتدأِ والخبرِ في مَحَلِّ نَصبٍ خبرُ كانَ، فلم يَتَقَدَّمْ معمولُ الخبرِ على اسمِ كانَ.
والتوجيهُ الثانِي: - وهو الأوَّلُ في كلامِ المُؤَلِّفِ - أنَّ (ما) اسمٌ مَوصولٌ مجرورُ المَحَلِّ بالباءِ، و(كَانَ) زَائِدَةٌ، وجُملةُ المبتدأِ والخبرِ لا مَحَلَّ لها صِلَةُ الموصولِ وهو (ما).
والثالثُ: أنَّ اسمَ (كان) ضَميرٌ مُستتِرٌ يَعُودُ على (ما) الموصولَةِ، وجملةُ المبتدأِ والخبرِ في مَحَلِّ نَصبٍ خَبَرُ كَانَ، وجُملةُ كَانَ ومعمُولَيْهَا لا مَحَلَّ لها صِلَةٌ، والعَائِدُ - على هذا التوجيهِ والذي قبلَه - مَحذوفٌ تقديرُه: بِمَا كَانَ عَطِيَّةُ عَوَّدَهُمُوهُ.
ومِنهُم مَن يَقُولُ: إِنَّ هذا البيتَ مِن الضروراتِ التي تُبَاحُ للشاعرِ، ولا يَجُوزُ لأحدٍ مِن المُتكَلِّمِينَ أنْ يَقِيسَ في كَلامِه عليها، والقولُ بالضرورَةِ عندَ البَصْرِيِّينَ تَعَيَّنَ في قَوْلِ الشاعرِ، ولم نَقِفْ على اسمِه، وهو الشاهِدُ الآتِي. (89):
بَاتَتْ فُؤَادِيَ ذَاتُ الخَالِ سَالِبَةً = فَالْعَيْشُ إِنْ حُمَّ لِي عَيْشٌ مِنَ العَجَبِ
فذَاتُ الخَالِ اسمُ بَاتَتْ، وسَالِبَةً خَبَرُه، وفيه ضميرٌ مُستتِرٌ هو فَاعِلُه يَعُودُ على ذَاتِ الخَالِ، وفُؤَادِيَ مَفعولٌ به مُقَدَّمٌ على عامِلِه، وهو قولُه: سَالِبَةً، ولا يُمْكِنُ في هذا البيتِ أن يُوَجَّهَ بإِحْدَى التوجيهاتِ السابقَةِ، ومِثْلُه قولُ الآخَرِ:
لَئِنْ كَانَ سَلْمَى الشَّيْبُ بِالصَّدِّ مُغْرِياً = لَقَدْ هَوَّنَ السُّلْوَانَ عَنْهَا التَّحَلُّمُ
فإنَّ قولَه: الشيبُ اسمُ كانَ، ومُغْرِياً خَبَرُه، وفيه ضميرٌ مُستتِرٌ يَعُودُ على الشَّيْبِ هو فَاعِلُه، وسَلْمَى مفعولٌ به لمُغْرِياً تَقَدَّمَ على اسمِ كَانَ، ولا يَحْتَمِلُ شَيْئاً مِمَّا سَبَقَ ذِكْرُه مِن التخريجَاتِ.
لكنْ خَرَّجَ هذَيْنِ البيتَيْنِ جَمَاعةٌ مِن العلماءِ على أنَّ كَلِمَةَ (فُؤَادِيَ) فِي أوَّلِهِما و(سَلْمَى) في ثانِيهُما مُنَادًى بحرفِ نداءٍ محذوفٍ، ويَكُونُ الشاعرُ قد حَذَفَ مفعولَ (سَالِبَةً) في البيتِ الأوَّلِ، ومفعولَ (مُغْرِياً) في البيتِ الثانِي، وأصلُ الكَلامِ على هذَا: بَاتَتْ يا فُؤَادِي ذَاتُ الخَالِ سَالِبَةً إيَّاكَ، ولَئِنْ كانَ يَا سَلْمَى الشَّيْبُ مُغْرِياً إِيَّاك بالصَّدِّ. وهو تخريجٌ ظاهرُ التكَلُّفِ، وقد ذَكَرْنَاهُ في شَرْحِ الشاهدِ 89.
89 - هذا صدرُ بيتٍ مِن البسيطِ، وعَجُزُه قولُه:
فَالعَيْشُ إِنْ حُمَّ لِي عَيْشٌ مِنَ العَجَبِ=.. ..
ولم أَقِفْ لهذا البيتِ على نِسْبَةٍ إلى قائلٍ مُعَيَّنٍ، ولا عَثَرْتُ له على سَوَابِقَ أو لَوَاحِقَ تَتَّصِلُ به، وقد ذَكَرْنَاهُ في أَثْنَاءِ شَرْحِ الشاهدِ السابقِ.
اللغةُ: (ذَاتُ الخَالِ)؛ أي: صَاحِبَةُ الخَالِ، والخَالُ شامةٌ سَوْدَاءُ في البَدَنِ، وقِيلَ: نُكْتَةٌ سَوْدَاءُ فيه، وفي (التَّهْذِيبِ): بَثْرَةٌ في الوَجْهِ تَضْرِبُ إلى السوَادِ. (سَالِبَةً) اسمُ فاعلٍ مِن سَلَبَ الشيءَ - مِن بابِ نَصَرَ - إِذَا أَخَذْتَ خِلْسَةً. (حُمَّ) بالبناءِ للمجهولِ - قُدِّرَ وهُيِّئَ.
المَعْنَى: يَصِفُ أنَّ امرأةً مَوصُوفةً بالجَمَالِ قد استَوْلَت بجَمَالِها على قَلْبِه، واستَلَبَتْهُ مِنه، ثُمَّ بَيَّنَ أنَّه لنْ يَسْتَطِيعَ الحياةَ بعدَ ذَلِكَ، وأنَّه إذا بَقِيَ حيًّا كانَ ذلك مِن عَجَائِبِ الأُمُورِ.
الإعرابُ: (بَاتَتْ) بَاتَ فِعْلٌ ماضٍ ناقصٌ، والتاءُ عَلامةُ التأنيثِ (فُؤَادِيَ) مفعولٌ به لسَالِبَةٍ الآتِي، وفُؤَداِيَ مُضافٌ وياءُ المُتكلِّمِ مُضافٌ إليه. (ذَاتُ) اسمُ بَاتَ مَرفوعٌ بالضَّمَّةِ الظاهِرَةِ، وهو مُضافٌ و(الخَالِ) مُضافٌ إليه. (سَالِبَةً) خبرُ بَاتَ، (فَالعَيْشُ) الفاءُ حرفُ تَفْرِيعٍ، العَيْشُ مبتدأٌ، (إِنْ) حرفُ شرطٍ (حُمَّ) فِعْلٌ ماضٍ مَبْنِيٌّ للمَجْهُولِ فعلُ الشرطِ، (لِي) جارٌّ ومجرورٌ مُتَعَلِّقٌ بحُمَّ. (عَيْشٌ) نَائِبُ فَاعلِ حُمَّ ، (مِنَ العَجَبِ) جَارٌّ ومجرورٌ مُتَعَلِّقٌ بمحذوفٍ خَبَرُ المُبتدأِ، ويَجُوزُ أن يَكُونَ نَائِبُ فَاعِلِ حُمَّ ضَميراً مُستتِراً فيه جوازاً تقديرُه هو يَعُودُ إلى العَيْشِ، ويَكُونَ قولُه: (عَيْشٌ) خبرَ المبتدأِ، وقولُه: (مِنَ العَجَبِ) جَارًّا ومَجروراً مُتَعَلِّقاً بمحذوفٍ صِفَةٌ لعَيْشٍ، وعلى كُلِّ حالٍ فجوَابُ الشرطِ محذوفٌ يَدُلُّ عليه سِيَاقُ الكلامِ، وجُملةُ الشرطِ وجَوَابِه لا مَحَلَّ لها مِن الإعرابِ مُعترِضَةٌ بينَ المُبتدأِ وخبرِه.
الشاهدُ فيه: قولُهُ: (بَاتَتْ فُؤَادِيَ ذَاتُ الخَالِ سَالِبَةً) حيثُ وَرَدَ فيه ما ظَاهِرُه أنَّ معمولَ خبرِ الفعلِ الناسخِ قد وَلِيَ الفعلَ، أمَّا الفعلُ الناسخُ فهو قولُه: (بَاتَتْ) وأَمَّا خَبَرُه فهو قولُه: (سَالِبَةً)، وأمَّا معمولُ الخبرِ فهو قولُه: (فُؤَادِيَ) فقد عَرَفْتَ في إعرابِ البيتِ أنَّه مفعولٌ به لسالبةٍ، وقد وَقَعَ المفعولُ بعدَ الفِعْلِ الناسِخِ كما تَرَى.
وبهذا البيتِ ونحوِه استَدَلَّ الكُوفِيُّونَ على أنَّهُ يَجُوزُ أن يَقَعَ معمولُ خبرِ الفعلِ الناسِخِ بعدَه، ولا يَتَأَتَّى في هذا البيتِ الرَّدُّ عليهِم بما ذَكَرَه الناظِمُ - وذَكَرَه المُؤَلِّفُ تبَعاً له، وذَكَرْنَاه نحن في توجيهِ البيتِ السابقِ - مِن أنَّ اسمَ الفعلِ الناسِخِ ضميرُ شأنٍ مَحذوفٌ، وما بعدَه جُملةٌ مِن مبتدأٍ وخبرٍ في مَحَلِّ نصبٍ خَبَرُ الفِعْلِ الناسخِ، وإنَّمَا امتَنَعَ ذلك - كما قَالَ المُؤلِّفُ - لظُهورِ نَصْبِ الخبرِ الذي هو سَالِبَةٌ، فإمَّا أن يَكُونَ ما ذَهَبَ إليه الكُوفِيُّونَ صَحِيحاً، وإمَّا أن يَكُونَ هذا البيتُ ضَرورةً، وقد اختَارَ جُمهورُ العلماءِ المُشَايِعِينَ للبَصْرِيِّينَ الثَّانِيَ، وهو أنَّ البيتَ ضرورةٌ.
ولكنَّ بعضَ المُتأخِّرِينَ قد ذَكَرَ في هذا البيتِ تأويلاً يَفْسُدُ به استدلالُ الكُوفِيِّينَ وحَاصِلُه أنَّ قولَ الشاعرِ: (فُؤَادِيَ) ليسَ مَفْعُولاً به لِسَالِبَةٍ على ما يَتَوَهَّمُ الكُوفِيُّونَ، ولكنَّه مُنَادًى بحَرْفِ نِدَاءٍ محذوفٍ، ومَعمُولُ الخبرِ محذوفٌ أيضاً، وتقديرُ الكلامِ: بَاتَتْ يَا فُؤَادِي ذَاتُ الخَالِ سَالِبَةً إِيَّاكَ، وفيه تَكَلُّفٌ ظَاهرٌ كما قُلْنَاهُ في شَرْحِ الشاهدِ 88.
ومِثْلُ ما ذَكَرْنَاهُ في هذا البيتِ مِن الاستشهادِ والتأويلِ يَجْرِي في قَوْلِ الآخَرِ:
لَئِنْ كَانَ سَلْمَى الشَّيْبُ بِالصَّدِّ مُغْرِياً = لَقَدْ هَوَّنَ السُّلْوَانَ عَنْهَا التَّحَلُّمُ
تقديرُه عند الكُوفِيِّينَ: لَئِنْ كَانَ الشَّيْبُ مُغْرِياً سَلْمَى بِالصَّدِّ، وعندَ المُؤَوِّلِينَ: لَئِنْ كَانَ يَا سَلْمَى الشَّيْبُ مُغْرِياً بِالصَّدِّ، وقد ذَكَرْنَا ذلك فيما مَضَى أيضاً.