هذا بابُ أسماءِ الإشارةِ
والمُشارُ إليهِ إِمَّا واحدٌ، أو اثنانِ، أو جَمَاعَةٌ، وكلُّ واحدٍ مِنْها إِمَّا مُذَكَّرٌ، وإِمَّا مُؤَنَّثٌ، فللمُفْرَدِ المُذَكَّرِ (ذا) ([1])، وللمُفْرَدِ المُؤَنَّثِ عَشَرَةٌ، وهي: ذِي، وتِي، وذِهِ، وتِهِ، وذِهْ، وتِهْ، وذِهْ، وتِه، وذات، وتا، وللمُثَنَّى ذَانِ، وتَانِ رَفْعاً، وذيْنِ وتَيْنِ جَرًّا ونَصْباً، ونحوُ: {إِنْ هَذَانِ لَسَاحِرَانِ} ([2]) مُؤَوَّلٌ، ولِجَمْعِهما: (أُولاءِ) مَمْدوداً عندَ الحِجازِيِّينَ، ومَقْصورًا عندَ تَمِيمٍ، ويَقِلُّ مَجيئِهِ لغيرِ العُقَلاءِ؛ كقولِه: 42 - والعَيْشُ بعدَ أُولَئِكَ الأَيَّامِ فصلٌ: وإذا كانَ المُشارُ إليهِ بعيداً, لَحِقَتْهُ كافٌ حَرْفِيَّةٌ, تَتصَرَّفُ تَصَرُّفَ الكافِ الاسميَّةِ غَالِباً، ومن غيرِ الغالبِ: {ذَلِكَ خَيْرٌ لَكُمْ} ([3])، ولكَ أنْ تَزِيدَ قبلَها لاماً ([4])، إلاَّ في التثنيةِ مُطْلقاً، وفي الجمعِ في لُغَةِ مَن مَدَّهُ ([5])، وفيما سَبَقَتْهُ (ها)، وبنو تَمِيمٍ لا يَأْتونَ باللامِ مُطْلقاً.
فصلٌ: ويُشارُ إلى المَكانِ القريبِ ([6]) بـ(هُنَا) أو (هَاهُنَا)، نحوَ: {إِنَّا هَاهُنَا قَاعِدُونَ} ([7])، وللبعيدِ بـ(هُناكَ) أو (هَاهُنَاكَ) أو (هُنَالِكَ) أو (هَنَّا) أو (هِنَّا) أو (هنت) أو (ثَمَّ)، نحوَ: {وَأَزْلَفْنَا ثَمَّ الآخَرِينَ} ([8]).
([1]) ويُضَافُ إلى (ذا) في الإشارةِ للمُفْرَدِ المُذَكَّرِ ثَلاثةُ ألفاظٍ أُخْرَى، وهي (ذَاءِ) بهمزةٍ مكسورةٍ بعدَ الألفِ، و(ذَائِهِ) بزيادةِ هاءٍ مكسورةٍ، و(ذَاؤُهُ) بضَمِّ الهمزةِ والهاءِ، وقد جَاءَ قولُ الراجزِ:
هَذَاؤُهُ الدَّفْتَرُ خَيْرُ دَفْتَرِ = فِي كَفِّ قَرْمٍ مَاجِدٍ مُصَوَّرِ
بكسرِ الهاءِ وبضَمِّها، فهو شاهدٌ على اللغتَيْنِ الأخيرتَيْنِ.
([2]) سورة طه، الآية: 63، وقد أَطَالَ المُؤَلِّفُ في (شَرْحِ الشُّذُورِ) في تخريجِ هذه الآيةِ، وممَّا أُوِّلَت به أَنَّ (إِنْ) بمَعْنَى نَعَمْ وهذانِ مبتدأٌ، وممَّا أُوِّلَت به أَنَّ (إنْ) مُؤَكِّدَةٌ، واسمُها ضميرُ شأنٍ محذوفٌ، وهذانِ مبتدأٌ، ولسَاحِرَانِ خبرُ المبتدأِ، والمبتدأُ وخبرُه جملةٌ في مَحَلِّ رفعٍ خَبَرُ إِنَّ، ولن تَجِدَ كلاماً مُفَصَّلاً مثلَ ما تَجِدُه فيه، فارْجِعْ إليه (ص48 بتحقِيقِنَا).
42 – هذا عَجُزُ بيتٍ مِن الكاملِ, وصَدْرُه قولُه: ذُمَّ المَنَازِلَ بعدَ مَنْزِلَةِ اللِّوَى
وهذا بيتٌ مِن قصيدةٍ لجَرِيرِ بنِ عَطِيَّةَ بنِ الخَطَفِيِّ يَهْجُو فيها الفَرَزْدَقَ، وقبلَه -وهو مَطْلَعُ القصيدةِ- قولُه:
سَرَتِ الهُمُومُ فَبِتْنَ غَيْرَ نِيَامِ = وَأَخُو الهُمُومِ يَرُومُ كُلَّ مَرَامِ
اللغَةُ: (مَرَامِ) يَحْتَمِلُ هذا اللفظُ أن يكونَ مصدراً ميميًّا مِن قولِهم: رَامَ الشيءَ يَرُومُه رَوْماً ومَرَاماً، ويَحْتَمِلُ أن يَكُونَ اسمَ مكانٍ أو اسمَ زمانٍ مِن هذا الفِعْلِ أيضاً، والميمُ زائدةٌ على كُلِّ حالٍ، ووَزْنُه مَفْعَلٌ مثلُ مَفْتَحٍ ومَدْخَلٍ، وفيه إعلالٌ بالنقلِ والقلبِ. (المَنَازِلَ) جمعُ منزلٍ أو منزلةٍ، وكونُه هنا جمعَ منزلةٍ أَوْلَى؛ لقولِه فيما بعدُ: (مَنْزِلَةِ اللِّوَى)، والمنزلُ والمنزلةُ مكانُ النزولِ. (اللِّوَى) بكسرِ اللامِ وفتحِ الواوِ مقصوراً - هو في الأصلِ مُنْقَطَعُ الرَّمْلَةِ، وهو هنا اسمُ مكانٍ بعَيْنِه، وقد أَكْثَرَتِ الشعراءُ مِن ذِكْرِه، وهو وَادٍ مِن أوديةِ بَنِي سُلَيْمٍ، ويومُ اللِّوَى: مَوْقِعَةٌ كانَت فيه، وكانَ الظَّفَرُ فيها لبَنِي ثَعْلَبَةَ على بَنِي يَرْبُوعٍ.
الإعرابُ: (ذُمَّ) فعلُ أمرٍ مبنيٌّ على السكونِ لا مَحَلَّ له مِن الإعرابِ، ويَجُوزُ تحريكُه بالحركَاتِ الثلاثِ، فإن حَرَّكْتَهُ بالفتحِ فإنَّكَ تقُولُ: وحُرِّكَ بالفتحِ طلباً للتخفيفِ، وإن حَرَّكْتَه بالضَّمِّ فإنَّكَ تقُولُ: وحُرِّكَ بالضمِّ لاتِّبَاعِ آخِرِه أوَّلَه، وإن حَرَّكْتَه بالكسرِ فإنَّكَ تقُولُ: وحُرِّكَ بالكسرِ على ما هو الأصلُ في التخَلُّصِ مِن التقاءِ الساكنَيْنِ، وفاعِلُه ضميرٌ مستترٌ فيه وجوباً تقديرُه أنت. (المَنَازِلَ) مفعولٌ به لذُمَّ منصوبٌ بالفتحةِ الظاهرةِ. (بَعْدَ) ظرفٌ مُتَعَلِّقٌ بذُمَّ، أو مُتَعَلِّقٌ بمحذوفٍ حالٍ مِن المنازلِ، وبعدَ مضافٌ، و(منزلةِ) مضافٌ إليه مجرورٌ بالكسرةِ الظاهرةِ، ومنزلةِ مضافٌ، و(اللِّوَى) مضافٌ إليه مجرورٌ بكسرةٍ مُقَدَّرَةٍ على الألفِ مَنَعَ مِن ظهورِها التعَذُّرُ. (والعَيْشُ) الواوُ حرفُ عطفٍ، العيشُ معطوفٌ على المنازلِ، والمعطوفُ على المنصوبِ منصوبٌ، وعلامةُ نصبِه الفتحةُ الظاهرةُ، (بعدَ) ظَرْفٌ مُتعلِّقٌ بذُمَّ، أو مُتعلِّقٌ بمَحذوفٍ حالٍ مِن العَيْشِ، وبعدَ مضافٌ واسمُ الإشارةِ في (أُولئكَ) مضافٌ إليه مبنيٌّ على الكسرِ في مَحَلِّ جرٍّ، والكافُ حرفُ خطابٍ. (الأيَّامِ) بدلٌ أو عطفُ بيانٍ أو نعتٌ لاسمِ الإشارةِ، وبدلُ المجرورِ مجرورٌ، وعلامةُ جرِّه الكسرةُ الظاهرةُ.
الشاهدُ فيه: قولهُ: (أُولَئِكَ الأيَّامِ) حيثُ أَشَارَ بأُولاءِ إلى الأيَّامِ، والأيَّامُ جمعُ يومٍ، وهو مِن غيرِ العُقَلاءِ، وفي ذلك دليلٌ على جوازِ الإشارةِ بأولاءِ إلى جمعِ غيرِ العاقلِ، ومثلُه قولُه تعَالَى: {إِنَّ السَّمْعَ وَالبَصَرَ وَالفُؤَادَ كُلُّ أُولَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْؤُولاً}. وقد قالَ ابنُ هِشَامٍ: (ويُرْوَى: الأقوَامِ بدلَ الأيَّامِ، فلا شَاهِدَ فيه. وزَعَمَ ابنُ عَطِيَّةَ أنَّ هذه الروايةَ هي الصوابُ، وأنَّ الطَّبَرِيَّ غَلَطَ إذْ أَنْشَدَه: الأيَّامِ، وأنَّ الزجَّاجَ اتَّبَعَه في هذا الغَلَطِ). اهـ كلامُه.
قالَ أبُو رَجَاءٍ، غَفَرَ اللَّهُ له ولوالدَيْهِ: وروايةُ (النقَائِضِ) لمُحَمَّدِ بنِ حَبِيبٍ: (الأقوَامِ) كما ذَكَرَهُ ابنُ عَطِيَّةَ.
([3]) سورة المجادلة، الآية: 12، ووَجْهُ الدَّلالةُ مِن هذه الآيةِ أنَّ الخطابَ لجمعِ الذكورِ بدليلِ قولِه سُبْحَانَه: {لَكُمْ}، وقد اقتَصَرَ في اسمِ الإشارةِ على كافِ الخطابِ مَفْتُوحةً مِن غيرِ أن يَضُمَّ إليها ميمَ الجمعِ، ودونَ هذه اللغةِ لُغَةٌ ثالثةٌ؛ وهي [أن] تَلْحَقَ اسمَ الإشارةِ كافٌ مفتوحةٌ في جميعِ الأحوالِ، ومِن شواهدِ الاكتفاءِ بالكافِ معَ غيرِ الواحدِ المُذَكَّرِ قولُ الشاعرِ -ولو أنَّه في غيرِ اسمِ الإشارةِ-:
وَلَسْتُ بِسَائِلٍ جَارَاتِ بَيْتِي = أَغُيَّابٌ رِجَالُكِ أَمْ شُهُودُ؟
([4]) قالُوا في المُفْرَدِ المُذَكَّرِ (ذلك)، وفي المُفردةِ المُؤَنَّثَةِ: (تِلْكَ) كما قالُوا: (تَالِكَ) بزيادةِ لامٍ وكافٍ على اسمِ الإشارةِ الموضوعِ لكُلٍّ مِنهما، وشواهدُ الأوَّلِ والثانِي كثيرةٌ، قالَ اللَّهُ تعالَى: {ذَلِكَ الكِتَابُ لاَ رَيْبَ فِيهِ}، وقالَ سُبْحَانَهُ: {تِلْكَ آيَاتُ الكِتَابِ الحَكِيمِ}، ومِن شواهدِ اللفظِ الثالثِ قولُ القَطَّامِيِّ:
تَعَلَّمْ أَنَّ بَعْدَ الغَيِّ رُشْداً = وَأَنَّ لِتَالِكَ الغُمَرِ انْقِشَاعَا
وأصلُ لامِ البُعْدِ هذه أنْ تكُونَ سَاكنةً، فلَمَّا قالُوا: (ذَلْكَ) التَقَى ساكنانِ؛ الألفُ في اسمِ الإشارةِ، واللامُ، فكَسَرُوا اللامَ للتخَلُّصِ مِن التقاءِ الساكنَيْنِ، وكانَت الحركةُ هي الكسرةُ؛ لأنَّها الأصلُ في التخَلُّصِ مِن التقاءِ الساكنَيْنِ، ولمَّا قالُوا: (تِيلْكَ)، اجتَمَعَ الساكنَانِ، فحَذَفُوا الياءَ للتخَلُّصِ مِنهما، ولأنَّ الكسرَةَ التي قبلَها تَدُلُّ عليها.
([5]) احتَرَزَ بهذه العبارةِ عَمَّن لُغَتُهم قصرُ (أولاءِ)، فإنَّ مِنهم مَن يَأْتِي باللامِ، وهؤلاءِ هُم قَيْسٌ، ورَبِيعَةُ، وأَسَدٌ، ومِن شواهدِ ذلك قولُ شاعِرِهم:
أُولاَلِكَ قَوْمِي لَمْ يَكُونُوا أُشَابَةً = وَهَلْ يَعِظُ الضِّلِّيلَ إِلاَّ أُولاَلِكَا
وإنَّما قُلْنَا: (إِنَّ مِنهُم مَن يَأْتِي باللامِ)؛ لأنَّ بَنِي تَمِيمٍ مِمَّن لُغَتُهم القَصْرُ، وهم لا يَأْتُونَ باللامِ مُطلقاً، كما قالَ المؤلِّفُ. والأُشَابَةُ - بضَمِّ الهمزةِ - الأخلاطُ مِن الناسِ، يُرِيدُ أنَّ قَوْمَه مِن أبٍ واحدٍ.
([6]) لا تَظُنَّ أنَّه لا يُشَارُ إلى المكانِ إلا بهذهِ الألفاظِ، فإنَّ ذلك ليسَ مُرَاداً، وإنَّما المُرادُ أنَّ هذه الألفاظَ لا يُشَارُ بها إلاَّ إلى المكانِ، في حينِ إنَّ الألفاظَ التي سَبَقَ تَعْدَادُها يُشَارُ بها إلى المكانِ وإلى غيرِ المكانِ، تقُولُ: هذا المكَانُ طَيِّبُ الهواءِ، وهذه الأمكنةُ فسيحةُ الأرجاءِ.
([7]) سورة المائدة، الآية: 24.
([8]) سورة الشعراء، الآية: 64.