الحسنُ لغيرِه
لمَّا فرغَ
الحافظُ مِن ذكرِ الخبرِ المردودِ وأقسامِه عادَ إلى ذكرِ أحدِ أقسامِ الخبرِ المَقْبُولِ، وهو الحسنُ لغيرِه، وأخَّرَه عن الخبرِ المردودِ؛ لأنَّ أصلَه كذلكَ، وإنما تَقَوَّى وارتفعَ بطرقٍ أخرى.
ما ذَكَرَه الحافظُ في الحَسَنِ لغيرِه يتلخَّصُ في النقاطِ الآتيةِ:
1-ذكرَ صورًا مِن صورِ الضعيفِ المردودِ التي تصلحُ للاعْتِضَادِ، وترتفعُ مِن الردِّ إلى القبولِ، فمِن الصورِ التي ذكرَها:
-سيئُ الحفظِ، فالراوي إذا كانَ سيئَ الحفظِ وحَصُلَتْ له متابعةٌ مِن مثلِه أو ممَّن فوقَه ارتفعَ حديثُه عن الضعفِ.
-إذا روى عن المُخْتَلِطِ مَن لا يتميَّزُ هل رُوي عنه قبلَ الاختلاطِ أو بعدَه.
-الْمُدَلِّسُ إذا لم يُعرف الساقطُ.
-المُرْسَلُ كذلكَ.
-حديثُ الراوي مجهولُ الحالِ.
فهذه خمسُ صورٍ ذكرَها الحافظُ من صورِ الحديثِ الضعيفِ الذي إذا حَصلَ لها عاضدٌ ارتقت إلى القبولِ وَسُمِّيَ الحديثُ حَسَنًا لغيرِه، والذي يظهرُ أنَّ هذه الصورُ على سبيلِ التمثيلِ، فلو وُجِدَ مِن أقسامِ المردودِ السابقةِ ما ليسَ ضعفُه شديدًا صَلُحَ للاعتضادِ والارتفاعِ إلى درجةِ القبولِ0
فالضابطُ فيما يصلحُ لاعتضادِ؛ ألا يكونَ الضعفُ شديدًا؛ فإذا كانَ الضعفُ شديدًا فلا يصلحُ للاعتضادِ، مثلُ: حديثِ الراوي إذا كانَ كَذَّابًا، أو مُتَّهَمًا بالكذبِ، أو فاسقًا، أو فاحشَ الغلطِ، فهؤلاءِ لا يصلحُ حديثُهم للاعتضادِ.
لكن يُنتبَهُ إلى شيءٍ مُهِّمٍّ: حينَ يقالُ: إنَّ كل ما كانَ ضعفُه غيرَ شديدٍ فهو صالحٌ للاعتضادِ، فقدْ يَأْخُذُ بعضُ الباحثينَ هذه القضيَّةَ على ظاهرِها، وهي أنَّ الحديثَ إذا كانَ ضعفُه غيرَ شديدٍ، وجاءَ مِن طريقٍ آخرَ ارتفعَ إلى الحسنِ لغيرِه أو للمقبولِ مُطْلَقًا، وما ذكرَه الحافظُ هنا ليسَ على إطلاقِه بحيثُ لا يخرجُ عنه ولا يزادُ عليه، وقد مرَّ أنَّ هذه الصورَ قد يُزادُ عليها ممَّا يكونُ ضعفُه غيرَ شديدٍ، فكذلكَ هذه الصورُ - التي ذكرَها الحافظُ - وغيرُها قد لا تصلحُ للاعتضادِ والاعتبارِ.
- فسيئُ الحفظِ إذا وقعتْ روايتُه مُخَالِفَةً لروايةِ الثقاتِ فاجتمعَ في روايتِه عِلَّتَانِ:
-ضعفُه.
-ومخالفتُه للثقاتِ.
وكأنْ يقعَ في الإسنادِ ضعفٌ مِن جهةِ راويه:
-بأنْ يكونَ سيِّئَ الحفظِ.
-وفيه راوٍ مجهولُ الحالِ.
-وفيه تدليسٌ.
فهذه ثلاثُ عِلَلٍ، وعلى إطلاقِ كلامِ الحافظِ فإنَّ مثلَ هذا يرتفعُ عن الضعفِ، ولكنْ نقولُ: إنَّه لا يُعقلُ أنْ يقالَ: إنَّ ضعفَ الإسنادِ غيرُ شديدٍ، بل اجتمعتْ فيه عللٌ ألْحَقَتْهُ بالضعفِ الشديدِ، وإنْ لم يكنْ فيه كذَّابٌ، ولا مُتَّهَمٌ بالكذبِ، ولا فاحشُ الغلطِ.
قد يكونُ المستورُ في طبقةٍ متأخِّرَةٍ، وفي إسنادٍ نظيفٍ جدًّا، وتفرَّدَ تفرُّدًا شديدًا، فنقولُ عن حديثِه: إنَّ ضعفَه شديدٌ لا يصلحُ للاعتضادِ، فكلامُ الحافظِ قد يُزَادُ عليه وقد يُنْقَصُ منه، والضابطُ أنَّ الضعفَ غيرَ الشديدِ مردُّه إلى نظرِ المجتهدِ والباحثِ.
2-في مسألةِ الاعتضادِ معنا إسنادٌ نريدُ أنْ نُعَضِّدَهُ وإسنادٌ آخرُ نريدُ أنْ نُعَضِّدَ به،
فعلى الباحثِ أنْ يراعيَ في الإسنادِ الجديدِ الذي يريدُ أنْ يُعَضِّدَ به، ما مرَّ في الإسنادِ الذي يريدُ أنْ يُعَضِّدَهُ، فيتوافرُ معنا شيئانِ:
أحدُهما:
أنَّ الإسنادَ الذي نريدُ أنْ نُعَضِّدَه صالحٌ لذلكَ.
الثاني:
أنَّ الإسنادَ الذي نريدُ أنَّ نُعَضِّدَ به صالحٌ أيضًا، وتوافرُ هذينِ الشيئينِ مهمٌّ جدًّا في رفعِ الحديثِ مِن الضعفِ إلى القبولِ.
هذه كلماتٌ مُجْمَلَةٌ تحتَها تفاصيلُ، والغرضُ منها التنبيهُ إلى شيءٍ يقعُ فيه بعضُ الباحثينَ وهو أخذُ الأمورِ على ظاهرِها، فبمجرَّدِ أنْ يقفَ على إسنادينِ فيهما ما ذكرَه الحافظُ يرتفعُ عندَه الحديثُ إلى الحسنِ لغيرِه أو إلى القبولِ، دونَ النظرِ إلى العاضدِ، وإلى الإسنادِ الذي أُريدَ أنْ يُبحثَ له عن عاضدٍ، معَ أنَّ هناك أمورًا تُرَاعى في روايةِ الثقاتِ، فقد مرَّ بنا أنَّ الأئمَّةَ يستنكرونَ مِن رواياتِ الثقاتِ أشياءَ يتفردونَ بها، ومن رواياتِ مَن هو في درجةِ الصَّدُوقِ.
هذه الأمورُ قد يغفلُ عنها في رفعِ الحديثِ مِن الضعيفِ إلى الحسنِ لغيرِه.
شدُّ الإسنادِ بغيرِه أمرٌ معروفٌ،تَكَلَّمَ فيه الشافعيُّ في الحديثِ المُرْسَلِ، وابنُ عُيَيْنَةَ، وأحمدُ في بعضِ الأحاديثِ، وهذا أمرٌ معروفٌ، لكنَّ الخطرَ والخوفَ مِن المبالغةِ في هذا، ولهذا السببِِ كَثُرَتْ درجةُ الأحاديثِ التي هي بمنـزلةِ الحسنِ لغيرِه معَ أنَّها عندَ المتقدِّمين في درجةِ الضعيفِ؛ فكَثُرَتْ لعدمِ مراعاةِ أمورٍ دقيقةٍ تُراعى في الإسنادِ والمتنِ.
3-الحَسَنُ لغيرِه دونَ الحسنِ لذاتِه؛ لأنَّ الحديثَ في أصلِه ضعيفٌ ارتقى بعاضدٍ، إلا أنَّ ابنَ تيميَّةَ ذكرَ أنَّ هذا النوعَ مِن الحسنِ يُسَمِّيهِ الأئمَّةُ المتقدِّمُونَ الضعيفَ، وذكرَ أنَّ الحسنَ الذي بهذِه المَثَابَةِ وهو الذي حرَّرَهُ التِّرْمِذِيُّ، وهو ما يقربُ مِن كلامِ الحافظِ إنَّمَا هو اصطلاحٌ للتِّرْمِذِيِّ؛ لكن معَ تَسْمِيَتِهِم الحسنَ لغيرِه ضعيفًا فقدْ يحتجُّونَ به.
- كما عُرفَ عَن الإمامِ أحمدَ أنَّه يحتجُّ بالضعيفِ إنْ لم يكنْ ضعفُه شديدًا.
- وأيضًا الشافعيُّ في كلامِه عن المرسلِ، وهكذا في كلامِ المتأخِّرِين، فإنَّ الحسنَ لغيرِه الذي أصلُه ضعيفٌ واعْتُضِدَ هو مِن أنواعِ المقبولِ، والمقبولُ كلُّه يُحتجُّ به؛ لأنَّ معنى القبولِ أنَّنا أخذْنا بما دلَّ عليه الحديثُ.
لكن أُنَبِّهُ على شيءٍ قد يُغفَلُ عنه، وهو أنَّ الحسنَ لغيرِه أصلُه ضعيفٌ، وذكرَ ابنُ القطَّانِ كلامًا جيدًا حولَ الاحتجاجِ به، فذكرَ: أنَّ الحديثَ إذا ارتفعَ عن الضعفِ إلى الحسنِ لغيرِه يجوزُ الاحتجاجُ به في ما لا يتعلَّقُ بالأحكامِ كفضائلِ الأعمالِ والمناقبِ والترغيبِ والترهيبِ، وحنيئذٍ فإنَّه ينبغي أنْ يُتأنَّى كثيرًا في إثباتِ حُكْمٍ شرعيٍّ فيه إيجابٌ أو تحريمٌ نرفعُ به براءةَ الذمَّةِ، ويكونُ الاعتمادُ في هذا الحكمِ على حديثٍ أصلُه ضعيفٌ ارتفعَ بعاضدٍ إلى الحسنِ لغيرِه، ويبقى مثلُ هذا النوعِ مِن الأحاديثِ يُعْمَلُ به في أمورٍ مثلِ:
-الترغيبِ والترهيبِ.
-وفضائلِ الأعمالِ التي يثبتُ أصلُ فضلِيَّتِهَا.
-أو أنْ يُحْتَجَّ به مِن بابِ الاستئناسِ، بمعنى أنَّ الحُكْمَ يكونُ قد دلَّ عليه أدلَّةٌ أخرى مثلُ:
-ظاهرِ قرآنٍ.
-أو قواعدَ شرعيَّةٍ.
-أو عموماتٍ.
-أو أفعالِ صحابةٍ؛ فيكونُ الاعتمادُ عليها لا على الحسنِ لغيرِه، هذا معنى كلامِ ابنِ القطَّانِ، وقد عقَّبَ عليه ابنُ حجرٍ بقولِه: (هذا كلامٌ جيِّد مُحَرَّرٌ لا أرى مُنْصِفًا يأباهُ).
سؤالٌ:
ماذا نقولُ عن شخصٍ قالَ: ثبتَ هذا الحديثُ لديَّ - وهو حسنٌ لغيرِه - لكن لا أرى الاحتجاجَ به ولا أُرِيدُ أنْ أستدلَّ به؟
يقالُ: إنَّ مَن توقَّفَ في ذلكَ وقالَ: أُرِيدُ فيما أُطَبِّقُ مِن سننِ رسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ شيئًا قويًّا ولا أَسْتَدِّلُّ بحديثٍ قيلَ فيه: إنَّه حسنٌ لغيرِه فإنَّه لا يُنكَرُ عليه، ولهذا فإنَّ كثيرًا مِن السننِ ثبتتْ بحديثٍ حسنٍ لغيرِه ويقولُ الإمامُ: يُسنُّ كذا ولكن مَن تركَ هذه السُّنَّةَ فلا يُنْكَرُ عليه، ومَنْ فَعَلَهَا فَكَذَلِكَ لا يُنْكَرُ عليه.
وكثيرٌ مِن مسائلِ الخلافِ الدقيقةِ التي يُتنازَعُ فيها هي مِن هذا القبيلِ.