1: آيات الربا، بأسلوب التقرير العلمي.
{الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبَا لَا يَقُومُونَ إِلَّا كَمَا يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطَانُ مِنَ الْمَسِّ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا إِنَّمَا الْبَيْعُ مِثْلُ الرِّبَا وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا فَمَنْ جَاءَهُ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّهِ فَانْتَهَى فَلَهُ مَا سَلَفَ وَأَمْرُهُ إِلَى اللَّهِ وَمَنْ عَادَ فَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (275) يَمْحَقُ اللَّهُ الرِّبَا وَيُرْبِي الصَّدَقَاتِ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ كُلَّ كَفَّارٍ أَثِيمٍ (276) إِنَّ الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآَتَوُا الزَّكَاةَ لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ (277) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبَا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (278) فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَإِنْ تُبْتُمْ فَلَكُمْ رُءُوسُ أَمْوَالِكُمْ لَا تَظْلِمُونَ وَلَا تُظْلَمُونَ (279)}
بسم الله, والصلاة والسلام على رسول الله..
الحمدلله المشرع لعباده ما يصلح به حالهم, العادل فلا ينهاهم إلا عن الظلم, الرحيم فلا يأمرهم إلا بما فيه صلاح ذواتهم ومجتمعاتهم, وبعد:
فإن من أعظم الظلم الحاصل في الأموال في الجاهلية, هو التعامل بالربا, فالربا من أكثر القروض انتشارا, والتي ظاهرها الرضا والنفع, وباطنها الظلم والغصب والاسترقاق, وإن من عظمة الشريعة الإسلامية, أنها جاءت لمحو الظلم الخفي قبل الجلي, ذلك الظلم المبرر, والذي يزيد من فقر الفقير وغنى الغني, وهذا ما يتعارض مع نموذج الاقتصاد الإسلامي, الذي يدعو للموازنة والعدل في توزيع الثروات, دون نقص ولا إجحاف, وهذه الآيات البينات الواضحات جاءت صريحة في تحريم الربا, جلية في تصويره بأسوأ الصور, والتحذير من عاقبته بأشد العقاب كما سيتبين معنا بإذن الله.
أولا: من دلائل سوء الربا وعاقبته الصورة التي ظهر بها المرابي في الآيات:
يبدأ الله الآية بوصف المرابي بالرجل الجشع الذي لا يعنيه إلا ملء بطنه, وهذه حقيقة الربا, فرغم أن الربا تعاط للمال, إلا أن أول ما يصب فيه المال هو الغذاء, لذا صور الله في هذه الآية من يتعامل بالربا كمن يأكل المال مباشرة, وهذا من بلاغة التصوير, إذ هذه الصورة النهائية للمال, وهي وقوعه غالبا في البطن, فيقول :(الذين يأكلون الربا), وقد أشار إلى ذلك ابن عطية, فقال: "وقصد إلى لفظة الأكل لأنها أقوى مقاصد الإنسان في المال، ولأنها دالة على الجشع، فأقيم هذا البعض من توابع الكسب مقام الكسب كله، فاللباس والسكنى والادخار والإنفاق على العيال وغير ذلك داخل كله في الربا", ولكن التعبير بلفظ الأكل من باب التعبير عن الغالب, وتصوير مدى جشع المرابي.
ثانيا: المقصود بالربا:
لمعرفة المعنى المقصود اصطلاحا, لا بد من العودة للجذر اللغوي وفهم الرابط بينهما, فالربا لغة: النمو والزيادة. واصطلاحا: الزيادة في مال الغريم مقابل صبر الطالب عليه في الوقت. كما أشار إلى ذلك ابن عطية.
ثالثا: صوره:
ورغم أن الصورة الشهيرة له: هي زيادة مال الغريم مقابل التمديد في زمن القرض, إلا أن له صورا أخرى متعددة ذكرها ابن عطية وابن كثير, وهذه الصور منها ما هو ربا بحت, ومنها ما يفضي إلى الربا, وقد عومل كالربا, لأن ما يفضي إلى الحرام حرام, ومنها ما عومل كالربا لشبهه به -وإن بشكل جزئي-, ومنها ما اشتبه فيه فحرم خشية الوقوع في الربا, وسبب عدم وضوح صوره والإجماع عليها, هو أن آية الربا كانت من أواخر ما نزل على رسول الله, وقد مات رسول الله ولم يبين لهم فيها بيانا شافيا, وقد قال أمير المؤمنين عمر بن الخطّاب، رضي اللّه عنه: «ثلاثٌ وددت أنّ رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم عهد إلينا فيهنّ عهدًا ننتهي إليه: الجدّ، والكلالة، وأبوابٌ من أبواب الرّبا», لذلك دعا إلى ترك كل ما يدعو للريبة فيما روى ابن مردويه عن أبي سعيدٍ الخدريّ قال: خطبنا عمر بن الخطّاب، رضي اللّه عنه، فقال: «إنّي لعلّي أنهاكم عن أشياء تصلح لكم وآمركم بأشياء لا تصلح لكم، وإنّ من آخر القرآن نزولًا آية الرّبا، وإنّه قد مات رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم ولم يبيّنه لنا، فدعوا ما يريبكم إلى ما لا يريبكم», لا سيما إذا علمت أن أبوابه كثيرة كما روى ابن ماجه عن عبد اللّه -هو ابن مسعودٍ -عن النّبيّ صلّى اللّه عليه وسلّم قال: «الرّبا ثلاثةٌ وسبعون بابًا», فهذا مما يبين لك كثرة صوره, ويدعوك للحذر من الوقوع في إحداها, وسنذكر بعضها على سبيل التمثيل, فمنها:
- التفاضل في النوع الواحد.
- بيع الثمرة قبل بدو صلاحها.
- البيع ساعة النداء يوم الجمعة.
- أن ينكح الرجل أمه, كما روى ابن ماجه عن أبي هريرة قال: قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم: «الرّبا سبعون حوبًا، أيسرها أن ينكح الرّجل أمّه». ذكره ابن كثير.
- المخابرة, وهي: المزارعة ببعض ما يخرج من الأرض. قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم: «من لم يذر المخابرة، فليأذن بحربٍ من اللّه ورسوله». ورواه الحاكم في مستدركه، من حديث ابن خثيمٍ، وقال: صحيحٌ على شرط مسلمٍ، ولم يخرّجه, كما ذكر ذلك ابن كثير.
- المزابنة, وهي: اشتراء الرّطب في رؤوس النّخل بالتّمر على وجه الأرض.
- المحاقلة, وهي: اشتراء الحبّ في سنبله في الحقل بالحبّ على وجه الأرض.
-وقد حرم الفقهاء كل ما لا يعلم التساوي بينه قبل جفافه, فالجهل بالمماثلة كحقيقة المفاضلة, وقد حرّموا أشياء بما فهموا من تضييق المسالك المفضية إلى الرّبا، والوسائل الموصّلة إليه.
رابعا: تصوير حال المرابي في الآية والمراد به:
فإن الله صور المرابي بصورة شنيعة هي في قوله :(لا يقومون إلا كما يقوم الذي يتخبطه الشيطان من المس), والمس: هو الجنون. كما ذكر ذلك الزجاج وابن عطية وابن كثير, لكن اختلف المفسرون في المراد بالآية هل هي تمثيل لحاله في الدنيا, أم أن هذا جزاؤه يوم الحساب على أقوال:
- قال ابن عباس رضي الله عنه ومجاهد وابن جبير وقتادة والربيع والضحاك والسدي وابن زيد وعوف ومقاتل: أن المراد بذلك من قبورهم في البعث يوم القيامة.
- وقال بعضهم: يجعل معه شيطان يخنقه.
- وقالوا كلهم: يبعث كالمجنون عقوبة له وتمقيتا عند جمع المحشر.
وهذه الأقوال ذكرها ابن عطية وابن كثير, وهي تصوير لحاله يوم القيامة, ومما يقويها قراءة عبد الله بن مسعود «لا يقومون يوم القيامة إلا كما يقوم».
- المعنى الآخر: أنها تشبيه لحال القائم بحرص وجشع إلى تجارة الربا بقيام المجنون، لأن الطمع والرغبة تستفزه حتى تضطرب أعضاؤه، وهذا كما تقول لمسرع في مشيه، مخلط في هيئة حركاته، إما من فزع أو غيره، قد جن هذا، وقد شبه الأعشى ناقته في نشاطها بالجنون في قوله:
وتصبح من غبّ السّرى وكأنّما ....... ألم بها من طائف الجنّ أولق
لكن ما جاءت به قراءة ابن مسعود وتظاهرت به أقوال المفسرين يضعف هذا التأويل, كما ذكر ذلك ابن عطية, وقد رجح القول الأول كذلك الزجاج, وابن كثير.
خامسا: ما ورد من الأحاديث في ذم الربا:
اعلم أن الربا من الأعمال التي ورد ذمها في الوحيين, فقد ورد بالإضافة لآيات تحريم الربا وذمه أحاديث كثر في ذلك, منها:
- حديث أبي سعيدٍ في الإسراء، كما هو مذكورٌ في سورة سبحان: أنّه، عليه السّلام مرّ ليلتئذٍ بقومٍ لهم أجوافٌ مثل البيوت، فسأل عنهم، فقيل: هؤلاء أكلة الرّبا. رواه البيهقيّ مطوّلًا, وذكره ابن كثير.
- ما رواه ابن ماجه عن أبي هريرة قال: قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم: «أتيت ليلة أسري بي على قومٍ بطونهم كالبيوت، فيها الحيّات ترى من خارج بطونهم. فقلت: من هؤلاء يا جبريل؟ قال: هؤلاء أكلة الرّبا».ورواه الإمام أحمد، عن حسنٍ وعفّان، وفي إسناده ضعفٌ كما ذكر ذلك ابن كثير.
- ما رواه البخاريّ، عن سمرة بن جندبٍ في حديث المنام الطّويل: «فأتينا على نهرٍ-حسبت أنّه كان يقول: أحمر مثل الدّم -وإذا في النّهر رجلٌ سابحٌ يسبح، وإذا على شطّ النّهر رجلٌ قد جمع عنده حجارةً كثيرةً، وإذا ذلك السّابح يسبح، ما يسبح ثمّ يأتي ذلك الّذي قد جمع الحجارة عنده فيفغر له فاه فيلقمه حجرًا» وذكر في تفسيره: أنّه آكل الرّبا. ذكره ابن كثير.
- حديث عليٍّ وابن مسعودٍ وغيرهما، عنه صلّى اللّه عليه وسلّم: «لعن اللّه آكل الرّبا وموكله، وشاهديه وكاتبه». ذكره ابن كثير.
سادسا: قاعدة: ما يفضي إلى الحرام, فهو حرام:
هذه الآية التي دعت إلى تحريم الربا وكل الوسائل المفضية إليه, هي كذلك مشرعة لقاعدة فقهية مهمة, هي: تحريم الوسائل المفضية إلى الحرام.
فقد أخرج الجماعة سوى التّرمذيّ، من طرقٍ،وهكذا لفظ رواية البخاريّ، عن عائشة قالت: «لمّا نزلت الآيات من آخر سورة البقرة في الرّبا قرأها رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم على النّاس، ثمّ حرّم التّجارة في الخمر». ذكره ابن كثير.
قال بعض من تكلّم على هذا الحديث من الأئمّة: لمّا حرّم الرّبا ووسائله حرّم الخمر وما يفضي إليه من تجارةٍ ونحو ذلك، كما قال، عليه السّلام في الحديث المتّفق عليه: «لعن اللّه اليهود، حرّمت عليهم الشّحوم فجمّلوها فباعوها وأكلوا أثمانها». ذكره ابن كثير.
فمن هذه القاعدة ينطلق الفقهاء إلى تحريم كل موصل لمحرم, وذلك حسبما تقتضيه الحاجة, وكما يقرره أصحاب كل زمن وعصر, وهي قاعدة فقهية مهمة, يبنى عليها الكثير من الأمور, ويجتنب معها الكثير من ما في ظاهره يبدو من المباحات.
سابعا: مرجع الضمير في قوله :(ذلك بأنهم قالوا إنما البيع مثل الربا), ومعنى الآية:
يعود الضمير في الآية على الكفار, كما ذكر ذلك ابن عطية وابن كثير, ومعنى الآية كما أورده ابن كثير: أنهم إنّما جوزوا بذلك لاعتراضهم على أحكام اللّه في شرعه، وليس هذا قياسًا منهم للرّبا على البيع؛ لأنّ المشركين لا يعترفون بمشروعيّة أصل البيع الّذي شرعه اللّه في القرآن، ولو كان هذا من باب القياس لقالوا: إنّما الرّبا مثل البيع، وإنّما قالوا: {إنّما البيع مثل الرّبا} أي: هو نظيره، فلم حرّم هذا وأبيح هذا؟ وهذا اعتراضٌ منهم على الشّرع، أي: هذا مثل هذا، وقد أحلّ هذا وحرّم هذا!
وقوله تعالى: {وأحلّ اللّه البيع وحرّم الرّبا} يحتمل أن يكون من تمام الكلام ردًّا عليهم، أي: قالوا: ما قالوه من الاعتراض، مع علمهم بتفريق اللّه بين هذا وهذا حكمًا، وهو الحكيم العليم الّذي لا معقّب لحكمه، ولا يسأل عمّا يفعل وهم يسألون، وهو العالم بحقائق الأمور ومصالحها.
ثامنا: مسألة: هل قوله تعالى :(أحل الله البيع) تدخل تحت المجمل أم العام؟
القول الأول: أنه من عموم القرآن، لأن العرب كانت تقدر على إنفاذه، لأن الأخذ والإعطاء عندها بيع، وكل ما عارض العموم فهو تخصيص منه. ذكره ابن عطية ورجحه.
القول الثاني: أنه من مجمل القرآن الذي فسر بالمحلل من البيع وبالمحرم. ذكره ابن عطية ولم يرجحه.
تاسعا: أسباب تحريم الربا:
إن الربا من صور الظلم التي تتضح للمرء حال تحليلها وتفصيلها, ولعل من أكبر أسباب تحريمه أنه أحد صور الظلم الذي حرمه الله جملة وتفصيلا, كما روي في الحديث القدسي أنه حرمه على نفسه سبحانه, لكن هذا لا يمنع من أن هنالك أسبابا أخرى ذكرها العلماء في أسباب تحريمه, منها:
- أنه حرم ليتقارض الناس, إذ مع الربا سيفتح باب الجشع ولن يقبل أحد أن يقرض أخاه إلا بزيادة, قاله جعفر بن محمد الصادق وذكره ابن عطية.
- أنه متلفة للأموال مهلكة للناس. قاله بعض العلماء وذكره ابن عطية.
تاسعا: تحريم الربا لا يستلزم إعادة الغريم المال لصاحبه:
من رحمة الله على عباده -وذلك لانتشار التعامل بالربا, وصعوبة إعادة الأموال لأهلها, لا سيما وأن ذلك كان القانون المتبع آنذاك-, فإن الله لم يستوجب على المرابي أن يعيد للمدين ما ربا من ماله مما فات قبل التحريم, فقد عفا عما سلف سبحانه كما ورد في قوله :(فمن جاءه موعظة من ربه فانتهى فله ما سلف) أي: من الربا لا تِباعَة عليه منه في الدنيا ولا في الآخرة كما قاله السدي وغيره وذكره ابن عطية, وكما قال النّبيّ صلّى اللّه عليه وسلّم يوم فتح مكّة: «وكلّ ربًا في الجاهليّة موضوعٌ تحت قدمي هاتين، وأوّل ربًا أضع ربا العبّاس» ولم يأمرهم بردّ الزّيادات المأخوذة في حال الجاهليّة، بل عفا عما سلف, كما ذكر ذلك ابن كثير.
عاشرا: عودة الضمير في قوله تعالى: {وأمره إلى اللّه}:
قيل في ذلك أربع تأويلات ذكرها ابن عطية:
الأول: أن الضمير عائد على الربا بمعنى: وأمر الربا إلى الله في إمرار تحريمه أو غير ذلك.
والثاني: أن يكون الضمير عائدا على ما سلف. أي أمره إلى الله في العفو عنه وإسقاط التبعية فيه.
والثالث: أن يكون الضمير عائدا على ذي الربا بمعنى أمره إلى الله في أن يثيبه على الانتهاء أو يعيده إلى المعصية في الربا. وهو قول الزجاج.
والرابع: أن يعود الضمير على المنتهي ولكن بمعنى التأنيس له وبسط أمله في الخير. كما تقول وأمره إلى طاعة وخير وموضع رجاء. وكما تقول وأمره في نمو أو إقبال إلى الله وإلى طاعته، ويجيء الأمر هاهنا ليس في الربا خاصة بل وجملة أموره.
إحدى عشر: متعلق العودة في قوله :(ومن عاد):
قيل: أن المراد العودة إلى استحلال الربا, فمن عاد إلى ذلك فهو كافر, لأن من أحلّ ما حرّم اللّه فهو كافر، وهؤلاء قالوا: {إنّما البيع مثل الرّبا} ومن اعتقد هذا فهو كافر. قال بذلك الزجاج. ولعل سبب قوله ذلك هو ختام الآية بما يوحي بأنه عذاب للكافر لا غيره, مما حداه للقول بهذا التأويل.
وقيل: أن المراد العودة للتعاطي بالربا, قال بذلك ابن كثير.
وقيل بالجمع بينهما, كما قال بذلك ابن عطية, وسيتضح المراد بالتخليد في النار -في حال كان المقصود مسلما- في الآية في المسألة التالية.
اثنا عشر: التحذير بعد العفو:
فبعد أن بين الله لعباده سعة عفوه, وعلمه بما لا يطيقه عباده, وكي لا يظن أن هذا من باب التساهل مع الربا, فإنه سبحانه عاد فحذر من العودة للربا, وذلك ليوضح للناس أن العفو يشمل من أسلم وكان في عنقه أموال ربوية, أما من عاد وهو يظن أن الله سيعفو عنه, فإن الله يحذره بقوله :(ومن عاد فأولئك أصحاب النار هم فيها خالدون), وهذه الآية في تخويفها يتبين لك عظم هذا الأمر, ومدى حرمته عند الله وهذا يتضح بأمرين:
الأول: أن الله مباشرة نسب المرابي للنار, ووصفه من أصحابها, بغض النظر عن إسلامه من عدمه, وهذا أسلوب يبعث على الخوف ومدى حرمة هذا الأمر.
الثاني: أن هذه من الآيات القليلة التي تصف فيها أصحاب فعل بأنهم مخلدون في النار, وذلك أن الخلود في النار ينطبق على الكافر, فانظر كيف أن المتعامل بالربا رمي بذلك كالكافر, وإن كانت مسألة الخلود بلا شك لا يراد بها الخلود المؤبد, كما ذكر ذلك ابن عطية, بل ينظر للمرابي، فإن كان مسلما عاص فهذا خلود مستعار على معنى المبالغة، كما تقول العرب: ملك خالد، عبارة عن دوام ما لا على التأبيد الحقيقي, وإن كان كافرا فإن المراد خلوده في النار للأبد, لما يؤيد ذلك من آيات وأحاديث في مسألة تطول, وهذا ليس مجال ذكرها.
ثلاثة عشر: (يمحق الله الربا) المراد بالمحق ومعناه:
المعنى اللغوي لكلمة يمحق: أي: ينقص ويذهب، ومنه محاق القمر وهو انتقاصه. ذكره ابن عطية وابن كثير.
ومحق الله للربا وإنقاصه له يكون على صورتين ذكرهما ابن كثير:
- إمّا بأن يذهبه بالكلّيّة من يد صاحبه.
- أو يحرمه بركة ماله فلا ينتفع به، بل يعذّبه به في الدّنيا ويعاقبه عليه يوم القيامة.
وكلاهما صور بغيضة تنافي مقصد المرابي من الربا, وهي الزيادة وحب الطمع.
وهذا نظير الخبر الّذي روي عن عبد اللّه بن مسعودٍ، عن النّبيّ صلّى اللّه عليه وسلّم، أنّه قال: «الرّبا وإن كثر فإلى قلّ». رواه ابن جرير وذكره ابن كثير.
أربعة عشر: مقابل محق الربا (يربي الصدقات): معنى الآية:
معنى يربي: أي: ينمي ويضاعف. كما ذكره ابن عطية وابن كثير.
ومعنى الآية تترجمه أحاديث كثر, منها: ما رواه أبو هريرة -رضي الله عنه- عن النبي صلى الله عليه وسلم: «إن صدقة أحدكم لتقع في يد الله فيربيها له كما يربي أحدكم فصيله، أو فلوه، حتى يجيء يوم القيامة وأن اللقمة لعلى قدر أحد» رواه البخاري وذكره ابن كثير.
فهذا الحديث وهذه الآية تلبي مقصد المرابي, إذ ما يبحث عنه هو الزيادة والنمو, فكأن الله بعد أن حذره من الربا وعاقبته, هداه لطريق النمو والزيادة الحقيقي, الذي به ينتفع وينفع غيره, وهذا أسلوب قرآني معهود, فالقرآن دائما إذا ما أغلق بابا فتح غيره, وذلك لعلم الله بأحوال الناس وحاجتهم للبدائل, فما حرم الله طريقا, إلا وأرشدنا إلى بديله, حرم الزنا, وأباح الزواج, حرم الربا, وأحل البيع, وهكذا دواليك.
خمسة عشر: المزجور في قوله: (والله لا يحب كل كفار أثيم):
الزجر في هذه الآيات للكفار المستحلين للربا القائلين على جهة التكذيب للشرع إنّما البيع مثل الرّبا, كما ذكر ذلك ابن عطية.
ستة عشر: سبب وصف الكفار بأثيمٍ:
- أنه إما مبالغة من حيث اختلف اللفظان.
- وإما ليذهب الاشتراك الذي في كفار، إذ قد يقع على الزارع الذي يستر الحب في الأرض. كما ذكر ذلك ابن عطية.
سبعة عشر: معنى :(والله لا يحب كل كفار أثيم):
- قال ابن فورك: أي: لا يحب الكفار الأثيم. ووافقه ابن كثير مبينا المعنى بأنه: كفور القلب, أثيم القول والفعل.
- وقال ابن عطية: أي: لا يحبه محسنا صالحا بل يريده مسيئا فاجرا. وكره ذلك التأويل, لإفراطه في تعدية الفعل, وحمله على المعنى ما لا يحتمله اللفظ.
- وقال ابن عطية كذلك: ويحتمل أن يريد والله لا يحب توفيق الكفار الأثيم. وكره ذلك التأويل, لعدم صحة معناه, فالله يحب التوفيق ويحببه.
ثمانية عشر: مناسبة ختم آية الربا بقوله :(والله لا يحب كل كفار أثيم):
ذلك أنّ المرابي لا يرضى بما قسم اللّه له من الحلال، ولا يكتفي بما شرع له من التّكسّب المباح، فهو يسعى في أكل أموال الناس بالباطل، بأنواع المكاسب الخبيثة، فهو جحودٌ لما عليه من النّعمة، ظلومٌ آثمٌ بأكل أموال النّاس بالباطل. قال بذلك ابن كثير.
تسعة عشر: سبب نزول قوله تعالى: (يا أيها الذين ءامنوا اتقوا الله وذروا ما بقي من الربا ...):
سببه ما رواه النقاش: «أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أمر أن يكتب في أسفل الكتاب لثقيف لكم ما للمسلمين وعليكم ما عليهم، فلما جاءت آجال رباهم بعثوا إلى مكة للاقتضاء، وكانت الديون لبني المغيرة وهم بنو عمرو بن عمير من ثقيف، وكانت لهم على بني المغيرة المخزوميين فقال بنو المغيرة لا تعطي شيئا فإن الربا قد وضع، ورفعوا أمرهم إلى عتاب بن أسيد بمكة، فكتب به إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فنزلت الآية، وكتب بها رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى عتاب فعلمت بها ثقيف فكفت»، هذا سبب الآية على اختصار مجموع مما روى ابن إسحاق وابن جريج والسدي وغيرهم, وذكره الزجاج وابن عطية وابن كثير.
عشرون: معنى قوله :(يا أيها الذين ءامنوا اتقوا الله وذروا ما بقي من الربا إن كنتم مؤمنين):
أي: اجعلوا بينكم وبين عذاب الله وقاية بترككم ما بقي لكم من ربا وصفحكم عنه. كما ذكر ذلك ابن عطية وابن كثير.
إحدى وعشرون: مسألة: هل ترك الربا شرط للإيمان؟
-يقول ابن عطية: أن قوله: {إن كنتم مؤمنين} شرط محض في ثقيف على بابه، لأنه كان في أول دخولهم في الإسلام وإذا قدرنا الآية فيمن تقرر إيمانه فهو شرط مجازي على جهة المبالغة، كما تقول لمن تريد إقامة نفسه: إن كنت رجلا فافعل كذا. وقد أشار الزجاج إلى أنه شرط للإيمان لكن في سياق الآية والمخاطب بها في المقام الأول وهم ثقيف.
اثنان وعشرون: إعلان الحرب على المرابي:
وعلى كلا القراءتين الواردتين في قوله :(فأذنوا) أي: فأيقنوا. أو (فآذنوا) أي: أعلموا كل من يترك الربا أنه حرب. كما ذكر ذلك الزجاج وابن عطية وابن كثير, فإنه يتضح في كلا الحالتين إعلان الحرب على المرابي, والتشنيع من فعله, وقد روى ابن عباس أنه يقال يوم القيامة لآكل الربا: خذ سلاحك للحرب، وقال ابن عباس أيضا: «من كان مقيما على الربا لا ينزع عنه فحق على إمام المسلمين أن يستنيبه، فإن نزع وإلا ضرب عنقه»، وقال قتادة: «أوعد الله أهل الربا بالقتل فجعلهم بهرجا أينما ثقفوا», كما ذكر ذلك ابن عطية وابن كثير, فكل هذه الآثار تؤكد إعلان الحرب على المرابي ومعاملته بأشد المعاملة.
ثلاثة وعشرون: مسألة: إرجاع الحقوق لأصحابها, وبقاء الأصل على حاله:
وهذه القاعدة مستلهمة من قوله :(فإن تبتم فلكم رؤوس أموالكم) فمن كمال عدل الله وشريعته, أنه أعطى أصحاب الأموال حقهم باسترجاع أصول أموالهم, وذلك لكي (لا يظلمون), وهذه القاعدة قد ينطلق منها في عدة أبواب فقهية أخر, ففساد الفرع, لا يعني فساد الأصل.
أربعة وعشرون: في متعلق (لا تظلمون) الأولى والثانية:
أما الأولى: فالمقصود بها عدم ظلمهم بأخذ الربا. ذكره ابن عطية وابن كثير.
والثانية: إما أن يكون المراد عدم ظلمهم بمنعهم من استرداد رؤوس أموالهم, وهذا ما قال به ابن كثير وذكره ابن عطية, أو أن المراد بعدم مماطلتهم, لأن مطل الغني ظلم, كما ذكر ذلك رسول الله. وقد ذكره ابن عطية.
وفي هذا تتجلى قمة العدل والإنصاف.
أخيرا: فإن المتأمل في آيات الربا لا يخفى عليه عظيم أمره, وسوء عاقبته, وإنك لتعجب ممن يسوغه لنفسه عبر تأويلات وحيل فاسدة, بينما تجد في الآثار ما يدل على تحريم ما يشابه الربا أو يفضي إليه, واعلم أن الربا منتشر ويكاد يدخل كل بيت, فاحرص على أن لا يدخل بطنك وبطن أهلك وأحبابك منه شيء, فإن المرء إن حرم البركة ومحقت منه, لن يزال إلا متخبطا في بحر من الخسائر في الدنيا والآخرة, وقانا الله شر الوقوع في الكبائر, ومنعنا عما يوصل إليها من الصغائر, ورزقنا التوفيق لما يحبه ويرضاه, إنه ولي ذلك والقادر عليه, والحمدلله رب العالمين.