تحرير القول في معنى "ضريع" في قول الله تعالى: {ليس لهم طعام إلا من ضريع}:
اختلف العلماء في معنى الضريع على عدة أقوال:
القول الأول: نبت سام يابس ذو شوك يقال له الشبرق إذا كان الربيع، فإذا هاج العود سمي الضَّريع. قال به ابن عباس, وعكرمة, ومجاهد, وقتادة, وشريك بن عبدالله, ومحمد, والكلبي, وعطاء, وأبو حنيفة, وابن الأثير, وذكره الطبري, والثعلبي, ومكي بن أبي طالب, والماوردي, وابن عطية, وابن الجوزي, والقرطبي, وعلى هذا القول كثير من أهل التفسير واللغة, ومنهم: الفراء, والتيمي, والسكري, واليزيدي, وابن قتيبة, والزجاج, والسجستاني, والزمخشري, وابن منظور, وابن حيان الأندلسي, والسمين الحلبي, والفيروزأبادي.
القول الثاني: الحجارة, وهو قول سعيد بن جبير, وذكره الطبري, والثعلبي, ومكي بن أبي طالب, والماوردي, وابن عطية, وابن الجوزي, والقرطبي, والسمين الحلبي.
القول الثالث: أنه في الدنيا الشوك اليابس الذي ليس له ورق، وهو في الآخرة شوك من نار, وهو قول ابن عباس, وابن زيد , وذكره الطبري, ومكي بن أبي طالب, والماوردي, وابن عطية, وابن الجوزي, والقرطبي, والسمين الحلبي.
القول الرابع: نبتٌ في البحر أخضر منتنٌ, يرمي به البحر, وهو قول ابن عباس, والخليل, وذكره الثعلبي, والقرطبي, وابن عطية, واليزيدي, وابن حيان الأندلسي, والسمين الحلبي, والفيروزأبادي.
القول الخامس: أنه طعام يضرعون منه ويذلّون ويتضرّعون إلى الله سبحانه, وهو قول ابن كيسان, والحسن, وابن بحر, وذكره الثعلبي, ومكي بن أبي طالب, والماوردي, وابن الجوزي, والقرطبي.
القول السادس: أنه الزقوم, وهو قول الحسن, وذكره مكي بن أبي طالب, وابن عطية, والقرطبي, والسمين الحلبي.
القول السابع:أنه واد في جهنم, ذكره مكي بن أبي طالب, وابن عطية, والقرطبي.
القول الثامن: أنه السلم, ذكره الماوردي, وابن الجوزي.
القول التاسع: أنه النوى المحرق, حكاه يوسف بن يعقوب عن بعض الأعراب, وذكره الماوردي.
القول العاشر: العشرق, ذكره ابن عطية.
القول الحادي عشر: رطب العرفج, قال به بعض اللغويين كالأسلمي, وابن منظور, وذكره ابن عطية, والشيباني, والفيروزأبادي.
القول الثاني عشر: يبس العرفج إذا تحطم, قال به بعض اللغويين كابن منظور, وذكره ابن عطية, وابن حيان الأندلسي, والسمين الحلبي.
القول الثالث عشر: نبت كالعوسج, وهو قول غلام ثعلب, والزجاج, وابن الأعرابي, وذكره ابن عطية, وابن منظور, وابن حيان الأندلسي, والسمين الحلبي.
القول الرابع عشر: الجلدة التي على العظم تحت اللّحم, قال به الليث, وذكره ابن عطية, وابن منظور, والفيروزأبادي.
القول الخامس عشر: أنه مما لا تعرفه العرب. ذكره ابن عطية, وابن منظور.
القول السادس عشر: أنه بعض ما أخفاه الله من العذاب, وهو قول الحسن, وذكره القرطبي.
القول السابع عشر: أن المراد: تجويعهم, وأن من الضريع طعامهم فلا طعام لهم, ومنه قول العرب: ما لفلان راحة إلا السير والعمل؛ أي من هذان راحته فهو غير مستريح. قال به القشيري, وذكره القرطبي, والأنباري.
القول الثامن عشر: السلاء, قاله أبو الجوزاء, وذكره الفيروزأبادي.
القول التاسع عشر: يبيس كل شجر, وهو قول ابن عباد, وذكره الفيروزأبادي.
القول العشرون: الشراب الرقيق, قول ابن عباد, وذكره الفيروزأبادي.
القول الحادي والعشرون: نبت في الماء الآجن له عروق لا تصل للأرض, قاله الليث, وذكره الفيروزأبادي.
القول الثاني والعشرون: الخمر, ذكره الفيروزأبادي.
القول الثالث والعشرون: أنه شيءٌ في جَهَنَّمَ، أَمَرُّ من الصَّبِرِ، وأنْتَنُ من الجِيفَةِ.
دراسة الأقوال وتحريرها:
في القول الثاني والرابع والسابع والثامن والتاسع والعاشر والحادي عشر والثاني عشر والثالث عشر والرابع عشر والثامن عشر والحادي والعشرون فيما يبدو تعارضا مع القول الأول والذي يقول بأنه نبات الشبرق اليابس, فإما أن يكون حجرا أو شبرقا, أو سلاء أو عوسجا, لا بد من الاختيار بينها, فليست مما يجمع بينه, بل هي متعارضة -وإن كان بعضها يجتمع في بعض الصفات ككونه نبت وشائك- لذا وبلا شك الأول أقوى وعليه أغلب علماء السلف واللغة, وبهذا نستبعد بقية الأقوال ويبقى الأول هو الأرجح بينها والله أعلم.
أما فيما يخص القول الثالث فقد قرر فيه قائلوه أن الضريع نبت من شوك كما قال بذلك أصحاب القول الأول, لكنهم أوضحوا أنه في الآخرة يكون من نار, وذلك لكونه عذاب أهل النار, ولا مانع لدينا من الجمع به مع القول الأول, فقد يكون الضريع هو النبت اليابس ذو الشوك, ويكون من نار لزيادة العذاب, لذا فقد يجمع بين هذين القولين ويؤخذ بهما.
أما بالنسبة للقول الخامس, فمبناه على ما يؤول إليه هذا الضريع, ولا يتنافى ذلك مع القول الذي رجحناه, فيكون الضريع نبات كالشبرق في النار له شوك إلخ من المواصفات وإذا أكلوا منه يتضرعون لله ويتذللون من شدة ما يقاسون, وعلى هذا فيكون هذا القول صحيحا لا بأس به, وفي ضمه لمعنى الضريع وصف له.
أما القول السادس أنها هي الزقوم, فأجده بعيدا, لأن النص القرآني هنا نص على هذا الطعام بالضريع, وعلى ذاك بالزقوم, وفي هذا تنويع للعذاب, وقد تكون هذه أنواعا لمختلف العصاة, وقد علل من قال بذلك: (أنّ اللّه تعالى قد أخبر في هذه الآية أنّ الكفّار لا طعام لهم إلاّ من ضريعٍ، وقد أخبر أنّ الزّقّوم طعام الأثيم، فذلك يقتضي أنّ الضّريع هو الزّقّوم) وهذا استدلال غير كاف لقصر الضريع على الزقوم, وفي الحقيقة لا تعارض في أن تكون النار فيها أنواعا من النبات المنتن, منها ما هو شائك, ومنها ما يخرج منه صديد ..إلخ, بل في هذا نوعا من النكال, ومن قبيل تنويع العذاب لأنواع العصاة ودرجاتهم, وقد يكون من باب المبالغة في الخطاب لبث الرعب في نفوسهم, لا النفي المراد به الإطلاق, وقد جمع ابن عاشور بين الضريع والغسلين لنفس السبب الذي ذكرناه هنا, فوجد أن هنالك تعارضا بين (ليس لهم طعام إلا من ضريع) و(ولا طعام إلا من غسلين) فقال: أن الضريع شجرة ويخرج منها الغسلين, وقد يقاس ذلك على الزقوم, لكن يصعب ذلك فقد وصفها الله بأوصاف خاصة تميزها عن البقية, وكما ذكرت لا داعي للتضييق في هذا الأمر فقد يكون الأمر من المبالغة للتخويف ولا تعارض بينها, وقد قال القرطبي في ذلك: (وَوَجْهُ الْجَمْعِ أَنَّ النَّارَ دَرَكَاتٌ، فَمِنْهُمْ مَنْ طَعَامُهُ الزَّقُّومُ، وَمِنْهُمْ مَنْ طَعَامُهُ الْغِسْلِينُ، وَمِنْهُمْ مَنْ طَعَامُهُ الضَّرِيعُ، وَمِنْهُمْ مَنْ شَرَابُهُ الْحَمِيمُ، وَمِنْهُمْ مَنْ شَرَابُهُ الصَّدِيدُ. قَالَ الْكَلْبِيُّ: الضَّرِيعُ فِي دَرَجَةٍ لَيْسَ فِيهَا غَيْرُهُ، وَالزَّقُّومُ فِي دَرَجَةٍ أُخْرَى. وَيَجُوزُ أَنْ تُحْمَلَ الْآيَتَانِ عَلَى حَالَتَيْنِ كَمَا قَالَ: يَطُوفُونَ بَيْنَها وَبَيْنَ حَمِيمٍ آنٍ).
أما القول الخامس عشر, أنه مما لا تعرفه العرب, فهو مستبعد لكون القرآن يخاطب العرب في المقام الأول, وكيف يخاطبهم بما يرعب قلوبهم ثم يكون شيئا مما لا يفهمونه؟! ناهيك عن أن قواميس اللغة العربية أثبتت استعمال العرب لهذه اللفظة وذكرت معناها كما ذكرنا في الأقوال أعلاه, مما يستبعد هذا القول استبعادا أكيدا, وبنفس هذا الكلام يقال هذا في القول السادس عشر, أن الله خاطب العرب بلفظة يعرفونها فكيف يكون مراده إخفاء نوع هذا العذاب وقد خاطبهم بهذه الكلمة التي عرفوها وردوا عليها بأنها أكل أنعامهم فرد الله أنها لا تسمن ولا تغني من جوع, كل هذا يدل على أننا نتحدث عن أمر في ظاهره معروف, وإن كان خفاء كيفيته بالتأكيد مقررا, لكن المقصود المعنى العام للفظة.
أما القول السابع عشر فبعيد, إذ المعنى الأول الذي يؤخذ هو الظاهر, ولا يستبعد إلا بقرينة, فبأي قرينة استبعدوا أن المراد بالضريع هو ما اشتهر عند العرب من نبت يابس, ويذهب لأن المراد جوعهم التام؟
أما القول التاسع عشر, وهو ما يبس من الشجر, فلا يتنافى مع المعنى العام, لكنه كذلك أعم منه, والمعنى الأول الذي رجحناه بلا شك أكثر خصيصة ووضوحا لذا يقدم عليه, لكن المعنيين بلا شك لا يتعارضان.
أما القول العشرون والثاني والعشرون فلا أعجب منهما, فكيف يستدل على الضريع بأنه ماء رقيق, بل الأعجب منه أنه الخمر!! والخمر هو من صميم نعيم أهل الجنة!وإن كان المراد أنه خمر من نوع آخر, فإن الخطاب القرآني لم يعودنا على استخدام ما أحب الناس وكان مرتبطا بسهراتهم وأنسهم في التعذيب, كما أن وصف عذاب ما وتشبيهه بأمر دنيوي قاس, كالشوك أو الشيء المر, بلا شك أبلغ من وصفه بأمر غلب عليه الوصف بالحسن أو الرفاهية.
أما القول الثالث والعشرون فقد استدل عليه أصحابه بحديث روي فيه عن ابن عبّاس عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنّه قال: «الضريع شيء يكون في النار شبه الشوك، أمرّ من الصبر وأنتن من الجيفة وأشدّ حرّا من النار». وقد بحثت عنه فوجدت السيوطي قد حكم على إسناده بأنه واه, وبغض النظر عن الحديث, فالمعنى العام قد لا يتعارض مع ما رجحنا من أنه كنبت الشبرق اليابس, فقد يكون كذلك مرا ونتنا, فهذا القول لا يتعارض مع القول الأول.
خلاصة القول: القول الراجح والله أعلم بعد فرز الأقوال وتحريرها أن الضريع: نبت كالشبرق يابس ذو شوك مر سام, قد يكون شجرة من نار, وقد يكون نتن الرائحة وأحر من النار, وأهل النار بعد أكله يتضرعون لله ويتذللون إليه من شناعته وقسوته.
وجه تسمية الضريع بذلك:
واختلف في المعنى الذي سمّي به ضريعاً, فقيل:
القول الأول: هو ضريعٌ بمعنى مضرعٍ، أي: مضعفٍ للبدن مهزلٍ، ومنه قول النبيّ -صلّى اللّه عليه وسلّم- في ولدي جعفر بن أبي طالبٍ -رضي اللّه عنهم-:«ما لي أراهما ضارعين». يريد هزيلين, ذكره ابن عطية.
القول الثاني: ضريعٌ: فعيلٌ من المضارعة، أي: لأنه يشبه المرعى الجيّد، ويضارعه في الظاهر، وليس به, ذكره ابن عطية.
القول الثالث: أنه يمْكِنٌ أَنْ يُحْمَلَ عَلَى الْبَابِ فَيُقَالُ ذَلِكَ لِضَعْفِهِ، إِذَا كَانَ لَا يُسْمِنُ وَلَا يُغْنِي مِنْ جُوعٍ.
قال الشاعر: وَتُرِكْنَ فِي هَزْمِ الضَّرِيعِ فَكُلُّهَا ... حَدْبَاءُ دَامِيَةُ الْيَدَيْنِ حَرُودُ. وهو قول ابن فارس.
وكل هذه الأقوال لا تتعارض, وتنطبق على هذا الضريع ومبناه وما يؤدي إليه, وقد تنطبق على سبب التسمية والله أعلم.