(5) (هُديتَ): دعاءٌ له بالهدايةِ،وهي التَّوفيقُ.
والدُّعاءُ لطالبِ العلمِ بالتَّوفيقِ والخيرِ فيه تأليفٌ لقلوبِ الطُّلابِ على مشقَّةِ العلمِ والصَّبرِ على تحصيلِه، وهو من أخلاقِ العلماءِ، والأصلُ فيه قولُه صلَّى الله عليه وسلَّم لابنِ عبَّاسٍ، رضِي اللهُ عنه: ((اللَّهُمَّ فَقِّهْهُ ِفي الدِّين وَعَلِّمْهُ التَّأْوِيلَ)).
ودعاءُ العالمِ الصالحِ مِن مَظانِّ الإجابةِ. (أفضلَ المِنَنْ): أي: أحسنَ النِّعمِ التي وهَبها اللهُ للعبدِ بعدَ نعمةِ الإيمانِ. (علمٌ يُزِيلُ الشَّكَّ عنك والدَّرَنْ):العلمُ هو:إدراكُ الشَّيءِ على ما هو عليه في الواقعِ.
والشَّكُّ: هو التَّردُّدُ، ضدُّه اليقينُ،والمرادُ به مرضُ الشُّبُهاتِ.
والدَّرَنُ: هو القَذَرُ وَزْناً ومعنًى،والمرادُ به هنا مرضُ الشَّهَواتِ.
والمرضُ قسمان:
- حسيٌّ.
- ومعنويٌّ.
أما الحسيُّ:فهو اعتلالُ البدنِ، ومنه قولُه تعالى: {فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَّرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ}[البقرة:184].
والمعنويُّ نوعان:
1-مرضُ الشُّبُهاتِ: وهي الأباطيلُ التي تُشْبِه الحقَّ، سُمِّيت بذلك لشبهِها بالحقِّ، ومنه قولُه تعالى: {وَإِذْ يَقُولُ المُنَافِقُونَ والَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ}[الأحزاب:12].
2-مرضُ الشَّهواتِ: وهي الغرائزُ المحرَّمةُ كالزِّنا.
ومنه قولُه تعالى: {فَيَطْمَعَ الَّذِي فِي قَلْبِه مَرَضٌ}[الأحزاب: 32].
وقد يَجْتَمِعان في العبدِ، وقد يَنْفَرِدُ أحدُهما.
ومرضُ الشُّبهاتِ: يُعالَجُ باليقينِ.
ومرضُ الشَّهواتِ: يُعالَجُ بالصَّبرِ، وبهما تُنالُ الإمامةُ في الدِّينِ {وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُوا وَكَانُوا بِآيَاتِنَا يُوقِنُونَ}[السجدة: 24]، وجمعَ اللهُ بينَهما في قولِه: {إلاَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ}[العصر، 3]، فالحقُّ يَدْفَعُ الشُّبُهاتِ، والصَّبرُ يَكُفُّ عن الشَّهواتِ.
فضابطُ العلمِ النَّافعِ:هو العلمُ الذي يُزِيُل عن صاحبِه الشُّبهاتِ والشَّهواتِ.
(6) (يكشف): أي: يُظْهِرُ ويُبْرِزُ. (الحقَّ): هو الثَّابتُ واللاَّزمُ، وضدُّه الباطلُ، وهو الزَّائلُ. (لذي القلوبِ): الأصلُ أن يقالَ: (لذَوِي القلوبِ) بالجمعِ، لكن مراعاةُ الوزنِ يُوقِعُ في هذه المضايقِ.
والمرادُ بذَوِي القلوبِ: أصحابُ العقولِ، والقلبُ يُطْلَقُ على العقلِ، كقولِه تعالى: {إِنَّ فِي ذَلِكَ لَذِكْرَى لَمَنْ كَانَ لَهُ قَلْبٌ}[ق:37] أي: عقلٌ؛ لأن القلبَ مَحَلُّ الفهمِ والإدراكِ، كما قال تعالى: {وَلَقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ كثيراً مِن الجنِّ والإنْسِ لَهُمْ قُلُوبٌ لا يَفْقَهُونَ بِهَا وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لاَ يُبْصِرُونَ بِهَا وَلَهُمْ آذَانٌ لا يَسْمَعُونَ بِهَا}[الأعراف: 179]، فأضاف كلَّ عملٍ إلى آلتِه وأداتِه.
وسُمِّي القلبُ قلبًا لتقلُّبِه كثيرًا، كما قال الشاعرُ:
مـا سـُمِّي الـقلـبُ إلا مــِن تقلـُّبِه فاحْذَرْ لقلبِك مِن قلْبٍ وتَحْويلِ
وكان صلَّى الله عليه وسلَّم يقولُ في دعائِه: ((اللُّهُمَّ يَا مُقَلِّبَ القُلُوبِ ثَبِّتْ قَلْبِي عَلَى دِينِكَ)).
(ويُوصِلُ العبدَ): أي، يُبْلِغُه.
والعبدُ يطلقُ على ثلاثةِ معانٍ،كما ذكَره الرَّاغبُ الأصْفَهانيُّ:
1-عبدٌ بحكمِ الشرعِ، وهو الإنسانُ الذي يصحُّ بيعُه، ويقابلُه الحرُّ، ومنه قولُه تعالى: {وَالعَبْدُ بِالعَبْدِ}[البقرة:178].
2-عبدٌ بالإيجادِ، وهو كلُّ مَن أوْجَده اللهُ تعالى، فيشملُ المخلوقاتِ جميعاً، كما قال تعالى: {إِنْ كُلُّ مَنْ فِي السَّمَاواتِ وَالأَرْضِ إِلاَّ آتِي الرَّحْمَنِ عَبْداً}[مريم، 93].
3- عبدٌ بالطَّاعةِ والعبادةِ، وهو نوعان:
أ- عبدٌ للهِ تعالى، وهذه عبوديةُ شرفٍ، ومنه قولُه: {وَعِبَادُ الرَّحْمَنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الأَرْضِ هَوْنًا} [الفرقان:63].
ب- عبدٌ لغيرِ اللهِ تعالى، وهذه عبوديةُ ذِلَّةٍ ومَهانةٍ، ومنه الحديثُ:
((تَعِس عبدُ الدِّينارِ، تَعِس عبدُ الدِّرهمِ)).
والعبدُ في البيتِ المذكورِ من الإطلاقِ الثاني، وهو العبدُ بالإيجادِ الشَّاملِ للمعاني الأخرى.
وأصلُ مادةِ (عبد) يدلُّ على التَّذليلِ، كما تقولُ العربُ: طريقٌ مُعَبَّدٌ أي: مُذلَّلٌ، وتقولُ: عبَّدْتُ فلاناً، أي: ذلَّلَتُه واتَّخَذْتُه عبداً، ومنه قولُه تعالى: {أَنْ عَبَّدْتَ بَنِي إِسْرَائِيلَ}[الشعراء:22].
(المطلوبُ): أي: المقصودُ، ففي هذا إشارةٌ إلى أن العلمَ ليس مقصوداً لذاتِه، وإنما يُطْلَبُ للوصولِ به إلى العملِ ورِضْوان اللهِ تعالى، كما قيل: (هتَف العلمُ بالعملِ فإن أجابه وإلا ارْتَحل).
(7) الحرصُ:هو شدةُ الطَّلبِ والعنايةِ.
والفهمُ: الإدراكُ للشَّيءِ.
والقواعدُ: جمعُ قاعدةٍ، وهي في اللُّغةِ: الأساسُ، ومنه قولُه تعالى: {فَأَتَى اللهُ بُنْيَانَهُمْ مِنَ الْقَوَاعِدِ}[النحل،26].
وفي الاصطلاحِ:حكمٌ كُلِّيٌّ تَدْخُلُ فيه جزئيَّاتٌ كثيرةٌ.
وتُطْلَقُ القواعدُ على القواعدِ الأصوليَّةِ والقواعدِ الفقهيَّةِ، والمرادُ هنا الثَّاني، بقرينةِ قولِه: (جامعةِ المسائلِ الشَّواردِ)، وكونُ النَّظمِ في علمِ القواعدِ الفقهيَّة، ولكنَّه باعتبارِ الغالبِ؛ لأنه ذكَر بعضَ القواعدِ الأصوليَّةِ أيضاً.
والفرقُ بينَهما مِن وجوهِ:
أ - مِن جهةِ الموضوعِ، فإن موضوعَ علمِ القواعدِ الفقهيَّةِ أفعالُ المكلَّفين، وموضوعَ علمِ القواعدِ الأصوليَّةِ الأدلةُ والأحكامُ.
ب- أن القواعدَ الأصوليَّةَ أدلَّةٌ إجماليَّةٌ، والقواعدَ الفقهيَّةَ أحكامٌ كُلِّيَّةٌ، كما ذكَره الإمامُ ابنُ تيميَّةَ.
بالإضافةِ إلى فروقٍ أخري تُذْكَرُ في المطوَّلاتِ. (المسائلِ): هي الوقائعُ التي يُسْأَلُ عنها.
(الشَّواردِ)، جمعُ شاردةٍ، وهي النَّافرةُ وغيرُ المجموعةِ.
فمن شأنِ القواعدِ الفقهيَّةِ أنها تَجْمَعُ المسائلَ المتناثرةَ تحتَ حكمٍ كُلِّيٍّ، فيَسْهُلُ على الإنسانِ معرفةُ أحكامِ الجزئيَّاتِ، ودراسةُ الفقهِ، لأن دراسةَ الفقهِ عن طريقِ القواعدِ أسهلُ وأشملُ، كما أن دراستَه عن طريقِ الجزئيَّاتِ أدَقُّ وأحكمُ.
والجزئيَّاتُ الفقهيَّةُ لا تَتَناهَى، ويَسْتَجِدُّ في كلِّ زمانٍ من المسائلِ ما لم يكنْ معروفاً قبلَ ذلك، قال
الأهدلُ عن الفقهِ:
وهــو فــنٌّ واسـعٌ مـُنــْتَشِرُ فـروعـُه بـالعـدِّ
لا تَنْحَصِرُ
وإنـمـا تـُضـْبـَطُ بــالقواعدِ فحفظُها مِن أعظمِ الفوائدِ
والحفظُ وحدَه لا يَكفِي، ولابدَّ من الفهمِ، كما ذكَر النَّاظمُ.
(8)(ترتقي): أي تَعْلُو وتَصْعَدُ.
والمرتقَى هو: الشَّيءُ الذي يَحْصُلُ به الارتقاءُ، كالدَّرَجِ والسُّلَّمِ.
والاقتفاءُ:اتِّباعُ الأَثَرِ.
والسُّبلُ:جمعُ سبيلٍ، وهو الطَّريقُ وزناً ومعنًى، ويُذَكَّرُ ويُؤَنَّثُ.
وباءُ السُّبلِ في النَّظمِ ساكنةٌ، مُراعاةً للوزنِ.
والمعنى: أنك لو فهِمْت هذه القواعدَ وحفِظْتَها، فإنك تعلو بذلك في منازلِ العلمِ، وتكونُ بذلك مُتَّبِعاً لآثارِ العلماءِ الموفَّقين لطريقِ الحقِّ.(9) (قواعدٌ): بالتنوينِ مراعاةً للوزنِ، والأصلُ بدونِ التَّنوينِ، لأنه ممنوعٌ مِن الصَّرفِ، ولكنَّ الاضطرارَ مبيحٌ لذلك باتفاقٍ، قال ابنُ مالكٍ:
ولاضــطــرارٍوتــنــاسـُبٍ صـُرِفْ ذو المنعِ والمصروفُ قد لا يَنْصَرِفْ
(نظَمْتُها): أي، جعَلْتُها في نظمٍ،
والنَّظمُ: عقدُ المنثورِ، كما أن الحلَّ هو نثرُ المنظومِ، وأصلُ النَّظمِ في اللُّغةِ جمعُ اللُّؤلؤ في سلكٍ، وإنما اختار النَّظمَ -مع ضيقِه- لسهولةِ حفظهِ وطولِ بقائِه في الذِّهنِ، كما قال ابنُ عاصمٍ الأنْدَلُسيُّ:
والنظمُ مُدْنٍ منه كلَّ ما قَصَى مُذَلِّلٌ مِن مُمْتَطاه ما اعْتَصَى
فهو مِن النَّثرِ لفهمٍ أسبقُ ومُقْتَضاه بالنفوسِ أعْلَق
ثم ذكَر النَّاظمُ أن هذه القواعدَ ليست مِن بناتِ أفكارِه، ونتائجِ اختراعاتِه، ولكنها مستفادةٌ مِن كتبِ العلماءِ.
وهذا مِن أدبِ النَّاظمِ، وحسنِ أخلاقِه، فإن مِن بَرَكةِ العلمِ أن يُنْسَبَ إلى صاحبِه، كما يقالُ.
وأما الذي يَنْسِبُ الفوائدَ لنفسِه، مع علمِه أنها لغيرِه فهو داخلٌ في قولِه صلَّى الله عليه وسلَّم، ((المُتَشَبِّعُ بما لم يُعْطَ كلابسِ ثَوْبَيْ زُورٍ)).
(10) (جزاهم): أي: أثابهم. (المولى): لفظٌ مشتركٌ، يُطْلَقُ على المُعْتَقِ، والمُعْتِقِ والمالكِ، والنَّاصرِ، والجارِ، وابنِ العمِّ، والصَّاحبِ، والقريبِ، والحليفِ.
والمرادُ هنا: المالكُ والنَّاصرُ، وهو اللهُ تعالى: {ذَلِكَ بِأَنَّ اللهَ مَوْلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَأَنَّ الْكَافِرِينَ لا مَوْلَى لَهُمْ}[محمد:11].
(عظيمَ الأجرِ): من بابِ إضافةِ الصِّفةِ إلى الموصوفِ، والمرادُ: أجراً عظيماً. (والعفوَ مع غُفرانِه): العفوُ والغُفرانُ:بمعنى التَّجاوُزِ عن الذَّنْبِ، والأوَّلُ أبلغُ؛ لأنه يفيدُ محوَ الشَّيءِ وإزالتَه، بخلافِ الغُفرانِ فإنه يدلُّ على التَّغطيةِ، وهذا لا يفيدُ الإزالةَ.
والدُّعاءُ لأهلِ العلمِ مِن حسنِ الأدبِ، وجميلِ الأفعالِ، كما قال تعالى: {وَالَّذِينَ جَاءُوا مِن بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِر لَنَا وَلإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالإِيمَانِ وَلا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنا غِلاًّ لِلَّذِينَ آمَنُوا}[الحشر: 10]. وقال صلَّى الله عليه وسلَّم: ((مَنْ آتَى إِلَيْكُمْ مَعْروفاً فَكَافِئُوهُ، فَإِنْ لَمْ تَجِدُوْا فَادْعُوْا لَهُ حَتَّى تَعْلَمُوا أَنْ قَدْ كَافَأْتُمُوهُ)).
ومعروفُ العلمِ أعظمُ مِن معروفِ المالِ.
ولهذا تَسْتَغْفِرُ النَّمْلُ في جُحْرِها والحيتانُ في بحرِها لمعلِّمِ النَّاسِ الخيرَ.