المجموعة الأولى:
1. فصّل القول في تفسير قول الله تعالى:
{ومن الناس من يعجبك قوله في الحياة الدنيا ويشهد الله على ما في قلبه وهو ألدّ الخصام}.
اختلف المفسرون في سبب نزول هذه الاية:
- قال السدي: نزلت في الأخنس بن شريق الثّقفيّ، جاء إلى رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم، وأظهر الإسلام وفي باطنه خلاف ذلك.
- وقال ابن عبّاسٍ: أنّها نزلت في نفرٍ من المنافقين تكلّموا في خبيب وأصحابه الّذين قتلوا بالرّجيع وعابوهم.
- وقال آخرون: بل الآية عامة في جميع المنافقين. وهو قول جمهور السلف وهو الأظهر.
وقد جاء عن البكائي, وكان ممن يقرأ الكتب السابقة: إنّي لأجد صفة ناسٍ من هذه الأمّة في كتاب اللّه المنزّل: قوم يحتالون على الدّنيا بالدّين، ألسنتهم أحلى من العسل، وقلوبهم أمرّ من الصّبر، يلبسون للنّاس مسوك الضّأن، وقلوبهم قلوب الذّئاب...
وقال القرظيّ: تدبّرتها في القرآن، فإذا هم المنافقون، فوجدتها: {ومن النّاس من يعجبك قوله في الحياة الدّنيا ويشهد اللّه على ما في قلبه} .
فالآية تصف حال كل مبطن كفر أو نفاق أو كذب أو إضرار, وهو يظهر بلسانه خلاف ذلك, فإذا تكلم سمعه الناس وأنصتوا لحلاوة كلامه وما يدعيه من صدق وقول الحق, فيغتر يه المسلمون وقد يقعون في حبائله ويجدون أثر ما يلقيه من شبهات, لذلك كان خطر المنافقين على الأمة أشد من خطر الكفار, فكان عقابهم في الآخرة هو الأشد: فكانوا في الدرك الأسفل من النار كما قال تعالى:{إن المنافقين في الدرك الأسفل من النار}.
وهم مع هذا لا يكتفون بالكذب المجرد بل {ويشهد الله على ما في قلبه} فيحلف الأيمان على صدق كلامه, ويشهد الله على أن ما قاله من خير يوافق ما في قلبه وأن الله يعلم صدق سريرته!
- وهذا المعنى على قراءة من قرأ بضم الياء في {يشهد} وهي قراءة الجمهور.
- أو يكون المعنى بأنه من شدة فجوره وغيه يظهر الحسن والخير للناس ويشهد الله على خبث سريرته ويبارز الله على ما في قلبه من كفر ونفاق.
- أما على قراءة من قرأ بفتح الياء وضم اسم الجلالة فيكون المعنى أن كلامه يعجبك إذا تكلم لكن الله يعلم منه خلاف ما أظهر لك, فيعلم ما في قلبه من الشر والكفر, وهذا كقوله تعالى: {إذا جاءك المنافقون قالوا نشهد إنّك لرسول اللّه واللّه يعلم إنّك لرسوله واللّه يشهد إنّ المنافقين لكاذبون}.
والمعنى الأول هو الراجح والله أعلم, فهو الموافق لظاهر الآية وموافق لما يتبادر للذهن عند قراءة الآية, لذلك حذر الله منه وفضحه وبين ما في سريرته فقال:{ وهو ألدّ الخصام}:
ومعنى خصم ألدّ في اللغة : الشديد الخصومة والجدل، واشتقاقه من لديدي العنق، وهما صفحتا العنق.
فذمه الله-سبحانه وتعالى- ووصفه بأنه أعوج سواء في داخله أو فيما يستعمل من وسائل لنشر فساده وشبهاته بين المسلمين, فهو شديد الخصومة, يلوي أعناق النصوص ليصلح له الاحتجاج بها, يكذب ويزور الحقائق ويفتري ويفجر في الخصومة وهمه إظهار قوله وإسكات خصمه والعلو عليه انتصارا لنفسه, كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: "آية المنافق ثلاثٌ: إذا حدّث كذب، وإذا عاهد غدر، وإذا خاصم فجر", وقال:"أبغض الرجال إلى الله الألد الخصم".
وقد فضح الله المنافقين في آيات كثيرة في القرآن, ولم يسمهم بأسمائهم لكيلا ينصرف المعنى إلى أشخاص محددين ويحصر فيهم لا في غيرهم, والعبرة إنما تكون بعموم اللفظ لا بخصوص السبب, لهذا ذكر الله أوصافهم, وما هذا إلا ليحذر المسلمون منهم, وليحذر المسلمون من الاتصاف بأوصافهم البغيضة.
2. حرّر القول في تفسير قوله تعالى:
{كان الناس أمّة واحدة}.
جاء معنى (الأمة) في القرآن على عدة معان تفهم بحسب السياق, ومن معاني (الأمة الدين، كما في هذه الاية, وقد اختلف المفسرون في معنى هذه الآية بحسب اختلافهم في المراد من(الناس) والمراد من الدين في الاية على عدة أقوال:
القول الأول: كان بنو آدم لما أخرجهم الله نسما من ظهر آدم جميعهم على الفطرة. قاله أبي بن كعب وابن زيد, ذكره ابن عطية.
القول الثاني: وهو أخص من سابقه فحصر المراد بالناس في آدم وحده, وكان على ملة الإسلام, قاله مجاهد. ذكره ابن عطية. وزاد آخرون: كان آدم وحواء. ذكره ابن عطية.
القول الثالث: كان كل قوم ممن بعث إليهم الأنبياء على ملة واحدة وهي الكفر. ذكره الزجاج.
القول الرابع: وهو أخص من القول السابق , فحصر الناس في الأقوام بين آدم ونوح, فكانوا على ملة واحدة وهي الكفر. ذكره الزجاج.
القول الخامس: وهذا القول شبيه بالقول السابق من حيث المراد بالناس, لكن قال أصحابه كانت القرون العشرة بين آدم ونوح جميعها على الإسلام حتى اختلفوا. قاله ابن عباس ومجاهد وقتادة. وكان قراءة ابن مسعود: "كان النّاس أمّةً واحدةً فاختلفوا". ذكره ابن عطية, وذكره ابن كثير.
القول السادس: كان نوح ومن معه في سفينته جميعهم مسلمين. ذكره ابن عطية.
القول السابع: وهو تتمة للسابق ولا يعارضه, فقال أصحابه: كان جميع الناس في وقت نوح على ملة واحدة وهي الكفر, فبعثه الله إليهم. قاله ابن عباس. ذكره ابن عطية.
القول الثامن: المراد بالناس هنا جنس الناس كله, فهم أمة واحدة في خلوهم عن الشرائع وجهلهم بالحقائق لولاأن منّ الله عليهم وتفضل بإرسال بالرسل إليهم. قاله ابن عطية وكأنه مال إليه, وقال:( ف كان على هذا الثبوت لا تختص بالمضي فقط، وذلك كقوله تعالى: {وكان اللّه غفوراً رحيماً}).
الراجح والله اعلم بأن الله أخبرنا بأن الناس كانوا أمة واحدة على دين واحد, والأصل أن التوحيد هو الأصل والكفر طارئ, لأن أبو البشر آدم عليه السلام كان موحدا وظل الناس من بعده على التوحيد حتى وقع الكفر فيهم فاختلفوا فأرسل الله النبيين مبشرين ومنذرين.
قال ابن كثير:(والقول الأوّل عن ابن عبّاسٍ أصحّ سندًا ومعنًى؛ لأنّ النّاس كانوا على ملّة آدم، عليه السّلام، حتّى عبدوا الأصنام، فبعث اللّه إليهم نوحًا، عليه السّلام، فكان أوّل رسولٍ بعثه اللّه إلى أهل الأرض).
وعند النظر في الأقوال لا نجد بينها تعارضا حقيقيا لكنه اقرب إلى التفسير بضرب المثال:
فآدم وحواء كانا على الفطرة,
ولما أخذ الله الميثاق من ذريتهم كانوا على الفطرة, وهو الأصل في الإنسان عند ولادته كما أخبر بذلك عليه الصلاة والسلا:"كل مولود يولد على الفطرة..."الحديث,
وكانت القرون بين آدم ونوح على الإسلام حتى وقع الكفر في قوم نوح فبعثه الله إليهم وكانوا جميعا على الكفر حين مبعثه, ولم يؤمن معه إلا قليل مع لبثه فيهم ألف سنة إلا خمسين عاما,
وجميع الأقوام الذين أرسل إليهم الرسل كانوا على الكفر, لذلك أرسل الله غليهم الرسل,
وهذا عام في جميع الأقوام, وعام من حيث جنس الإنسان إذا ابتعد عن الوحي وأعرض عما جاءت به الرسل ولم يعمل بما أنزلت به الكتب.
3. اكتب رسالة مختصرة بالأسلوب الوعظي في تفسير قوله تعالى:
{زيّن للذين كفروا الحياة الدنيا ويسخرون من الذين آمنوا والذين اتّقوا فوقهم يوم القيامة والله يرزق من يشاء بغير حساب}.
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله والصلاة والسلام على نبيه محمد وعلى آله وصحبه وبعد:
اليوم نقف مع تأملات في قوله تعالى:{زيّن للذين كفروا الحياة الدنيا ويسخرون من الذين آمنوا والذين اتّقوا فوقهم يوم القيامة والله يرزق من يشاء بغير حساب}.
ولكي يفهم العبد هذه الآية ويتدبرها ويقف على حقيقتها, ويقرأها بنور البصيرة لا فقط قراءة حروف سطر: عليه أن يرجع ويفتش عن حقيقة أربعة اشياء:
الأول: حقيقته هو نفسه.
الثاني: سبب وجوده في هذه الدنيا.
الثالث: حقيقة الدنيا.
الرابع: التعرف على الخالق.
ومثل هذه الأمور المصيرية لا تكون معرفتها إلا عن طريق القرآن, فهو المنهج وفيه الهدى والبيان والبصائر, فصلت آياته وأحكمت من لدن عزيز عليم خبير حكيم.
فتعالوا لننظر ونرى بماذا أجاب القرآن عن هذه التساؤلات:
أما الإنسان: فقد جاء وصفه في القرآن بعدة صفات منها: {هلوعا}ومنها {جزوعا}ومنها إنه {لفي خسر} ومنها {عجولا}ومنها{ضعيفا} ومنها إنه {وكان الإنسان أكثر شيء جدلا}, وفي حال النعمة {أَعْرَضَ وَنَأَىٰ بِجَانِبِهِ } وفي حال الضر والشر {كَانَ يَئُوسًا} وغيرها من الصفات المذمومة التي جاء ذكرها في القرآن الكريم.
فجنس الإنسان من حيث الجنس: إذا تجرد عن الإيمان غرق في صفات الضعف والنقص, وكان حاله مذموما لا محمودا.
أما سبب وجوده في هذه الدنيا, فقد قال تعالى فيه:{وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون}, وقال:{وإياي فاعبدون} وغيرها مما يشبهها من الآيات.
أما حقيقة الدنيا فقد صفها الله بقوله:{وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا كَمَاءٍ أَنْزَلْنَاهُ مِنَ السَّمَاءِ فَاخْتَلَطَ بِهِ نَبَاتُ الأَرْضِ فَأَصْبَحَ هَشِيمًا تَذْرُوهُ الرِّيَاحُ وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ مُقْتَدِرًا}.
أما معرفة الرب من خلال القرآن الكريم: فالقرآن بكامله يتكلم عن هذا الأمر, فمعرفة الله بأسمائه وأوصافه وأفعاله سبحانه لا تكون إلا عن طريق القرآن والسنة, قال تعالى:{ألا له الخلق والأمر}, وقال:{هو الحي الذي لا يموت} وقال:{ولا ييظلم ربك أحدا} وغيرها الكثير من الآيات.
فإن علم العبد ذلك وأيقنه : تأمل قوله تعالى: {زيّن للذين كفروا الحياة الدنيا ويسخرون من الذين آمنوا} بعين البصير المعتبر:
فيعلم بأن الكافر لم يعرف حقيقية الدنيا, فأعماه زخرفها وأعمته زينتها فغرق في ملذاتها غير آبه لثواب ولا لعقاب, ولم يصغ سمعه لتحذير ربه له بقوله:{يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ فَلَا تَغُرَّنَّكُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَلَا يَغُرَّنَّكُم بِاللَّهِ الْغَرُورُ} , بل لم ينتبه لتقلبات الزمن وسرعة مروره وذهاب الزينة وذبولها, فهي كما قال تعالى:{زَهْرَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا} وما اسرع ذبول الزهرة وما أسرع موتها!
بل قد أخبر الله تعالى عن حقيقة الدنيا وبين بأنها إن شغلته غرق فيها ولم يحصل أي فائدة منها, قال تعالى:{اعْلَمُوا أَنَّمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَزِينَةٌ وَتَفَاخُرٌ بَيْنَكُمْ وَتَكَاثُرٌ فِي الْأَمْوَالِ وَالْأَوْلَادِ },والكافر لا هم له إلا تحصيل الدنيا فيبدأ باللعب فيلتهي قلبه ويعرض عن البحث عن الحق, وتغره الزينة وتحمله على التفاخر بها فإن تفاخر حمله تفاخره على التكاثر وطلب الزيادة منها ليزيد من تفاخره أمام الناس, فوقع في الغفلة وأي غفلة!!
والكفار على ما هم فيه من الغفلة, حملهم اغترارهم بزينة الدنيا واغترارهم بما فتح الله عليهم منها على الكبر والفخر والبطر واحتقار المسلمين ومن هم أقل منهم واحتقار من لا يحذو حذوهم,
فتاهم يتعاظمون عليهم ويرمونهم بأقبح الأوصاف,
وتراهم يتهمونهم بالرجعية والتخلف ويضعون الملامة على تمسكهم بتعاليم دينهم,
وتراهم يحاولون فرض سيطرتهم على المسلمين: سواء السيطرة الثقافية أو الإعلامية أو العسكرية,
والمسلم ذو البصيرة بآيات ربه عندما يرى تنعم الكافر في الدنيا بما أعطاه الله فيها من صحة وجمال ومال وغيره, لا يغتر بهذا ولا يفتن في دينه, بل يتذكر قوله تعالى:{ لَا يَغُرَّنَّكَ تَقَلُّبُ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي الْبِلَادِ مَتَاعٌ قَلِيلٌ ثُمَّ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمِهَادُ }, فالمؤمن موقن بحكمة ربه وعدله, ويعلم أن الكافر ليس له نصيب في الآخرة, بل ما قد يفعله من خير في الدنيا يوفى إليه أجره فيها, كما قال عليه الصلاة والسلام في الحديث الذي رواه مسلم: "إِنَّ الكَافِرَ إِذَا عَمِلَ حَسَنَةً أُطْعِمَ بِهَا طُعْمَةً في الدُّنيَا، وَأَمَّا المُؤمِن فَإِنَّ اللَّه تَعَالَى يَدَّخِرُ لَهُ حَسَنَاتِهِ في الآخِرَةِ، وَيُعْقِبُهُ رِزْقًا في الدُّنْيَا عَلى طَاعَتِهِ", لذلك قال تعالى في تتمة الآية:{والذين اتّقوا فوقهم يوم القيامة والله يرزق من يشاء بغير حساب}, وهذا كقوله:{لَٰكِنِ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ لَهُمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا نُزُلًا مِّنْ عِندِ اللَّهِ وَمَا عِندَ اللَّهِ خَيْرٌ لِّلْأَبْرَارِ}.
فالدنيا دار عمل وليست بدار حساب, والله يعطي الدنيا لمن يحب ولمن لا يحب, وكما قال عليه الصلاة والسلام:"لو كانت الدنيا تعدل عند الله جناح بعوضة ما سقى كافراً منها شربة ماء".رواه الترمذي وقال:حسن صحيح.
فالكافر ركن إلى الدنيا وتعلق بها بكليتيه, فعمل لها وعاش لها ولم تخطر الآخرة على باله, فهو كما قال تعالى فيه:{إِنَّ الَّذِينَ لَا يَرْجُونَ لِقَاءَنَا وَرَضُوا بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَاطْمَأَنُّوا بِهَا وَالَّذِينَ هُمْ عَنْ آيَاتِنَا غَافِلُونَ أُولَٰئِكَ مَأْوَاهُمُ النَّارُ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ }, فاشتروا الدنيا بالآخرة فبئس الصفقة وبئس البضاعة فلا حظ لهم فيها إلا الخسارة.
أما المؤمن: فقد عمل لآخرته واشتراها بدنياه, فأطاع وانتهى, وأنفق طلبا لمرضاة ربه وقدم أعمالا تسبقه عند من لا يضيع عنده شيئا, فباع ماله ونفسه واشترى الجنة , آثر الدائم على الفاني, آثر العظيم على الوضيع, فنعم الصفقة صفقته, ونعم الربح ربحه, فهو كما قال تعالى:{وَبَشِّرِ الَّذِينَ آمَنُوا أَنَّ لَهُمْ قَدَمَ صِدْقٍ عِندَ رَبِّهِمْ}, لذلك قال تعالى:{والله يرزق من يشاء بغير حساب} فهو سبحانه كما قال عنه النبي عليه الصلاة والسلام في الحديث المتفق عليه:"يد الله ملأى لا تغيضها نفقة ، سحاء الليل والنهار ، أرأيتم ما أنفق مذ خلق السماء والأرض ؟ فإنه لم يغض ما في يده ، وكان عرشه على الماء ، وبيده الميزان يخفض ، ويرفع ) .
هذا والله أعلم, وصل اللهم على محمد وآله وصحبه وسلم.