حرّر القول في واحدة من المسألتين التاليتين:
1: المراد بالأوليّة في قوله تعالى: {إن أول بيت وضع للناس للذي ببكّة}.
اختلفت أقوال المفسرين في المراد بالأولوية في الآية على ثلاثة اقوال :
القول الأول :
إنه أول بيت وضع لعبادة الناس وليس أول بيت وضع في الأرض مما يبنى مطلقا , فالأولية في الآية مقيدة بالنسبة للعبادة , لأنه قد كانت قبله بيوت كثيرة , لكنه اختص بما فيه من البركة والهدى.
وعلى هذا القول يكون معنى الآية : إن أول بيت وضع ليتعبد في الناس ربهم هو بكة .
وهو قول علي رضي الله عنه , والحسن وسعيد.
سأل رجل عليّ فقال : ألا تخبرني عن البيت؟ أهو أوّل بيت وُضع في الأرض؟ فقال: لا ولكنه أول بيت وضع في البرَكة مقامِ إبراهيم، ومن دَخَله كان آمنًا.
رواه الطبري وابن ابي حاتم بطريق عن أبي الأحوص، عن سماك، عن خالد بن عرعرة .
ورواه ابن ابي حاتم وابن المنذر بطريق عن شريك، عن مجالد، عن عامر الشعبي، عن علي، بلفظ : كانت البيوت قبله، ولكن كان أول بيت وضع لعبادة الله.
سأل حفْص الحسنَ عن قوله:"إنّ أوّل بيت وضع للناس للذي ببكة مباركًا" قال، هو أول مسجد عُبد الله فيه في الأرض.
رواه الطبري عن يعقوب عن ابن علية، عن أبي رجاء .
قال مطر في قوله:"إنّ أول بيت وضع للناس للذي ببكة" قال: قد كانت قبله بيوتٌ، ولكنه أول بيت وُضع للعبادة.
رواه الطبري عن عبد الجبار بن يحيى الرملي عن ضمرة، عن ابن شوذب عنه.
واحتج أصحاب هذا القول بما جاء من حديث أبي ذر رضي الله عنه قال قلت يا رسول الله أي مسجد وضع في الأرض أول قال المسجد الحرام قال قلت ثم أي قال المسجد الأقصى قلت كم كان بينهما قال أربعون سنة ثم أينما أدركتك الصلاة بعد فصله فإن الفضل فيه). متفق عليه.
كذلك ما جاء من سبب نزول الآية أن اليهود قالوا للمسلمين: بيت المقدس قبلتنا، وهو أفضل من الكعبة وأقدم، وهو مهاجر الأنبياء، وقال المسلمون بل الكعبة أفضل، فأنزل الله تعالى: ﴿إن أول بيت وضع للناس للذي ببكة مباركا وهدى للعالمين﴾
﴿فيه آيات بينات مقام إبراهيم ومن دخله كان آمنا﴾ وليس شيء من هذه الفضائل لبيت المقدس.
وفي هذا تعريض لأهل الكتاب: فمع كونهم يدعون النسبة إلى إبراهيم عليه السلام , إلا إنهم تركوا قبلته وولوا وجوههم عنها , فلو صدقت مزاعمهم لما قعلوا هذا .
وفي هذا دليل على ما حصل في دينهم من تحريف وتبديل , كما في شأن يوم الجمعة .
لذلك غالبا ما يأتي ذكر إبراهيم عليه السلام -- في معرض الكلام عن أهل الكتاب , خاصة اليهود منهم.
القول الثاني :
إن الأولوية مقيدة بكونه أول قبلة أعملت للناس , وهذا القول من لوازم القول الأول , فلا تعارض بين القولين , فإن كان هو أول بيت وضع للعباد فليزم أن يكون هو قبلة العباد .
وهو قول الحسن حيث قال : أول قبلة أعملت للناس المسجد الحرام.
رواه ابن المنذر عن محمد بن إسماعيل عن عفان عن خالد بن الحارث عن أشعث عنه.
القول الثالث :
إن الأولوية مطلقة غير مختصة بالعبادة بل متعلقة بأولوية وجود البيت على الأرض , فهو أول بيت وضع للناس على الأرض مطلقا.
وعلى هذا القول يكون المراد مكان وموضع الكعبة , فموضع الكعبة هو موضع أول بيت وضعه الله في الأرض , ويكون رفع إبراهيم عليه السلام القواعد تجديدا للبيت لا بناء من الأساس .
فهذا القول تمسك اصحابه بظاهر ألفاظ الآية , فظاهرها أن الكعبة أول البيوت المبنية في الأرض .
واحتج أصحابه بآثار نذكر بعضها , وننبه على كونها لا تصلح للاحتجاج.
واختلف أصحاب هذا القول في صفة وضعه على أقوال :
1- قال بعضهم : خلق قبل جميع الأرَضين، ثم دُحِيت الأرَضون من تحته , فهو أول بيت ظهر على وجه الماء عند خلقالسماء والأرض.
وهو قول عبدالله بن عمرو , ومجاهد , وقتادة , والسدي .
قال عبد الله بن عمرو : خلق الله البيتَ قبل الأرض بألفي سنة، وكان -إذ كان عرشه على الماء- زَبْدةً بيضاءَ، فدحيتُ الأرض من تحته.
رواه الطبري عن محمد بن عمارة الأسدي عن عبيد الله بن موسى عن شيبان، عن الأعمش، عن بكير بن الأخنس، عن مجاهد، عنه.
قال مجاهدًا : إنّ أول ما خلق الله الكعبةَ، ثم دَحى الأرض من تحتها.
رواه الطبري عن محمد بن عبد الملك بن أبي الشوارب عن عبد الواحد بن زياد عن خصيف .
ورواه ابن المنذر، والطبراني، والبيهقي في شعب الإيمان . ذكره السيوطي.
2- وقال آخرون : هو أول بيت بني في الأرض.
قال قتادة: ذُكر لنا أن البيتَ هبط مع آدم حين هبط، قال: أهبِط معك بيتي يُطاف حوله كما يطاف حول عرشي. فطاف حوله آدم ومن كان بَعده من المؤمنين، حتى إذا كان زمنُ الطوفان، زَمنَ أغرقَ الله قوم نوح، رَفعه الله وطهَّره من أن يصيبهُ عقوبة أهل الأرض، فصار معمورًا في السماء. ثم إنّ إبراهيم تتبع منه أثرًا بعد ذلك، فبناه على أساسٍ قديم كانَ قبله.
رواه الطبري عن بشر عن يزيد عن سعيد، عنه.
ورواه ابن المنذر عن النجار عن عبد الرزاق عن معمر عن قتادة.
روى عبد الله بن عمرو بن العاص مرفوعا: "بعث الله جبريل إلى آدم وحواء، فأمرهما ببناء الكعبة، فبناه آدم، ثم أمر بالطواف به، وقيل له: أنت أول الناس، وهذا أول بيت وضع للناس".
رواه البيهقي في كتابه دلائل النبوة، من طريق ابن لهيعة، عن يزيد بن أبي حبيب، عن أبي الخير، وقال : تفرد به ابن لهيعة هكذا مرفوعا.
ورواه ابن المنذر عن محمد بن إسماعيل الصائغ , عن إسماعيل بن عبد الكريم الصنعاني , عن عبدالصمد بن معقل عن وهب بن منبه.
قال ابن كثير بعد أن أورده : فإنه كما ترى من مفردات ابن لهيعة، وهو ضعيف. والأشبه، والله أعلم، أن يكون هذا موقوفا على عبد الله بن عمرو. ويكون من الزاملتين اللتين أصابهما يوم اليرموك، من كلام أهل الكتاب.
الراجح :
القول الأول , والثاني والله أعلم , لما جاء من حديث أبي ذر رضي الله عنه قال قلت يا رسول الله أي مسجد وضع في الأرض أول قال المسجد الحرام قال قلت ثم أي قال المسجد الأقصى قلت كم كان بينهما قال أربعون سنة ثم أينما أدركتك الصلاة بعد فصله فإن الفضل فيه). متفق عليه.
ولكون القول الثاني قام على آثار لا تصح , قال ابن عطية : ورويت في هذا أقاصيص من نزول آدم به من الجنة ومن تحديد حدد ما بين خلقه ودحو الأرض، ونحو ما قال الزجاج من أنه البيت المعمور، أسانيدها ضعاف فلذلك تركتها.
كما إن الأولوية في الآية قيدت ب (الناس) , وهذا يقتضي أنه وضع لمصلحة الناس ، لأنه لو كان بيت سكنى لقيل وضعه الناس . , فالكلام عن وضع بيت للناس بغرض عبادة الله وتعظيمه , وإقامة شعائره فهو أول بيت من بيوت الهدى , فكان ذكر الأولية موجب للتفضيل من جهة طول أزمان التعبد فيها ، لذلك وصفه الله في آية أخرى بقوله :{العتيق} أي : القديم , على قول .
وهو على هذا قبلة المصلين والمؤمنين , كما قال تعالى لما :{وَإِذْ بَوَّأْنَا لِإِبْرَاهِيمَ مَكَانَ الْبَيْتِ أَن لَّا تُشْرِكْ بِي شَيْئًا وَطَهِّرْ بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْقَائِمِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ } , وقال :{وعهدنا إلى إبراهيم وإسماعيل أن طهرا بيتي للطائفين والعاكفين والركع السجود} .
وقد ذكر ابن القيم في معرض حديثه عن خصائص البيت الحرام , ومنها :
بل ومن خصائصها كونها قبلة لأهل الأرض كلهم، فليس على وجه الأرض قبلة غيرها.
وقال : ومن خواصها أيضا أن المسجد الحرام أول مسجد وضع في الأرض.
وقد رجح هذا القول الطبري وابن كثير وابن عطية وغيرهم .
قال الطبري : (والصواب من القول في ذلك ما قال جل ثناؤه فيه: إن أول بيت مباركٍ وهُدًى وُضع للناس، للذي ببكة. ومعنى ذلك:"إن أول بيت وضع للناس"، أي: لعبادة الله فيه "مباركًا وهدًى"، يعني بذلك: ومآبًا لنُسْك الناسكين وطواف الطائفين، تعظيما لله وإجلالا له "للذي ببكة" لصحة الخبر بذلك عن رسول الله ﷺ...).