الحالُ نوعانِ: مُؤكِّدَةٌ, وستأتي, ومُؤَسِّسَةٌ, وهي: وَصْفٌ فَضْلَةٌ مذكورٌ لبيانِ الهيئةِ كـ: "جِئْتُ رَاكِباً", و:"ضَرَبْتُهُ مَكْتُوفاً", و:"لَقِيتُهُ رَاكبيْنِ"([2]).
وخرَجَ بذكرِ الوصْفِ نحوُ: "القَهْقَرَى", في: "رَجَعْتُ القَهْقَرَى"([3]).
وبذكرِ الفَضْلَةِ الخبرُ في نحوِ: "زيدٌ ضاحِكٌ".
وبالباقي التمييزُ في نحوِ: "للَّهِ دَرُّهُ فَارِساً", والنعْتُ في نحوِ: "جَاءَنِي رجُلٌ رَاكِبٌ"؛ فإنَّ ذِكْرَ التمييزِ لبيانِ جنسِ المُتعَجَّبِ منه, وذِكْرَ النعْتِ لتخصيصِ المنعوتِ, وإنَّما وقعَ بيانُ الهيئةِ بهما ضِمناً, لا قَصْداً.
وقالَ الناظِمُ:
الحالُ وَصْفٌ فَضْلَةٌ مُنْتَصِبُ = مُفْهِمُ فِي حَالِ كذا......
فالوصفُ: جنسٌ يَشْمَلُ الخبرَ والنعتَ والحالَ, وفَضْلَةٌ مُخرِجٌ للخبرِ, ومُنْتصِبٌ([4]) مُخْرِجٌ لنعتَيِ المرفوعِ والمخفوضِ؛ كـ: "جَاءَنِي رجُلٌ رَاكِبٌ", و"مَرَرْتُ برَجُلٍ راكِبٍ", ومُفْهِمُ في حالِ كذا: مُخْرِجٌ لنعتِ المنصوبِ؛ كـ "رأَيْتُ رَجُلاً رَاكِباً"؛ فإنَّه إنَّما سِيقَ لتقييدِ المنعوتِ, فهو لا يُفْهِمُ في حالِ كذا بطريقِ القَصْدِ, وإنَّما أفْهَمَه بطريقِ اللُّزومِ.
وفي هذا الحدِّ نَظَرٌ؛ لأنَّ النصْبَ حُكْمٌ, والحكمَ فَرْعُ التصَوُّرِ والتصَوُّرَ مُتوَقِّفٌ على الحدِّ؛ فجاءَ الدَّوْرُ.
فَصْلٌ: للحالِ([5]) أربعةُ أوصافٍ:
أحدُها: أنْ تَكُونَ مُنتقِلَةً([6]) لا ثابتةً, وذلكَ غَالِبٌ, لا لازمٌ؛ كـ: "جاءَ زيدٌ ضَاحِكاً".
وتقَعُ وصْفاً ثابتاً([7]) في ثلاثِ مَسائِلَ:
إحداها: أنْ تَكُونَ مُؤكِّدَةً نحو: "زَيدٌ أبوكَ عَطُوفاً" و: {يَوْمَ أُبْعَثُ حَيًّا}([8]).
الثانيةُ: أنْ يدُلَّ عامِلُها على تَجَدُّدِ صاحبِها([9]) نحوُ: "خَلَقَ اللهُ الزَّرافَةَ يَدَيْها أطولَ مِن رِجْلَيْها", فـ "يَدَيْها" بدَلٌ بعضٍ, و"أطْوَلَ" حالٌ مُلازِمَةٌ.
الثالثةُ: نحوُ: {قَائِماً بالقِسْطِ}([10]) ونحوُ: {أَنْزَلَ إِلَيْكُمُ الْكِتَابَ مُفَصًّلا}([11])،ولا ضَابِطَ لذلك, بل هو موقوفٌ على السماعِ, ووَهِمَ ابنُ الناظمِ فمَثَّلَ بمُفَصًّلا في الآيةِ للحالِ التي تَجَدَّدَ صاحِبُها.
الثاني: أنْ تَكُونَ مُشتقَّةً لا جَامِدةً, وذلك أيضاً غَالِبٌ, لا لازِمٌ.
وتقَعُ جامدةً مُؤَوَّلةً بالمُشتقِّ في ثلاثِ مَسائِلَ:
إحداها: أنْ تدُلَّ على تشبيهٍ نحوَ: "كَرَّ زيدٌ أسَداً", و:"بَدَتِ الجاريةُ قَمَرا,ً وتَثَنَّتْ غُصْناً", أي: شُجاعاً, ومُضِيئةً, ومُعْتدِلةً([12])،وقالوا: "وقَعَ المُصْطَرِعانِ عِدْلَي عَيْرٍ" أي: مُصْطَحِبيْنِ اصطحابَ عِدْلَي حمارٍ حِينَ سُقوطِهما.
الثانيةُ: أنْ تدُلَّ على مفاعلةٍ نحوَ: "بِعْتُه يَداً بيَدٍ"([13]) أي: مُتقابضيْنِ, و"كَلَّمتُه فَاهً إلى فِيَّ" أي: مُتشافهَيْنِ.
الثالثةُ: أنْ تدُلَّ على ترتيبٍ كـ: "ادْخُلُوا رَجُلاً رجُلاً" أي: مُترتِّبِينَ.
وتقَعُ جامدةً غيرَ مُؤوَّلةٍ بالمشتقِّ في سبعِ مسائلَ وهي:
أنْ تكونَ مَوْصوفةً نحوَ: {قُرْآناً عَرَبِيًّا}([14]) {فتَمَثَّلَ لَهَا بَشَراً سَوِيًّا}([15]) وتُسَمَّى حالاً مُوطِّئِةً([16]).
أو دَالَّةً على سِعْرٍ نحوَ: "بِعْتُه مُدًّا بكذا".
أو عددٍ نحوَ: {فَتَمَّ مِيقَاتُ رَبِّهِ أَرْبَعِينَ لَيْلَةً}([17]).
أو طَوْرٍ واقعٍ فيه تفضيلٌ نحوَ: "هذا بُسْراً أطْيَبُ منه رُطَباً".
أو تَكُونَ نوعاً لصاحبِها نحوَ: "هَذَا مَالُكَ ذَهَباً".
أو فَرْعاً نحوَ: "هَذا حَدِيدُكَ خَاتَماً", و: {تَنْحِتُونَ الْجِبَالَ بُيُوتاً}([18]).
أو أصْلاً له نحوَ: "هذا خَاتَمُكَ حَدِيداً", و{أَأَسْجُدُ لِمَنْ خَلَقْتَ طِيناً}([19]).
تنبيهٌ: أكثرُ هذه الأنواعِ وُقوعاً مسألةُ التسعيرِ والمسائلُ الثلاثُ الأُوَلُ, وإلى ذلك يُشِيرُ قولُه([20]):
ويَكْثُرُ الجُمودُ فِي سِعْرٍ وَفِي = مُبْدِي تَأَوُّلٍ بِلاَ تَكَلُّفِ
ويُفْهَمُ منه أنَّها تقَعُ جامدةً في مواضِعَ أُخَرَ بقِلَّةٍ, وأنَّها لا تُؤَوَّلُ بالمشتقِّ كما لا تُؤوَّلُ الواقعةُ في التسعيرِ, وقد بَيَّنْتُها كُلَّها.
وزعَمَ ابنُه أنَّ الجميعَ مُؤَوَّلٌ بالمشتقِّ([21]) وهو تَكَلُّفٌ, وإنَّما قُلْنا به في الثلاثِ الأُوَلِ؛ لأنَّ اللفظَ فيها مُرادٌ به غيرُ معناهُ الحقيقيِّ, فالتأويلُ فيها واجِبٌ.
الثالِثُ: أنْ تَكُونَ نَكِرَةً لا معرفةً([22]) وذلك لازِمٌ, فإنْ ورَدَتْ بلفظِ المعرفةِ أُوِّلَتْ بنكرةٍ قالوا: "جاءَ وحْدَه"([23]) أي: مُنفرِداً, و"رجَعَ عَوْدَه على بَدْئِه"([24]) أي: عائداً, و"ادْخُلُوا الأوَّلَ فالأوَّلَ"([25]) أي: مُترتِّبِينَ, و"جَاؤُوا الجَمَّاءَ الغفيرَ"([26])،أي: جَمِيعاً و"أَرْسَلَها العِرَاكَ"([27]) أي: مُعْتَرِكَةً.
الرابِعُ: أنْ تَكُونَ نفسَ صاحبِها في المعنَى؛ فلذلك جازَ: "جاءَ زيدٌ ضَاحِكاً", وامْتَنَعَ "جاءَ زيدٌ ضَحِكاً".
وقد جاءَتْ مَصَادِرُ أحوالاً بقِلَّةٍ في المعارفِ؛ كـ "جاءَ وَحْدَه" و"أرْسَلَها العِراكَ".
وبكثرةٍ في النَّكِراتِ([28])؛كـ "طَلَعَ بَغْتَةً", و:"جاءَ رَكْضاً", و: "قَتَلْتُه صَبْراً" وذلك على التأويلِ بالوصْفِ, أي: مُباغِتاً, ورَاكِضاً, ومَصْبوراً, أي: مَحْبوساً.
ومعَ كثرةِ ذلك فقالَ الجمهورُ: لا يَنقاسُ مُطْلقاً, وقَاسَهُ المُبَرِّدُ فيما كانَ نَوْعاً من العاملِ فأجازَ: "جاءَ زَيْدٌ سُرْعَةً", ومَنَعَ: "جاءَ زيدٌ ضَحِكاً", وقاسَه الناظمُ وابنُه بعدَ "أمَّا" نحوَ: "أمَّا عِلْماً فعَالِمٌ", أي: مَهْمَا يُذْكَرُ شَخْصٌ في حالِ عِلْمٍ فالمذكورُ عَالِمٌ, وبعدَ خبرٍ شُبِّهِ بهِ مبتدؤُه؛ كـ "زيدٌ زُهَيْرٌ شِعْراً" أو قُرِنَ هو بـ"أل" الدالِّ على الكمالِ نحو: "أنتَ الرجُلُ عِلْماً".
([1]) اعلَمْ أنَّ لفظَ الحالِ يُذَكَّرُ فيقالُ:"حَالٌ". ويُؤَنَّثُ فيُقالُ:"حَالَةٌ". بالتاءِ، وأنَّ معناه قد يُذَكَّرُ، فيعودُ الضميرُ عليهِ مُذَكَّراً، ويُسْنَدُ إليه الفعلُ الماضي بغيرِ تاءٍ، ويُشارُ إليه باسمِ الإشارةِ الموضوعِ للمُذَكَّرِ، ويُوصَفُ بما يُوصَفُ به المُذَكَّرُ، وغيرُ ذلك مِمَّا لا يَعْسُرُ عليكَ استقصاؤُه، وقدْ يُؤَنَّثُ معناه، فيعودُ الضميرُ عليهِ مُؤنَّثاً، ويُسنَدُ إليه الفعلُ الماضي مُقترِناً بتاءِ التأنيثِ، ويُشارُ إليهِ باسمِ الإشارةِ الموضوعِ للمؤنَّثِ، ويُوصَفُ بما يُوصَفُ بهِ المُؤَنَّثُ، ومن شَواهدِ تذكيرِ لفظِ الحالِ قولُ الشاعرِ:
إِذَا أعْجَبَتْكَ الدَّهْرَ حَالٌ مِن امْرِئٍ = فدَعْهُ ووَاكِلْ أمْرَهُ واللَّيالِيَا
ومن شواهدِ تأنيثِ لَفْظِها قولُ الفَرَزْدَقِ:
على حَالةٍ لو أنَّ في القومِ حَاتِماً = على جُودِه ضَنَّتْ بهِ نَفْسُ حَاتِمِ
فإذا كانَ لفظُ الحالِ مُذَكَّراً فأنتَ في سَعةِ من أنْ تُذَكِّرَ معناه أو تُؤنَّثَه، تقولُ: هذا حالٌ، وهذه حالٌ، وحالٌ حَسَنٌ، وحالٌ حَسَنَةٌ، والحالُ الذي أنا فيه طَيِّبٌ، والحالُ التي أنا فِيها طَيِّبَةٌ، وكانَ حَالُنا يومَ كذا جَمِيلاً، وكانتْ حَالُنا يومَ كذا جميلةً. وتأمَّلْ في قولِ الشاعرِ:"أعْجَبَتْكَ الدَّهْرَ حَالٌ". فقد أسنَدَ الفعلَ الماضِيَ إلى لفظِ الحالِ المُذكَّرِ مُقترِناً بتاءِ التأنيثِ، وقالَ أبو الطَّيِّبِ المُتنَبِّي:
لا خَيْلَ عِنْدَكَ تُهدِيهَا وَلاَ مَالُ = فَلْيُسْعِدِ النُّطْقُ إِنْ لَمْ يُسْعِدِ الحالُ
فذَكَّرَها لَفْظاً ومعنًى في قولِه:"يُسْعِدِ الحَالُ".
وأمَّا إذا كانَ لفظُ الحالِ مُؤَنَّثاً فليسَ لكَ مَعْدًى عن تأنيثِ الفعلِ الذي تُسْنِدُه إليها، وتَأنِيثِ الإشارةِ إليها، وتأنيثِ وَصْفِها، وتأنيثِ ما تُخْبِرُ به عنها، وهَلُمَّ جَرًّا.
([2]) الحالُ المُؤَكِّدَةُ هي التي يُستفادُ معناها بدونِ ذِكْرِها، وذلك بأنْ يدُلَّ عَامِلُها على معناها نحوُ قولِكَ:"لا تَعْثَ في الأرضِ مُفْسِداً". أو يدُلَّ صاحبُها على معناها، نحوُ قولِه تعالى: {إِلَيْهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعاً}. أو تَدُلَّ على معناها جملةٌ سابقةٌ نحوُ قولِكَ: (زَيْدٌ أبوكَ عَطُوفاً). وسيأتي ذِكْرُ ذلك كُلِّه.
والحالُ المُؤسِّسَةُ – ويُقالُ لها: المُبَيِّنَةُ – هي التي لا يُستفادُ معناها إلاَّ بذِكْرِها، وهي التي عَرَّفَها المُؤلِّفُ بهذا التعريفِ.
والأمثلةُ الثلاثةُ التي ذكَرَها المُؤلِّفُ أَوَّلُها الحالُ فيها من الفاعلِ، وثانيها الحالُ فيها من المفعولِ، وثَالِثُها الحالُ فيها من الفاعلِ والمفعولِ جَمِيعاً.
([3]) القَهْقَرَى – بفتحِالقافيْنِ بينَها هاءٌ ساكنةٌ، مَقْصوراً – ومثلُه القَهْقَرَةُ – بتاءٍ مَكانَ الألفِ– الرُّجوعُ إلى خَلْفٍ. وتُثَنَّى القَهْقَرَى على القَهْقَرَيْنِ، بحذفِ الألفِ، والقياسُ يَقْتَضِي قَلْبَها ياءً فتقولُ: القَهْقَرِيَّانِ والقَهْقَرِيَّيْنِ، ولم يذكُرِ المجدُ في (القاموسِ) القَهْقَرَةُ بالتاءِ، وإِنَّما خرجَ هذا بذكرِ الوصْفِ؛ لأنَّه مَصْدَرٌ، وليسَ وَصْفاً, فإعرابُه على أنَّه مفعولٌ مُطْلَقٌ مُبيِّنٌ لنوعِ العاملِ؛ لأنَّ القَهْقَرَى نوعٌ من أنواعِ مُجرَّدِ الرجوعِ، وقد تَقدَّمَ ذِكْرُ ذلك في بابِ المفعولِالمُطْلَقِ، فارْجِعْ إليهِ هناكَ إنْ شِئْتَ.
والمرادُ بالوَصْفِ ما كانَ صَرِيحاً؛ كاسمِ الفاعلِ واسمِ المَفْعولِ، أو مُؤَوَّلاً كالجملةِ في نحوِ قولِكَ: "جَاءَنِي زيدٌ يَضْحَكُ". فإنَّه في قُوَّةِ قَوْلِكَ: جَاءَنِي زَيدٌ ضاحكاً، وكالظرفِ والجارِّ والمجرورِ في نحوِ قولِكَ:"لَقِيتُ زَيداً عِنْدَكَ، أو في دَارِكَ".
([4]) قد تأتي الحالُ مَجْرورةً بحرفِ جَرٍّ زائدٍ، وقد مَثَّلوا لذلكَ بقراءةِ مَن قرَأَ: (مَا كَانَ يَنْبَغِي لَنَا أَنْ نُتَّخَذَ مِنْ دُونِكَ أَوْلِيَاءَ) من الآيةِ 18 من سورةِ الفرقانِ– ببناءِ (نُتَّخَذَ)للمجهولِ؛ فإنَّ (أَوْلِيَاءَ)حالٌ, وهو مجرورٌ بمِن زائدةٍ، والتقديرُ: أنْ نُتَّخَذَ مِن دُونِكَ أَوْلِيَاءَ، ومثلُ ذلك قولُ الشاعرِ:
فَمَا رَجَعَتْ بِخَائِبَةٍ رِكَابٌ = حَكِيمُ بنُ المُسَيَّبِ مُنْتَهَاهَا
تقديرُه: فما رَجَعَتْ خَائِبَةً رِكَابٌ... إلخ.
([5]) المرادُ في هذا المقامِ الحالُ من حيثُ هي، أي: بقطعِ النظَرِ عن كونِها مُؤَسِّسةً أو مُؤَكِّدَةً، فلا يُقالُ: إنَّ كلامَ المُؤلِّفِ في خُصوصِ الحالِ المُؤَسِّسَةِ؛ لأنه قَالَ في أولِ البابِ: (الحالُ نَوعانِ: مُؤَكِّدَةٌ وستأتي، ومُؤَسِّسَةٌ وهي ... إلخ) ثم عَرَّفَها، ولو كانَ غَرَضُه ما تَوَهَّمَه المُتَوَهِّمُ لَمَا صَحَّ أنْ يجعَلَ من الثابتةِ المُؤَكِّدَةَ لمضمونِ جملةٍ؛ لأنَّه يَكونُ من تقسيمِ الشيءِ إلى نفسِه وغيرِه، وهو لا يَجوزُ، لكنْ إذا كانَ الغرَضُ هنا – كما قُلْنا – هو الحالَ من حيثُ هي, لم يُرَدَّ ذلك الكلامُ، فتَأمَّلْ ذلك.
([6]) إنَّما كانَ الأصلُ في الحالِ أنْ تكُونَ مُتنقِلَةً, أي: تُفارِقَ صَاحِبَها, ويكونَ مُتَّصِفاً بغيرِها؛ لأنَّ لفظَ الحالِ نفسَه يُنْبِئُ عن ذلك ويدُلُّ عليه، أفلا تَرَى أنَّ الحالَ والتحَوُّلَ – الذي هو الانتقالُ من مادَّةٍ واحدةٍ؟ وفي المثالِ الذي ذكَرَه المُؤلِّفُ للحالِ المُتنقِلةِ تَجِدُ الضَّحِكَ يُزايِلُ زَيْداً ويُفارِقُه, فيكونُ مُتَّصِفاً بصفةٍ أُخْرَى غيرِه، سواءٌ أكانتْ هذهِ الصفةُ الأخرى مُضادَّةً للحالِ؛ كالبُكاءِ أم لَمْ تَكُنْ مُضادَّةً؛ كالركوبِ.
([7]) المرادُ بالثباتِ اللزومُ وعَدَمُ المفارقةِ، بدليلِ مقابلتِها بالمتنقلةِ وتفسيرِهم الانتقالَ بكونِها تُفارِقُ صاحبَها، ثم إنَّ اللزومَ يَكونُ بسببِ وجودِ عَلاقةٍ بينَ الحالِ وبينَ صاحبِها أو عَامِلِها؛ عَقْلاً، أو عَادَةً، أو طَبْعاً، وإنْ لم تَكُنْ في نفسِها دائمةً، وقدْ مَثَّلَ المُؤلِّفُ للحالِ الثابتةِ في المسألةِ الأولى بمثاليْنِ: الأولُ: للحالِ المُؤَكِّدَةِ لمضمونِ جملةٍ قَبْلَها، وهو "زَيْدٌ أبوكَ عَطُوفاً"، والأُبوَّةُ من شأنِها العطْفُ، والثاني: للحالِ المُؤَكِّدَةِ لعامِلِها وهو قولُه تعالى: {يَوْمَ أُبْعَثُ حَيًّا}. والبعْثُ من لازمِه الحياةُ، وبَقِيَ عليه نوعٌ ثالثٌ, وهي الحالُ المُؤَكِّدَةُ لصاحبِها، ومثالُ ذلك قولُه تعالى: {لَآمَنَ مَنْ فِي الأَرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعاً}. فإنَّ{جَمِيعاً} مُؤَكِّدٌ لـ{مَن}؛ لأنَّ"مَن" لفظٌ من الألفاظِ الدالَّةِ على العمومِ، والعمومُ يَقْتَضِي الاجتماعَ، فكلُّ واحدٍ من هذهِ الأنواعِ الثلاثةِ مُستفادٌ مِمَّا قبلَه، لهذا كانَتِ الحالُ مُؤَكِّدَةً.
([8]) سورة مَرْيَمَ، الآية: 33.
([9]) الدالُّ على التجَدُّدِ في هذا المثالِ هو قولُهم: (خَلَقَ). فإنَّه يدُلُّ على تجَدُّدِ المخلوقِ وحُدوثِه، وخَلَقَ هو العامِلُ في الحالِ وفي صاحبِها، وبَقِيَ في هذا النوعِ قِسْمٌ آخَرُ, وهو ما كانَ الدالُّ على التجَدُّدِ هو العامِلَ أيضاً, لكنَّ المُتجَدِّدَ والمُحْدَثَ وَصْفٌ من أوصافِ صاحبِها، ومثالُها قولُه تعالى: {وَهُوَ الَّذِي أَنْزَلَ إِلَيْكُمُ الْكِتَابَ مُفَصَّلاً}. فمُفَصَّلاً حَالٌ من الكتابِ، والكتابُ قَدِيمٌ, فلا يُوصَفُ بتجَدُّدٍ وحدوثٍ، لكنَّ نزولَه على الرسولِ حادثٌ، واعتبارُ هذه الآيةِ مِمَّا دَلَّ على تجَدُّدِ صاحبِها على الوجهِ الذي شَرَحْناه مما وافَقْنا فيه ما ذهَبَ إليه ابنُ الناظمِ، والمُؤلِّفُ لم يَعْتبِرْه هنا منه.
([10]) سورة آلِ عِمْرانَ، الآية: 18.
([11]) سورة الأنعامِ، الآية: 114.
([12]) ومثلُ ذلك قَوْلُ الشاعرِ (وهو أبو الطَّيِّبِ المُتَنَبِّي):
بَدَتْ قَمَراً، ومَالَتْ غُصْنَ بَانٍ = وفَاحَتْ عَنْبراً، ورَنَتْغَزَالاً
وقولُ هندِ بنتِ عُتْبةَ بنِ رَبِيعةَ أُمِّ مُعاويةَ بنِ أبي سُفْيانَ:
أَفِي السِّلْمِ أعْياراً جَفَاءً وغِلْظَةً = وفي الحَرْبِ أشْبَاهَ النِّساءِ العَوَارِكِ
ومنه قولُ رجلٍ من أصحابِ أبي السِّبْطَيْنِ عَلِيِّ بنِ أبي طالِبٍ:
فَمَا بَالُنَا أمْسِ أُسْدَ العَرِينِ؟ = ومَا بَالُنَا اليَوْمَ شَاءَ النَّجَفْ؟
ومنه قولُ جريرٍ من قصيدةٍ يَهْجُو الأخْطَلَ:
مَشَقَ الهَوَاجِرُ لَحْمَهُنَّ مَعَ السُّرَى = حَتَّى ذَهَبْنَ كَلاكِلاً وصُدُوراً
وتقديرُ هذهِ الأحوالِ بالمُشتَقِّ يَحتمِلُ وجهيْنِ: الأولُ: أنْ تُقَدِّرَ قبلَ الاسمِ الجامدِ كلمةً لا تَتعرَّفُ بالإضافةِ نحوُ:"مِثْل" فتَجْعَلَها حَالا،ً وتُقَدِّرَ أنَّها كانَتْ مُضافةً إلى هذا الاسمِ الجامدِ، ثم حُذِفَ المضافُ وأُقِيمَ المضافُ إليه مُقامُه، أي: بَدَتْ مثلَ قَمَرٍ, ومالَتْ مِثْلَ غُصْنِ بانٍ, وفاحَتْ مِثْلَ عَنْبَرٍ, ورَنَتْ مِثْلَ غزالٍ، وفي السِّلْمِ مِثْلَ أعيارٍ، وما بَالُنَا أمسِ مِثْلَ أُسْدِ العَرِينِ, وما بَالُنا اليومَ مثلَ شاءِ النَّجَفِ، والثاني: أنْ تُقَدِّرَ نفسَ الاسمِ الجامدِ قَائِماً مقامَ اسمٍ مُشتَقٍّ، وكأنَّه قِيلَ: بَدَت وَضِيئةً ومَالَتْ مُهْتَزَّةً، وفي السِّلْمِ شُجْعاناً, وفي الحربِ جُبَناءَ، وما بَالُنا أمسِ شُجْعاناً, وما بَالُنا اليومَ ضُعفاءَ، وهَلُمَّ جَرًّا.
([13]) يجوزُ في قولِكَ: (يَداً بيَدٍ). رفعُ يَدٍ الأولى ونَصْبُها، فأمَّا إذا قُلْتَها بالرفعِ فهي مُبْتدأٌ، والجارُّ والمجرورُ بعدَها مُتعلِّقٌ بمحذوفٍ خَبَرٌ، ولكلٍّ من يَدٍ المرفوعِ ويَدٍ المجرورِ بالباءِ وَصْفٌ محذوفٍ، أي: يَدٌ منه، مُصاحِبَةٌ ليَدٍ مِنِّي، وهذهِ الصفةُ المُقدَّرَةُ هي التي سَوَّغَتِ الابتداءَ بالنكرةِ، جملةُ المبتدأِ والخبرِ في مَحلِّ نصبٍ حالٌ، وإذا قُلْتَ: "يَداً". بالنصْبِ, فهي حَالٌ، واختلَفَتْ عبارةُ النحاةِ في الجارِّ والمجرورِ بعدَه، فيذكُرُ الشيخُ خالِدٌ نقْلاً عن ابنِ هشامٍ أنَّ سِيبَوَيْهِ يجعَلُه للبيانِ، يعني أنَّه مُتعَلِّقٌ بمحذوفٍ مقصودٍ به البيانُ، وفيه معنَى المفاعلةِ، ويذكُرُ الصَّبَّانُ أنه مُتعلِّقٌ بمحذوفٍ, صفةٌ للحالِ، أي: يداً معَ يَدٍ، ويقالُ مثلُ هذا الكلامِ في قولِهم: (مُدًّا بكَذَا).
([14]) سورة يُوسُفَ، الآية: 2.
([15]) سورة مريَمَ، الآية: 17.
([16]) الحالُ المُوَطِئَّةُ هي: الاسمُ الجامدُ الموصوفُ بصِفَةٍ, هي الحالُ على وَجْهِ التحقيقِ، فكأنَّ الاسمَ الجامِدَ قَدْ وَطَّأَ الطريقَ ومَهَّدَه لِمَا هو الحالُ؛ بسببِ مَجيئِه قبلَه، وقدْ ذَكَرَ المُؤلِّفُ مثاليْنِ لذلك من القرآنِ الكريمِ، ولك أنْ تَقِيسَ على ما جاءَ منه، كأنْ تقولَ: لَقِيتُ زَيْداً رَجُلاً سَمْحاً، وزَارَنِي عليٌّ إنساناً كريماً. وهَلُمَّ جَرًّا.
([17]) سورة الأعرافِ، الآية:142.
([18]) سورة الأعرافِ، الآية: 74.
([19]) سورة الإسراءِ، الآية:61.
([20]) أي: قولُ ابنِ مالكٍ في ألفيَّتِه.
([21]) فهو يُؤَوِّلُ الحالَ المُوَطِّئَةَ في قولِه تعالى: {فَتَمَثَّلَ لَهَا بَشَراً سَوِيًّا}. بأنَّه على معنَى فتمَثَّلَ لها مُستوِياً في صِفَةِ البشرِ، ويُؤَوَّلُ الحالُ الدالَّةُ على سِعْرٍ بمُسَعَّرٍ – بزنةِ اسمِ المفعولِ إنْ كانتْ حالاً من المفعولِ، وبزِنَةِ اسمِ الفاعلِ إنْ كانَتْ حالاً من الفاعلِ– ويُؤَوَّلُ الحالُ الدالَّةُ على العَدَدِ في نحوِ قولِه تعالى: {فَتَمَّ مِيقَاتُ رَبِّهِ أَرْبَعِينَ لَيْلَةً}. بمعدودٍ، ويُؤَوَّلُ الحالُ الدالَّةُ على طَوْرٍ فيهِ تَفْضيلٌ نحوُ: (هَذَا بُسْراً أطْيَبُ مِنْهُ رُطَباً) بمُطوَّرٍ، ويُؤَوَّلُ الحالُ الدالَّةُ على نوعِ صَاحِبِها نحوُ: (هَذَا مَالُكَ ذَهَباً) بمَصوغٍ، ويُؤَوَّلُ الحالُ الدالَّةُ على فرعِ صاحبِها نحوُ قولِه تعالى: {وَتَنْحِتُونَ الْجِبَالَ بُيوتاً} بمصنوعٍ أو نحوِه، ويُؤَوَّلُ الحالُ الدالَّةُ على أصْلِ صاحبِها نحوُ قولِه تعالى: {أَأَسْجُدُ لِمَنْ خَلَقْتَ طِيناً} بمَصْنوعٍ.
([22]) فإنْ قُلْتَ: فلماذا وجَبَ أنْ تكُونَ الحالُ نكرةً معَ أنَّ الحالَ وَصْفٌ لصاحِبِها، والوصْفُ كما يكونُ بالنكرةِ يكونُ بالمعرفةِ؟
فالجوابُ عن ذلك أنْ نَقولَ لك: إنَّ الحالَ لَمَّا كانتْ– كما قُلْتُ آنفاً– وصفاً لصاحبِها كانَ الغالِبُ فيها أنْ تكُونَ مُشتَقَّةً، وأنتَ تَعْلَمُ أنَّ صاحِبَ الحالِ لا يَكونُ إِلاَّ مَعْرِفَةً، فإنْ كانَ صَاحِبُها نكرةً وجَبَ أنْ يكُونَ لها مُسَوِّغٌ، فلو أنَّه جَازَ أنْ تكُونَ الحالُ مَعْرِفةً في حينِ أنَّ صاحبِها معرفةٌ؛ لتوَهَّمَ السامعُ أنَّها نَعْتٌ في حالِ وقوعِ صاحبِها في موقعِ النصْبِ نحوُ قولِكَ: "ضَرَبْتُ اللِّصَّ المُقَيَّدَ". ففَرُّوا من تَوَهُّمِ كونِها نعتاً في هذهِ الحالِ فالتَزَموا تَنْكِيرَها؛ لتَكُونَ مُخالِفَةً لصاحبِها في التعريفِ والتنكيرِ, فلا يَتوَهَّمُ مُتوَهِّمٌ أنَّها نعتٌ؛ لأنَّ النعْتَ يَجِبُ مُوافَقَتُه للمنعوتِ فيهما.
([23]) اعلَمْ أنَّ كَلِمَةَ (وَحْدَ) اسمٌ يدُلُّ على التوَحُّدِ والانفرادِ، وأنَّ أغْلَبَ استعمالِ هذا اللفظِ استعمالُه منصوباً؛ إمَّا لفظاً كما في قولِهم: (جَاءَ وَحْدَهُ). وقولِهم:"اجْتَهِدْ وَحْدَكَ". ومنه قولُه تعالى: {فَلَمَّا رَأَوْا بَأْسَنَا قَالُوا آمَنَّا بِاللهِ وَحْدَهُ} من الآية 84 من سورةِ غَافِرٍ، وإِمَّا منصوباً تقديراً، وذلكَ إذا أُضِيفَ لياءِ المتكلِّمِ، كما في قولِ الشاعرِ:
والذِّئْبُ أَخْشَاهُ إنْ مَرَرْتُ بِهِ = وَحْدِي، وأَخْشَى الرِّياحَ والمَطَرَا
وقدْ وَرَدَتْ هذه الكلمةُ مجرورةً بالإضافةِ في خمسِ كلماتٍ؛ قالوا في المدحِ: "فُلانٌ نَسِيجُ وَحْدِه". وقالوا: "فُلانٌ قَرِيعُ وَحْدِه". وقالوا في الدلالةِ على الإعجابِ بالنفسِ: "فُلانٌ رَجِيلُ وَحْدِهِ". ومن الأولِ من هذهِ الألفاظِ قولُ عَائِشَةَ أُمِّ المُؤمِنينَ في عمرَ رضِيَ اللهُ عنهما: (كَانَ واللهِ أَحْوَذِيًّا نَسِيجَ وَحْدِهِ).
ومنه قولُ الراجزِ:
جَاءَتْ بهِ مُعْتَجِرا ببُرْدِهِ = سَفْوَاءَ تَرْدِي بنَسِيجِ وَحْدِهِ
وقالوا عندَ إرادةِ الذمِّ: "فُلانٌ عُيَيْرُ وَحْدِهِ". و"فُلانٌ جُحَيْشُ وَحْدِهِ". والعُيَيْرُ: تصغيرُ عَيْرٍ وهو الحِمَارُ، والجُحَيْشُ: تَصغيرُ جَحْشٍ, وهو وَلَدُ الحِمارِ، وكِلاهما بفتحِ أَوَّلِه وسكونِ ثانيهِ.
ثم اعلَمْ ثَانياً أنَّ النحاةَ قد اختَلَفوا في تخريجِ (وَحْدَه) في حالِ النصْبِ.
فقالَ سِيبَوَيْهِ والخليلُ بنُ أحمدَ: هو اسْمٌ مَوْضوعٌ موضِعَ المَصْدرِ الموضوعِ موضِعَ المُشتَقِّ، فهو مَنْصوبٌ على الحالِ، وكأنَّكَ حِينَ تَقولُ: "جاءَ زَيْدٌ وَحْدَه". قدْ قُلْتَ: جاءَ زَيْدٌ إيحاداً. أي انفراداً، وأنتَ تُرِيدُ جَاءَ زيدٌ مُتوَحِّداً؛ أي: مُنفَرِداً.
وذهَبَ يُونُسُ بنُ حَبِيبٍ وهشامٌ والكُوفِيُّونَ إلى أنه منصوبٌ على الظرفيَّةِ، وكأنَّكَ حينَ تقولُ: "جاءَ محمدٌ وَحْدَه". قد قُلْتَ: (جاءَ زيدٌ لا معَ غَيْرِه). وهؤلاءِ قاسوا (وَحْدَه) على مقابلِه وهو قولُهم: "قدْ جاءَ محمدٌ وعَلِيٌّ معاً".
ويقولُ أبو رَجاءٍ عَفَا اللهُ عنه: وإذا كانَ الأصلُ في هذهِ الكلمةِ أنَّها بمعنَى المصدرِ, وهو التوَحُّدُ والانفرادُ- كما يَرَى سِيبَوَيْهِ- فليسَ يَبْعُدُ عندي أنْ يكُونَ في نحوِ قولِكَ: "جاءَ عَلِيٌّ وَحْدَه". مفعولاً مُطْلَقاً، وعلى هذا يصِحُّ أنْ يكُونَ العاملُ فيه اسماً مُشتَقًّا, يكونُ حالاً من الضميرِ المستترِ في جاءَ، وتقديرُ الكلامِ: جاءَ زيدٌ مُتوَحِّداً تَوَحُّداً، ويصِحُّ أنْ يكُونَ العاملُ فيه فِعْلاً تقَعُ جملتُه حالاً، ويكونَ تقديرُ الكلامِ: جاءَ زيدٌ يَتَوَحَّدُ تَوَحُّداً.
واخْتَلَفوا في موضِعٍ آخرَ من هذا المثالِ، وحاصلُه أنَّ الذين قالوا: إنَّ"وحْدَه" حالٌ. قد اخْتَلَفوا في صاحبِ الحالِ, إذا قُلْتَ: "رأيْتُ زيداً وَحْدَه". فقالَ سِيبَوَيْهِ: هو حالٌ من الفاعلِ. وقالَ ابنُ طَلْحَةَ: هو حالٌ من المفعولِ. وأجازَ المُبرِّدُ كِلا الوجهيْنِ، والذي أمِيلُ إليهِ أنَّه حالٌ من المفعولِ في المثالِ الذي ذَكَرْناه, كما ذهَبَ إليه ابنُ طْلَحَةَ؛ لأنَّ المُتكلِّمَ لو أرادَ أنَّ الانفرادَ من أوصافِه هو, لَقالَ: "رَأيتُ زيداً وَحْدِي". أما هذا الاختلافُ فيُتَصَوَّرُ في نحوِ: "رأَى محمدٌ عَلِيًّا وَحْدَه".
([24]) اعلَمْ أوَّلاً أنَّ (عَوْدَه) بفتحِ العينِ وسكونِ الواوِ– أصلُه مصدرُ عَادَ يَعودُ، والبَدْءُ: أصلُه مَصْدَرُ بدَأَ يَبْدَأُ – بوزنِ فتَحَ يَفْتَحُ، ومعناهُ الابتداءُ، ثم اعلَمْ أن هذه العبارةَ تُرْوَى برفعِ (عَوْدُه) وبنصبِه، فأمَّا روايةُ الرفعِ فلا خلافَ فيها ولا إشكالَ، وعَوْدُه: مبتدأٌ، والجارُّ والمجرورُ بعدَه مُتعَلِّقٌ بمحذوفٍ خبرٌ، والجملةُ في مَحَلِّ نصبٍ حالٌ من الضميرِ المُستتِرِ جوازاً في (جَاءَ), وأمَّا روايةُ النصْبِ فهي مَحَلُّ الكلامِ، وقد اختَلَفَ النحاةُ في تَخْريجِها، فأمَّا شيخُ النحاةِ سِيبَوَيْهِ فذهَبَ إلى أنَّ (عَوْدَه) مصدرٌ في تأويلِ المُشتَقِّ, وهو حالٌ من فاعلِ رَجَعَ، والجارُّ والمجرورُ يَكُونُ متعلِّقاً بالحالِ، وكأنَّه قد قِيلَ: رجَعَ عائداً على ابتدائِه. فالحالُ حينَئذٍ مُؤَكِّدَةٌ لعاملِها، وذهَبَ المُحَقِّقُ الرَّضِيُّ إلى أنَّ (عَوْدَه) مفعولٌ مُطْلَقٌ مُبَيِّنٌ لنوعِ عاملِه، والجارَّ والمجرورَ مُتعلِّقٌ برَجَعَ، وكأنَّه قدْ قِيلَ: رجَعَ على بَدْئِه عَوْدَهُ المَعْهودَ. فالإضافةُ في (بَدْئِه) وفي (عَوْدَه) بمعنَى أل العهديَّةِ، ويقالُ هذا الكلامُ في حقِّ إنسانٍ عُهِدَ منه عَدَمُ الاستقرارِ على ما يَنْتقِلُ إليه، بل يَرْجِعُ إلى ما كانَعليه، وذهَبَ أبو عَلِيٍّ الفَارِسِيُّ إلى أنَّ (عَوْدَهُ) مفعولٌ مُطْلَقٌ وعاملُه اسْمٌ مُشْتَقٌّ يَكونُ حَالاً، وكأنَّه قدْ قِيلَ: رجَعَ عائداً عَوْدَه على بَدْئِه.
([25]) الأولُ: أفعلُ تَفْضيلٍ مُقْتَرِنٍ بأل المُعَرِّفَةِ، وقد وَرَدَ منصوباً، وأعْرَبَهُ النحاةُ حَالاً، وجَعَلوا ما بعدَه معطوفاً عليهِ بالفاءِ، ثم يُفْهَمُ من كلامِهم أنَّهم مُخْتَلِفونَ في المُؤَوَّلِ بنكرةٍ, أهو مَجْموعُ الاسميْنِ فيَكُونَ قَوْلُكَ: "ادْخُلُوا الأوَّلَ فالأوَّلَ". على تقديرِ ادْخُلُوا مُتَرَتِّبِينَ؟ أم أنَّ كلَّ واحدٍ من الاسميْنِ يُؤَوَّلُ بوَصْفٍ مُنَكَّرٍ، فيَكونَ تأويلِ هذا المثالِ: ادْخُولُوا واحداً فوَاحِداً؟ ولا شَكَّ أنَّ التأويلَ الأولَ أقربُ مَسْلَكاً للدلالةِ على المعنَى الذي يُرِيدُه المُتَكَلِّمُ بهذا الكلامِ.
([26]) الجَمَّاءُ في الأصلِ: مُؤنَّثُ الأجَمِّ، وهما نَظِيرُ أبيضَ وبيضاءَ, وأحْمَرَ وحمراءَ، واشتقاقُهما من الجَمِّ – بفتحِ الجيمِ وتشديدِ الميمِ - وهو الكثرةُ، وقالوا: ماءٌ جَمٌّ، يُرِيدونَ أنَّه كَثِيرٌ، وقالَ اللهُ تعالى: {وَتُحِبُّونَ المَالَ حُبًّا جَمًّا}. أي: حُبًّا كَثِيراً.
وقالَ الراجزُ:
إنْ تَغْفِرِ اللَّهُمَّ تَغْفِرْ جَمَّا = وأيُّ عَبْدٍ لَكَ لاَ أَلَمَّا
وقالوا: هذه امرأةٌ جَمَّاءُ المَرافِقِ. يُرِيدونَ أنَّها كثيرةُ اللَّحْمِ على مَرافِقِها، وأصْلُ اشتقاقِ (الغَفِيرِ) من الغَفْرِ – بفتحِ الغينِ وسكونِ الفاءِ– وهو السِّتْرُ، تَقولُ: غَفَرَ اللهُ تعالى ذَنْبَكَ. تُرِيدُ سَتَرَه عليكَ ولم يَفْضَحْكَ به، والغَفِيرُ في صناعةِ العربيَّةِ فَعِيلٌ بمعنى فاعِلٍ, صِفَةٌ للجَمَّاءِ، وكانَ مِن حَقِّ العربيَّةِ عليهم أنْ يُؤَنِّثُوا الصِّفَةَ؛ لأنَّ المَوْصوفُ– هو الجَمَّاءُ– مُؤَنَّثٌ، إِلاَّ أنَّهم عَامَلوا هذهِ الصيغةَ معاملةَ أختِها التي هي فَعِيلٌ بمعنى مفعولٍ؛ فإِنَّهم لا يُؤَنِّثُونَ لَفْظَها, وإنْ جَرَتْ على موصوفٍ مُؤَنَّثٍ، فيَقولونَ: امرأةٌ جَرِيحٌ, وامرأةٌ قتيلٌ. وكأنَّهم حينَ قالوا: (جَاؤُوا الجَمَّاءَ الغَفِيرَ). قد قالوا: جَاؤُوا الجَماعَةَ السَّاتِرَةَ لوَجْهِ الأرضِ، يَعْنُونَ أنَّهم لكثرتِهم وعظيمِ عَدَدِهم سَتَروا وجْهَ الأرضِ, فلم يَظْهَرْ منها شيءٌ، وقد قالوا في هذا المثلِ: (جَاؤُوا جَمَّاءَ غَفِيراً). فأَتَوْا بهِ مُنَكَّراً على الأصلِ في الحالِ، والمُعرَّفُ على التأويلِ بالنكرةِ.
([27]) قد وَرَدَتْ هذه الجملةُ في قولِ لَبِيدِ بنِ رَبِيعةَ العَامِرِيِّ يَصِفُ حِماراً وَحْشِيًّا أوْرَدَ أُتُنَه الماءَ لتَشْرَبَ:
فأوْرَدَها العِرَاكَ ولَمْ يَذُدْهَا = ولَمْ يُشْفِقْ علَى نَغَصِ الدِّخَالِ
والضميرُ المُستتِرُ في "أَوْرَدَها" يعودُ إلى حمارِ الوحشِ، والضميرُ البارِزُ يعودُ إلى أُتُنِه، وأصْلُ العراكِ مصدرٌ بمعنَى ازدحامِ الإبلِ أو غَيْرِها حِينَ وُرودِ الماءِ، ولم يَذُدْهَا: لم يَمْنَعْها ولم يَطْرُدْها، والنَّغَصُ – بفتحِ النونِ والغينِ جميعاً– مصدرُ (نَغِصَ الرجُلُ) – من مثالِ فَرِحَ – إذا لم يُتِمَّ مُرادَه، و(نَغِصَ البعيرُ) إذا لم يُتِمَّ شُرْبَه، والعِراكُ كما ترَى مصدرٌ مُقترِنٌ بأل، فهو معرفةٌ، وللنحاةِ في تخريجِه ثلاثةُ مذاهِبَ:
الأَوَّلُ – وهو مذهَبُ سِيبَوَيْهِ – أنَّ هذا المصدرَ حَالٌ– معَ مخالفةِ لفظِه للأصلِ في الحالِ من وجهيْنِ: كونُه مصدراً، وكونُه معرفةً, وهو في التأويلِ وصْفٌ مُنَكَّرٌ، وكأنَّه قد قالَ: أَرْسَلَها مُعارَكَةً.
الثاني – وهو مذهَبُ الكُوفِيِّينَ – أنَّ (العِرَاكَ) مفعولٌ ثانٍ لأرْسَلَ، بعدَ أنْ ضَمَّنَ أرْسَلَ معنَى أوْرَدَ، فإِنَّكَ تقولُ: "وَرَدَ البَعِيرُالماءَ". فيَتعدَّى الفعلُ إلى مفعولٍ واحدٍ، وفي القرآنِ الكريمِ: {فَلَمَّا وَرَدَ مَاءَ مَدْيَنَ}. وفيه: {لَوْ كَانَ هَؤُلاءِ آلِهَةٌ مَا وَرَدُوهَا}. وتقولُ: "أوْرَدْتُ بَعيرِي الماءَ". فيتعدَّى الفعلُ بالهمزةِ إلى مفعولٍ ثانٍ، وفي القرآنِ الكريمِ: {يَقْدُمُ قَوْمَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَأَوْرَدَهُمُ النَّارَ}. وكأنَّه لَمَّا قالَ: "فأرْسَلَها العِرَاكَ". قد قالْ: فأَوْرَدَها العِرَاكَ. أي: الازدحامَ، وأرادَ مكانَه، ومعَ ثقافةِ هذا التخريجِ نرَى فيه من التكلُّفِ ما لا يخفَى على مُتأمِّلٍ.
المذهبُ الثالِثُ – وهو مَذْهَبُ أبي عَلِيٍّ الفارسيِّ– وحاصلُه أنَّ (العراكَ) مصدرٌ باقٍ على مصدريَّتِه، وهو مفعولٌ مُطلَقٌ مُؤكِّدٌ لعاملِه معَ أنه مُبَيِّنٌ لنوعِ عاملِه الذي يُقَدَّرُ وَصْفاً مُنَكَّراً، ويكونُ هذا العامِلُ حالاً من الضميرِ البارزِ المُتَّصِلِ العائدِ على الأُتُنِ، وكأنَّه قد قالَ: فأرْسَلَها مُعْترِكَةً العِرَاكَ، أي: مُزدحمةً الازدحامَ المعهودَ.
([28]) اعلَمْ أوَّلاً أنَّ للعلماءِ خِلافيْنِ في هذا الموضوعِ: أحَدُهما في إعرابِ نحوُ: (رَكْضاً). من قولِهم:"جاءَ زيدٌ رَكْضاً". ولم يَتعَرَّضِ المُؤلِّفُ لهذا الخلافِ، بل اختارَ مذهَبَ سِيبَوَيْهِ كما اختارَه ابنُ مالكٍ– وهو أحدُ آراءٍ كثيرةٍ في المسألةِ– ولم يَتعرَّضْ لغيرِه بإثباتٍ ولا نَفْيٍ، والخلافُ الثاني في قِياسِيَّةِ مثلِ هذا التركيبِ، وقد تَعرَّضَ المُؤلِّفُ له بنوعٍ من التفصيلِ.
وقبلَ أنْ نَتعرَّضَ لذكْرِ هذيْنِ الخلافيْنِ نقولُ لكَ: إنَّه قد وَرَدَ عن العربِ جملةٌ صالحةٌ من الكلامِ المماثلِ لهذا التركيبِ، فقد قالوا: قَتَلْتُه صَبْراً، وأتَيتُه رَكْضاً، ومَشْياً، وعَدْواً، ولَقِيتُه فَجْأةً، وكِفَاحاً، وعِياناً، وكَلَّمْتُه مُشافهةً، وطلَعَ علينا بَغْتَةً، وأخَذْتُ عن فلانٍ سَماعاً، وقالَ اللهُ تعالى: {ثُمَّ ادْعُهُنَّ يَأْتِينَكَ سَعْياً}. وقالَ سبحانَه: {يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ سِرًّا وعَلانِيَةً}. وقالَ: {ادْعُوهُ خَوْفاً وطَمَعاً}. وقالَ: {إِنِّي دَعَوْتُهُمْ جِهَاراً}.
ثم نَقولُ عن الخلافِ الأولِ: إنَّ للنحاةِ فيهِ أقوالاً كثيرةً نَجْتَزِئُ لك منها بأربعةٍ ونَكِلُكَ في الرجوعِ إلى بَاقِيها –إنْ أردْتَ المزيدَ– لِمَا كَتَبْنَاهُ على شَرْحِ الأشمونيِّ.
المذَهَبُ الأولُ: أنَّ هذا المصدرَ المُنَكَّرَ نفسَه حالٌ، وأنَّه على التأويلِ بوَصْفٍ مُناسبٍ، وهذا مذهَبُ سِيبَوَيْهِ وجمهورِ البصْرِيِّينَ، وحُجَّتُهم أنَّ الخبَرَ أخو الحالِ والنعْتِ، وقد وقَعَ الخبرُ مَصْدراً مُنَكَّراً كثيراً في نحوِ:"زيدٌ عَدْلٌ", ووقَعَ النعتُ مَصْدراً مُنَكَّراً في نحوِ:"هذا ماءٌ غَوْرٌ", فلا يُنْكَرُ أنْ يقَعَ المصدرُحَالاً، وأيضاً فإنَّ المصدرَ والاسمَ المُشْتَقَّ يَتقارَضانِ, فيقَعُ كلُّ واحدٍ منهما موقِعَ صاحبِه، فيقَعُ الاسمُ المُشْتَقُّ مفعولاً مُطْلقاً في الموضعِ الذي الأصْلُ فيه أنْ يَقَعَ فيه المَصدَرُ, نحوُ قولِهم: "قُمْ قَائِماً". أي: قُمْ قِياماً، وقالوا: "سِرْتُ أشَدَّ السيرِ". و"تَأَدَّبْتُ أكْمَلَ التأديبِ".
المذهبُ الثاني: أنَّ هذا المصدرَ المُنكَّرَ مفعولٌ مطلقٌ لفعلٍ محذوفٍ, جملتُه هي التي تقَعُ حالاً، فتأويلُ (طلَعَ زيدٌ بغْتَةً): طلَعَ زيدٌ يَبْغَتُ بَغْتَةً، وهذا مذهَبُ الأخفشِ والمُبرِّدِ.
المذهبُ الثالثُ: أنَّ هذا المصدرَ المُنكَّرَ مفعولٌ مطلقٌ, عاملُه وَصْفٌ يَكُونُ هو الحالَ، فتأويلُ (قَتَلْتُه صَبْراً): قَتَلْتُه صَابِراً صَبْراً، وهذا مذهَبُ أبي عَلِيٍّ الفارسيِّ، وهو مَنْحولٌ من مذهَبِ المُبرِّدِ والأخفشِ.
المذهبُ الرابعُ: أنَّ هذا المصدرَ المُنَكَّرَ مفعولٌ مطلقٌ مُبيِّنٌ لنوعِ عاملِه، وعاملُه هو ما يَتقدَّمُ عليه من فِعْلٍ أو وَصْفٍ، وليسَ في الكلامِ حَذْفٌ، فتأويلُ"جاءَ زَيْدٌ رَكْضاً": رَكَضَ زيدٌ رَكْضاً، كما قيلَ في نحوِ: "أحْبَبْتُه مِقَةً" و"شَنِئْتُه بُغْضاً". وهذا مذهَبُ الكُوفِيِّينَ، وكأنَّهم لم يَرْوُوا من هذا الأسلوبِ إلاَّ ما كانَ المصدرُ نَوْعاً من أنواعِ العاملِ؛ كالصبرِ معَ القتلِ, والركضِ معَ السيرِ أو المجيءِ؛ ولذلك ذَكَروا أنَّ المصدرَ يَكونُ مَفْعولاً مُطْلقاً مُبَيِّناً لنوعِ العاملِ، وقد عَلِمْتَ في بابِ المفعولِ المُطْلَقِ – مِمَّا ذَكَرْناه لكَ ثَمَّةَ – أنَّ من صورِ المفعولِ المُطْلَقِ المُبيِّنِ للنوعِ أنْ يكُونَ المصدرُ بهذه المثابةِ، فتأمَّلْ ذلك واحْرِصْ عليه.
وأمَّا عن الخلافِ الثاني, ففيه أربعةُ مذاهِبَ:
الأوَّلُ: أنَّه لا يجوزُ القياسُ على ما سُمِعَ من ذلك، على الرَّغْمِ من كَثْرَةِ ما سُمِعَ منه، وهذا مذهَبُ سِيبَوَيْهِ، وعُذْرُه في ذلك أنَّ الحالَ وَصْفٌ لصاحبِها، وقدْ تَقرَّرَ أنَّ الأصْلَ في الوصْفِ أنْ يكُونَ مُشتَقًّا، والأصلَ الذي تَقَرَّرَ عندَه أنَّ ما جاءَ على خلافِ الأصلِ يُقْتَصَرُ فيه على ما سُمِعَ منه.
المذهبُ الثاني: أنَّه يجوزُ القياسُ على ما ورَدَ منه مطلقاً، نعني بالإطلاقِ هنا أنَّه لا فرقَ بينَ أنْ يكُونَ المصدرُ نوعاً من أنواعِ عاملِه نحوَ: "كَلَّمْتُه مُشافهَةً", و"جِئْتُه سُرْعَةً" و"قَتَلْتُه صَبْراً", وألاَّ يكونَ كذلك نحوُ: "جاءَ عَلِيٌّ بُكَاءً" ويُنْسَبُ هذا إلى أبي العَبَّاسِ المُبرِّدِ.
المذهَبُ الثالِثُ: أنَّه يَجوزُ القِياسُ على ما سُمِعَ من ذلك فيما إذا كانَ المصدرُ نوعاً من أنواعِ العاملِ؛ كالأمثلةِ التي ذَكَرْناها قبلَ ذِكْرِ الخلافِ، فأمَّا إذا لم يَكُنِ المصدرُ نَوْعاً من العاملِ؛ فإنَّه لا يجوزُ القياسُ حينَئذٍ، وهذا هو المشهورُ فيما يُرْوَى من آراءِ أبي العَبَّاسِ المُبرِّدِ.
قالَ المُحَقِّقُ الرَّضِيُّ: (ثم اعلَمْ أنه لا قياسَ في شيءٍ من المصدرِ الواقعِ حَالاً، بل يُقْتَصَرُ على ما سُمِعَ منه، نحوُ: قَتَلْتُه صَبْراً.
والمُبرِّدُ يَستعمِلُ القياسَ في المصدرِ الواقعِ حَالاً إذا كانَ من أنواعِ نَاصِبِه، نحوُ: (أتَانَا رُجْلةً، وسُرْعةً، وبُطْأً، ونحوَ ذلك، وأمَّا ما ليسَ من تَقسيماتِه وأنواعِه فلا خلافَ أنَّه ليسَ بقِياسِيٍّ، فلا يُقالُ: جاءَ ضَحِكاً وبُكَاءً، ونحوُ ذلك؛ لعَدَمِ السماعِ). اهـ.
المذهَبُ الرابِعُ: وهو ما اختارَه ابنُ مالكٍ صَاحِبُ الألفيَّةِ، وتَبِعَه عليه ابْنُه بَدْرُ الدِّينِ، وحَاصِلُ هذا الرَّأْيِ أنَّه يَجوزُ القياسُ في ثلاثةِ مَوَاضِعَ ورَدَ بها السَّمَاعُ:
المَوْضُوعُ الأوَّلُ: أنْ يكُونَ المصدرُ المنصوبُ وَاقِعاً بعدَ خَبَرٍ مُقْتَرِنٍ بأل الدالَّةِ على الكمالِ، وقدْ سُمِعَ من هذا قولُهم:"أنتَ الرجُلُ عِلْماً". فيَجوزُ لك أنْ تقولَ: "أنتَ الرَّجُلُ أدَباً، وحِلْماً، ونُبْلاً، وشَجَاعَةً، وأنتَ الصديقُ إِخْلاصاً، ووَفَاءً، وتَضْحِيَةً". وأنْ تقولَ: "أنتَ العالِمُ تَحْقِيقاً، ودِقَّةَ نَظَرٍ, وطُولَ صَبْرٍ، وأنَاةً". وورَدَ النصُّ عن الخليلِ بأنَّ المصدرَ المنصوبَ في هذا المثالِ حالٌ، وذكَرَ أحمدُ بنُ يَحْيَى ثعلبٌ أنه مَفْعولٌ مُطْلَقٌ.
الموضِعُ الثاني: أنْ يكُونَ المصدرُ واقعاً بعدَ خَبَرٍ شُبِّهَ مُبْتَدَؤُه به، وقد سُمِعَ من هذا النوعِ قولُهم: (هُوَ زُهَيْرٌ شِعْراً). وعلى جوازِ القياسِ لكَ أنْ تقولَ: (أنتَ حَاتِمٌ جُوداً، وأنتَ عَلِيٌّ شَجَاعَةً، وأنتَ السَّمَوْأَلِ وَفاءً، وأنتَ إياسٌ ذَكاءً وفِطْنَةً، وأنتَ عُمَرُ عَدْلاً وعَطْفاً، وأنتَ يُوسُفُ حُسْناً، وأنتَ الأحْنَفُ حِلْماً). ومن النحاةِ مَن رَأَى أنْ يُعْرِبَ المصدرَ في هذا النوعِ تَمْيِيزاً، وقالَ أبو حَيَّانَ: (والتمييزُ فيه أظْهَرُ).
الموضوعُ الثالثُ: أنْ يقَعَ المصدرُ بعدَ (أمَّا) الشرطيَّةِ التي تَنوبُ عن أداةِ الشرطِ وفعلِ الشرطِ جَمِيعاً، وقدْ سُمِعَ من ذلك قولُهم:"أمَّا عِلْماً فعَالِمٌ". وعلى جوازِ القياسِ لكَ أنْ تقولَ: "أمَّا ثراءً فثَرِيٌّ، وأمَّا نَزَاهَةً فنَزِيهٌ، وأمَّا شَجَاعَةً فشُجَاعٌ، وأمَّا احتجاجاً فذُو حُجَّةٍ، وأمَّا فَقاهةً ففَقِيهٌ". والقولُ بأنَّ انتصابَ المصدرِ المُنَكَّرِ بعدَ أمَّا على الحالِ هو قولُ سِيبَوَيْهِ وجمهورِ البصْرِيِّينَ، وذهَبَ الأخفشُ إلى أنَّ هذا المصدرَ مَفْعولٌ مُطْلَقٌ نَاصِبُه الاسمُ المُشْتَقُّ الواقِعُ بعدَه، وذهَبَ الكُوفِيُّونَ إلى أنَّه مفعولٌ به لفِعْلِ الشرطِ الذي نابَتْ عنه أمَّا، ويَجِبُ – على هذا – تقديرُ فعلِ الشرطِ مُتعَدِّياً، ففي نحوِ قولِهم: (أمَّا عِلْماً فعَالِمٌ). يُقَدَّرُ كأنَّكَ قد قُلْتَ: "مَهْمَا تَذْكُرْ عَلْماً فالمذكورُ عالِمٌ". ويُذْكَرُ عنهم هذا الرأيُ فيما إذا كانَ بعدَ أمَّا مصدراً مُعرَّفاً نحوَ: (أمَّا العِلْمَ فعَالِمٌ) أو اسْمَ جنسٍ غيرَ مصدرٍ نحوَ: "أمَّا العَبِيدَ فذُو عَبِيدٍ" فطَرَّدوا البابَ في جميعِ الأنواعِ.