826- وعن عَمْرِو بنِ شُعَيْبٍ, عن أبيهِ, عن جَدِّهِ ـ رَضِيَ اللَّهُ عنهُم ـ قالَ: قالَ رَسولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَليهِ وسلَّمَ: ((لَيْسَ لِلْقَاتِلِ مِنَ الْمِيرَاثِ شَيْءٌ)). رَواهُ النَّسائِيُّ، والدَّارَقُطْنِيُّ, وقَوَّاهُ ابنُ عَبْدِ البَرِّ، وأعَلَّهُ النَّسائِيُّ، والصوابُ وَقْفُه على عُمَرَ.
* دَرَجَةُ الحديثِ:
الحديثُ صحيحٌ.
أخْرَجَه ابنُ عَدِيٍّ، والدَّارَقُطْنِيُّ، والبَيْهَقِيُّ مِن طريقِ إسماعيلَ بنِ عَيَّاشٍ, عَنِ ابنِ جُرَيْجٍ, عن عَمْرِو بنِ شُعَيْبٍ, عن أبيهِ, عن جَدِّهِ قالَ: قالَ رَسولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَليهِ وسلَّمَ: ((لَيْسَ لِلْقَاتِلِ مِنَ الْمِيرَاثِ شَيْءٌ)).
وإسماعيلُ بنُ عَيَّاشٍ ضَعِيفٌ في روايتِه، ولكنَّه لم يَنْفَرِدْ به، فقدْ أَخْرَجَه أبو دَاوُدَ، والبَيْهَقِيُّ، من طَريقِ محمدِ بنِ رَاشِدٍ قالَ: حَدَّثنا سُلَيْمانُ بنُ مُوسَى، عن عَمْرِو بنِ شُعَيْبٍ به.
فالحديثُ نَفْسُه صحيحٌ لغيرِه، فإنَّ له شَواهِدَ يَتَقَوَّى بها، منها: حَدِيثُ عُمَرَ، وحديثُ أبي هُرَيْرَةَ، وحديثُ ابنِ عَبَّاسٍ، كما قالَ الألبانِيُّ.
قالَ ابنُ عبدِ الهادي: قَوَّاهُ ابنُ عبدِ البَرِّ، وذَكَرَ له النَّسائِيُّ عِلَّةً مُؤَثِّرَةً. اهـ. والعِلَّةُ هي الانقطاعُ، كما قالَ ابنُ حَجَرٍ في (التلخيصِ).
* ما يُؤْخَذُ من الحديثِ:
1- قَتْلُ الوَارِثِ لمُوَرِّثِه هو أَحَدُ مَوانِعِ الإرثِ كما تَقَدَّمَ، فإنْ كَانَ القَتْلُ عَمْداً فهذا مِن قَاعِدَةِ: مَن تَعَجَّلَ شَيْئاً قَبْلَ أوانِه عُوقِبَ بحِرْمَانِه, وإنْ كَانَ القَتْلُ غَيْرَ عَمْدٍ، فمَنْعُه مِن الإرثِ مِن قَاعِدَةِ سَدِّ الذَّرائِعِ.
2- فهذا كُلُّه مِن الصيانةِ والحَصانَةِ للدِّماءِ؛ لِئَلاَّ يَكُونَ الطَّمَعُ سَبَباً لسَفْكِها، ويُؤَكِّدُ حديثَ البابِ ما رَوَى مالكٌ في (المُوَطَّأِ)، وأحمدُ في مُسْنَدِه، وابنُ مَاجَهْ, عن عِمْرَانَ, عن النبيِّ صَلَّى اللَّهُ عَليهِ وسلَّمَ قالَ: ((لَيْسَ لِقَاتِلٍ مِيرَاثٌ)).
وفي البابِ أَحَادِيثُ كَثِيرَةٌ تَقْصِدُ هذا المعْنَى.
3- ولا شَكَّ أَنَّ مَنْعَ القَاتِلِ مِن مِيراثِ مُوَرِّثِه فيهِ حِكْمَةٌ رَشيدَةٌ، ومَبْدَأٌ سَامٍ حَكِيمٌ، فحُبُّ المالِ، والرغْبَةُ في الاستيلاءِ عليه، قدْ يَطْغَى على جَانِبِ الرحْمَةِ والمَوَدَّةِ، فيَسْتَبْطِئُ الوَارِثُ حَيَاةَ مُوَرِّثِه، فيُقْدِمُ علَى قَتْلِهِ؛ ليَسْتَأْثِرَ بالثَّرْوَةِ، فالشارِعُ الحَكِيمُ سَدَّ عليهِ هذا الطريقَ، وأقْفَلَ بوَجْهِهِ هذا البابَ فقالَ: ((لاَ يَرِثُ الْقَاتِلُ شَيْئاً)) كما أنَّ مَنْعَه مِن الميراثِ هو عُقوبَةٌ، وتَعْزِيرٌ له على إِقْدَامِهِ على هذه الفَعْلَةِ الشنيعةِ، بإزهاقِ النفسِ البريئةِ، وقَطِيعَةِ الرحِمِ.
* خِلافُ العُلماءِ:
اخْتَلَفَ الأئمَّةُ في صِفَةِ القَتْلِ الذي يَمْنَعُ مِن الإِرْثِ:
فذَهَبَ الشافعيُّ إلى أنَّ القَاتِلَ لا يَرِثُ من قَتيلِه بحَالٍ مِن الأحوالِ، حتى ولو كانَ القَتْلُ بحَقٍّ؛ كقِصَاصٍ، وكَوْنِه حَكَمَ عليهِ بالقَتْلِ قِصَاصاً أو حَدًّا، أو كَوْنِه جَلاَّداً لوَلِيِّ الأَمْرِ، أو مُزَكِّياً للشُّهودِ الذينَ شَهِدُوا بجِنايَةِ الوَارِثِ لقَتْلِه، أو كانَ القَتْلُ بانقلابِ نَائِمٍ، أو كونِه مَجْنوناً، أو قَصَدَ تأدِيبَ ابنِه فمَاتَ، أو كونِه بَطَّ جُرْحَه للعلاجِ فمَاتَ مِن البَطِّ، كلُّ هذهِ الصُّوَرِ وغَيْرُها مِن القَتْلِ وأَسْبَابِه عندَ الإمامِ الشافعيِّ، مَانِعَةٌ مِن الإِرْثِ؛ لعُمومِ قولِه صَلَّى اللَّهُ عَليهِ وسلَّمَ: ((لاَ يَرِثُ الْقَاتِلُ شَيْئاً)).
وذهَبَ مَالِكٌ: إلى أَنَّ القَتْلَ نَوْعانِ:
أحَدُهما: العَمْدُ العُدوانُ، فهذا لا يَرِثُ صَاحِبُه مُطْلقاً.
الثاني: أَنْ يَكُونَ القَتْلُ خَطَأً، فهذا يرِثُ مِن مَالِه، ولا يَرِثُ مِن دِيَتِه؛ لأنَّه لم يَتَعَجَّلِ المَالَ، وأما الدِّيَةُ فهي وَاجِبَةٌ عليه، ولا مَعْنَى لكونِه يَرِثُ شَيْئاً وَجَبَ عليهِ.
وذهَبَ أبو حَنِيفَةَ: إلى أنَّ القَتْلَ المانِعَ مِن الإرثِ، هو ما أَوْجَبَ قِصَاصاً، أو كَفَّارَةً، وهو العَمْدُ، وشِبْهُ العَمْدِ، والخَطَأُ، وما جَرَى مَجْراهُ؛ كانقلابِ النائِمِ على قَرِيبِه، أو سُقُوطِه عليهِ. بخِلافِ القتلِ بحَفْرِ بِئْرٍ، ووَضْعِ حَجَرٍ في الطريقِ، أو كانَ القاتِلُ صَبِيًّا، أو مَجْنوناً، وكذا القَتْلُ قِصاصاً ونحوُه، فهذه الأنواعُ لا تَمْنَعُ الإرثَ؛ لأنَّها لا تُوجِبُ قِصاصاً، ولا كَفَّارَةً، وهما الأساسُ في القَتْلِ المانِعِ من الإرثِ عندَ الحَنَفِيَّةِ.
وذَهَبَ أحمدُ: إلى أنَّ القَتْلَ المانِعَ مِن الإرثِ هو القَتْلُ بغيرِ حَقٍّ، وهو المَضْمُونُ بقَوَدٍ، أو دِيَةٍ، أو كَفَّارَةٍ, كالعَمْدِ، وشِبْهِ العَمْدِ، والخَطَأِ، وما جَرَى مَجْرَى الخطأِ، كالتسَبُّبِ في القَتْلِ، وقَتْلِ الصَّبِيِّ والمَجْنُونِ، والنائِمِ.
وأمَّا القَتْلُ الذي لا يُضْمَنُ بشيءٍ مِمَّا ذُكِرَ، فلا يَمْنَعُ مِن الإرثِ؛ كالقَتْلِ قِصاصاً، أو حَدًّا، أو دِفاعاً عن النَّفْسِ، وقَتْلِ العادِلِ الباغيَ، ونحوِ ذلك، فلا يَمْنَعُ من الإرثِ؛ لأنَّ المَنْعَ مِن الإرثِ تَابِعٌ للضَّمَانِ، فإنْ لَمْ يَكُنِ القَتْلُ مَضْمُوناً على القاتِلِ بشَيْءٍ فلا يَمْنَعُ. فهذا هو الضابِطُ عندَ الحَنابِلَةِ، وهذا القولُ أَرْجَحُ الأقوالِ؛ لأنه يَتَمَشَّى معَ الأَدِلَّةِ، ولأنه وَسَطٌ بينَ قَوْلِ المَالِكِيَّةِ وبينَ قَوْلِ الشافِعِيَّةِ، واللَّهُ أعْلَمُ.