الاسلوب البيانى
بسم الله الرحمن الرحيم
تفسير قوله تعالى [هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ الْغَاشِيَةِ (1) وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ خَاشِعَةٌ (2) عَامِلَةٌ نَاصِبَةٌ (3) تَصْلَى نَارًا حَامِيَةً (4) تُسْقَى مِنْ عَيْنٍ آنِيَةٍ (5) لَيْسَ لَهُمْ طَعَامٌ إِلَّا مِنْ ضَرِيعٍ (6) لَا يُسْمِنُ وَلَا يُغْنِي مِنْ جُوعٍ (7) وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاعِمَةٌ (8) لِسَعْيِهَا رَاضِيَةٌ (9) فِي جَنَّةٍ عَالِيَةٍ (10) لَا تَسْمَعُ فِيهَا لَاغِيَةً (11) فِيهَا عَيْنٌ جَارِيَةٌ (12) فِيهَا سُرُرٌ مَرْفُوعَةٌ (13) وَأَكْوَابٌ مَوْضُوعَةٌ (14) وَنَمَارِقُ مَصْفُوفَةٌ (15) وَزَرَابِيُّ مَبْثُوثَةٌ (16) ] سورة الغاشية
أن الحمد لله نحمد ونستغفره ونتوب إليه من يهده الله فلا مضل له ومن يضلل فلا هادي له والحمد لله من رفع إلي الجنات العالية من سبح باسمه وأذل من أعرض عن ذكره أما بعد:
لما أشار الله سبحانه إلى الجنة والنار والمؤمن والكافر في سورة الاعلى إجمالا ن فصل ذلك في هذه السورة ، فبسط صفة النار والجنة وأهل كل منهما .
قال تعالى [هل أتاك حديث الغاشية ] افتتح الله تعالى هذه السورة بالاستفهام ب [هل ] المفيد لمعنى قد التي هي للتحقيق من أجل التشويق إلى ما يخبر به لما فيه من العلم والمعرفة وما يحوي من موعظة كبرى كقوله تعالى [ يأيها الذين آ منوا هل أدلكم على تجارة تنجيكم من عذاب أليم ]الصف 10ن وقد يكون الاستفهام للتعظيم لعظم هذا الحديث عن الغاشية .
[حديث] أي الخبر المتحدث به وهو فعيل بمعنى مفعول أو الخبر الحاصل .
[الغاشية] هي القيامة علم لها بالغلبة واشتق لها هذا الاسم من الغشيان الذي هو التغطية إذ هى تغطى الناس بأهوالها وتذهل عقولهم وتغطيها ،وسميت غاشيه على وجه الاستعارة لأنها إذا حصلت لم يجد الناس مفرا من أهوالها فكأنها غاش يغشي على عقولهم.
فخاطب الله عز وجل نبيه عليه الصلاة والسلام فقال هل أتاك نبأ الغاشية وحديثها المهيل المخيف وحديث القيامة بما فيها من أهوال وصعاب وشدائد قال تعالى [ يأيها الناس اتقوا ربكم إن زلزلة الساعة شيء عظيم ]الحج 1، وهذا الخطاب للرسول صلى الله عليه وسلم وأمته من بعده ، ويجوز أن يكون عاما لكل من يتأتى خطابه .
ثم فصل شأن أهل الموقف في ذلك اليوم وذكر أنهما فريقان فريق الكفرة وفريق البررة .
فقال [ وجوه يومئذ خاشعة ] هذه الجملة بيان لجملة حديث الغاشية بينها بذكر أحوالها وأهوالها ، والمقصود العبرة وتقرير البعث الذي أنكره المشركون ، فهذه الاية وما بعدها جواب عن الاستفهام التشويقي ، كأنه قيل من جانبه عليه الصلاة والسلام : ما أتاني حديثها ، فأخبره الله تعالى .
وقوله [ وجوه ] هذه كناية عن أصحابها إذ يطلق الوجه ويراد به الذات ، لان حالة الوجه تنبئ عن حالة صاحبها إذ الوجه عنوان لما يجده صاحبه من نعيم أو شقوة وعكسهم قوله تعالى [ وجوه يومئذ مسفرة 8ضاحكة مستبشرة ] عبس 38 39.
فهذه الوجوه تغشاهم الغاشية فتصبح [ خاشعة ] ذليلة قال تعالى [ وتراهم يعرضون عليها خاشعين من الذل ] الشورى 45 و[ ناصبة ] أي ذات نصب وتعب من جر السلاسل والأغلال ، قد عملت عملا كثيرا ونصبت فيه وصليت يوم القيامة نارا حامية
[تصلى نار حامية ] أي ترد نارا حارة شديدة الحرارة تحيط بهم من كل مكان ، ونار جهنم هي التي بلغت من حموها أنها فضلت على نار الدنيا بتسعة وستين جزءا ن وأفاد وصفها بأنها حامية دوام حرها وتجاوزه المقدار المعروف ، لأن الحمي صفة لازمة للنار ، فكان وصفها به دليلا على شدة الحمي ، كما قال تعالى [ نار الله الموقدة ي الهمزة 6 قال : ابن عباس قد حميت فهي تتلظى على أعداء الله ،و[تسقى ] أي فيها [ من عين آنية ] قد بلغت شدة حرارتها وغليانها وهذا هو شرابهم اما طعامهم قال تعالى [ وإن يستغيثوا يغاثوا بماء كالمهل يشوى الوجوه بئس الشراب ] الكهف29 فهم يسقون إياه إذا اشتد عطشهم واستغاثوا ، وقد يقول قائل : كيف تكون هذه العين في نار جهنم والعادة أن الماء يطفئ النار ؟ فالجواب هو أن أمور الآخرة لا تقاس بأمور الدنيا والثاني : أن الله عز وجل على كل شيء قدير فنحن نجد أن الشجر الاخضر توقد منه النار قال تعالى [الذي جعل لكم من الشجر الأ خضر نارا فإذا أنتم منه توقدون] يس 80 فهم يسقون من عين آنية في النار ولا يتنافى ذلك مع قدرة الله عز وجل ،[ ليس لهم طعام إلا من ضريع ] والضريع : هو يابس ثمر الشبرق بكسر الشين وإسكان الباء وكسر الراء وهو نبت ذو شوك فإذا يبس يقال له ضريع ويصير مسموما أي فيه مادة سميه قاتلة هذا طعام أهل النار قبيح ومنتن الريح ،قال أبو ذؤيب الهذلي : رعى الشبرق الريان حتى ذوى وصار ضريعا بان عنه النحائص [ لا يسمن ] آكله ولا يغنيه من الجوع والسمن : وفرة اللحم والشحم يقال : أسمنه الطعام ، إذا عاد عليه بالسمن والإغناء :الإكفاء ودفع الحاجة ، [ لا يسمن ] فلا ينفع الابدان في ظاهرها و[لا يغنى من جوع ] ولا ينفعها في باطنها فلا يحصل المقصود ، وهذه هي حال من جحد وكفر بآيات الله ولقائه ، وكفر برسوله وما جاء به عليه الصلاة والسلام
ثم بعد ذكر حال الاشقياء ثنى بذكر السعداء فقال [ وجوه يومئذ ناعمه ] هذه الجملة غير معطوفة على وجوه الأولى ، لأن المقصود من الكلام هو بيان القيامة وما يكون فيها من أهوال وعذاب للمكذبين فلما تم الحديث عنها قد يتشوق السامع إلى معرفة حال المؤمنين بها فأجيب بقوله [وجوه يومئذ ناعمة إلى قوله [ وزرابي مبثوثه ] فهو استئناف بياني ، و[ وجوه يومئذ ناعمه ] أي نضرة حسنة [لسعيها راضية ] فهي راضية بأعمالها من صبر وإيمان وعمل صالح لما رات من ثواب وجزاء عليها ، والمراد بالسعي : العمل الذي يسعاه المرء ليستفيد منه وعبر به هنا مقابل قوله في ضده ( عاملة )والرضا : ضده السخط ، بخلاف الوجوه الاولى والعياذ بالله غير راضية على ما قدمت .
ثم قال [ في جنة عالية ] أي في محلها ومنازلها فهي في أعلى عليين ومساكنها عالية والعلو ضد السفول [لا تسمع فيها لاغية ] قرا نافع بالبناء للمجهول ولا غية نائب فاعل وقرأ حفص لا تسمع بالبناء للفاعل ولاغية مفعول به ، ومعنى لاغية : أي كلمة باطلة ونابية تفسد راحتهم وسعادتهم فمن مؤلمات النفس البشرية لغو الكلام وكذبه وباطله وهو ما يجب أن ينزه المؤمنون أنفسهم عنه ، وكما قال تعالى عن الجنة [ لا لغو فيها ولا تأثيم ] الطور 23 وقال [ لا يسمعون فيها لغوا إلا سلاما ] مريم 62 فقد تخلصت النفوس من النقائص وليسفيها غلا السمو العقلي والخلقي ولا ينطق فيها إلا بالسلام وما يزيد النفس تزكية فيلهمون التسبيح كالنفس فهم دائما في ذكر لله تعالى وتسبيح وأنس وسرور لا نظير له.
ثم وصف الجنة ونعيمها فقال [ فيها عين جارية ] أي سارحة وهذه نكرة في سياق الإثبات وليس المراد بها عينا واحدة وإنما هذا جنس يعنى فيها عيون جاريات ، وهى أشد بياضا اللبن ، وأحلى من العسل ومن شرب منها لا يظمأ ،ويصرفونها كيف شاؤوا ولا تحتاج إلى حفر كما قال ابن القيم رحمه الله : أنهارها في غير أخدود جرت & سبحان ممسكها عن الفيضان ، [فيها سرر] والسرر جمع سرير وهى المجالس المرتفعة في ذاتها وبما عليها نت الفرش اللينة و[مرفوعة ] قدرا وحالا ومكانا وإذا أرادوا الجلوس عليها تواضعت لهم ، [ وأكواب موضوعة ] وأكواب لا عرى لها من ذهب وفضة موضوعة لشربهم إن شاءوا شربوا بأيديهم أو ناولتهم غلمانهم ، و قوله [ ونمارق مصفوفة ] أي وسائد من الحرير والاستبرق وما لا يعلمه إلا الله قد صفت للراحة والإتكاء عليها ، [ وزرابي مبثوثه ] أي بسط فاخرة من أفضل أنواع الفرش [ مبثوثة ] أي منشورة في كل مكان مملوءة مجالسهم بها مما يدل على اكتمال نعيم الجنة من كل جانب مما لاعين رأت ولا أذن سمعت فهذه حال من آمن بالله ورسله وآياته واليوم الاخر وهى عظة للمتقين وعبرة وذكرى للذاكرين ونذكر هنا الحديث عن أسامه بن زيد قال : سمعت رسول الله عليه الصلاة والسلام يقول [ ألا هل من مشمر للجنه فإن الجنة لا حصر لها ، هى ورب الكعبة نور يتلألأ، وريحانة تهتز ، وقصر مشيد ، ونهر مطرد ن وثمرة نضيجة ، وزوجة حسناء جميلة ، وحلل كثيرة ، ومقام في أبد في دار سليمة ، وفاكهة وخضرة ، وحبرة ونعمة ، في محلة عالية بهية ؟ قالوا نعم يا رسول الله نحن المشمرون لها ، قال : ( قولوا إن شاء الله ) قال القوم إن شاء الله] رواه ابن ماجه عن ابن العباس .
ففيها مقابلة بين وجوه الابرار ووجوه الفجار [ وجوه يومئذ ناعمه * لسعيها راضية ]قابل بينها وبين سابقتها [ وجوه يومئذ خاشعة * عاملة ناصبة ]
وفيها السجع الرصين غير المتكلف مثل [ لسعيها راضية * في جنة عالية * لا تسمع فيها لاغية ]
نسأل الله بمنه وكرمه أن يجعلنا وجميع المسلمين من أهل الجنة ويعيذنا من النار وأن يعاملنا برحمته ويغفر لنا وهو القادر على ذلك.
المراجع
تفسير ابن كثير
تفسير السعدى
تفسير ابوبكر الجزائري
التحرير والتنوير
وتفسير ابن عثيمين جزء عم