مجلس مذاكرة القسم السادس من تفسير سورة آل عمران
حرّر القول في :
1: معنى الربّانيّ في قوله تعالى: {ولكن كونوا ربّانيّين بما كنتم تعلّمون الكتاب وبما كنتم تدرسون}.
الرباني في اللغة : هو المنسوب إلى الرّبّان: الّذي يربّ النّاس، وهو الّذي يصلح أمورهم ويربّها، ويقوم بها ، يقال منه: ربّ أمري فلانٌ فهو يربّه ربًّا وهو رابّه، فإذا أريد به المبالغة في مدحه قيل: هو ربّان، كما يقال: هو نعسان، من قولهم: نعس ينعس ,
قال المبرد : الربانيون أرباب العلم ، واحدهم ربان ، من قولهم : ربه يربه فهو ربان إذا دبره وأصلحه ; فمعناه على هذا يدبرون أمور الناس ويصلحونها . والألف والنون للمبالغة كما قالوا ريان وعطشان .
وقيل : منسوب إلى الرب . والرباني الذي يربي الناس بصغار العلم قبل كباره ; وكأنه يقتدي بالرب سبحانه في تيسير الأمور .
اختلف المفسرون في المراد بالرباني على أقوال :
القول الأول : الحكماء الفقهاء العلماء ، الذين يتميزون بالعلم
روي هذا القول عن ابن عباس والحسن ومجاهد وقتادة وابن رازين
قال محمد بن جرير الطبري (ت310ه) :
- حدّثني محمّد بن سعدٍ، قال: حدّثني أبي، قال: حدّثني عمّي، قال: حدّثني أبي، عن أبيه، عن ابن عبّاسٍ، قوله: {ولكن كونوا ربّانيّين} يقول: كونوا حكماء فقهاء.
- حدّثني يعقوب بن إبراهيم، قال: حدّثنا هشيمٌ، عن عوفٍ، عن الحسن، في قوله: {كونوا ربّانيّين} قال: كونوا فقهاء علماء.
- حدّثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهبٍ، قال: أخبرنا سفيان، عن ابن أبي نجيحٍ، عن مجاهدٍ، قال: الرّبّانيّون: الفقهاء العلماء، وهم فوق الأحبار.
- حدّثنا بشرٌ، قال: حدّثنا يزيد، قال: حدّثنا سعيدٌ، عن قتادة، قوله: {ولكن كونوا ربّانيّين} قال: كونوا فقهاء علماء.
- حدّثنا محمّد بن بشّارٍ، قال: حدّثنا عبد الرّحمن، قال: حدّثنا سفيان، عن منصورٍ، عن أبي رزينٍ: {كونوا ربّانيّين} قال: حكماء علماء.
قال ابن أبي حاتم الرازي (ت327ه) :
- حدّثنا أحمد بن الفضل العسقلانيّ، ثنا عليّ بن الحسن المروزيّ، ثنا إبراهيم بن رستم عن قيسٍ، عن عطاءٍ، عن سعيد بن جبيرٍ، عن ابن عبّاسٍ في هذه الآية كونوا ربّانيّين قال: هم الفقهاء المعلّمون.
القول الثاني : الحكماء الحلماء الأتقياء ، الذين يتميزون بالعمل
روي هذا القول عن سعيد بن جبير ، والحسن
قال ابن جرير الطبري (ت310ه)
- حدّثني يحيى بن طلحة اليربوعيّ، قال: حدّثنا فضيل بن عياضٍ، عن عطاء بن السّائب، عن سعيد بن جبيرٍ، قوله: {كونوا ربّانيّين} قال: حكماء أتقياء
قال ابن أبي حاتم الرازي (ت327ه) :
- حدّثنا الحسن بن أحمد، ثنا موسى بن محكمٍ، ثنا أبو بكرٍ الحنفيّ، ثنا عبّاد بن مصور قال: سألت الحسن عن قوله: ولكن كونوا ربّانيّين يقول:كونوا أهل عبادةٍ، وأهل تقوى للّه.
القول الثالث : ولاة النّاس وقادتهم
روي هذا القول عن ابن زيد
قال محمد بن جرير الطبري (ت310ه)
- حدّثني يونس بن عبد الأعلى، قال: أخبرنا ابن وهبٍ، قال: سمعت ابن زيدٍ، يقول في قوله: {كونوا ربّانيّين} قال: الرّبّانيّون: الّذين يربون النّاس، ولاة هذا الأمر، يربونهم: يلونهم وقرأ: {لولا ينهاهم الرّبّانيّون والأحبار} قال: الرّبّانيّون: الولاة، والأحبار: العلماء
أقوال العلماء في معنى الرباني :
قال ابن عطية : فجملة ما يقال في الرباني إنه العالم بالرب والشرع المصيب في التقدير من الأقوال والأفعال التي يحاولها في الناس
قال القرطبي : فمعنى الرباني العالم بدين الرب الذي يعمل بعلمه ; لأنه إذا لم يعمل بعلمه فليس بعالم
قال النحاس : والرباني الذي يجمع إلى العلم البصر بالسياسة ; مأخوذ من قول العرب : رب أمر الناس يربه إذا أصلحه وقام به ، فهو راب ورباني على التكثير .
قال أبو عبيدة : سمعت عالما يقول : الرباني العالم بالحلال والحرام والأمر والنهي ، العارف بأنباء الأمة وما كان وما يكون
قال طنطاوي في الوسيط : والمراد بالرباني: الإنسان الذي أخلص الله- تعالى- في عبادته، وراقبه في كل أقواله وأفعاله، واتقاه حق التقوى، وجمع بين العلم النافع والعمل به، وقضى حياته في تعليم الناس وإرشادهم إلى ما ينفعهم.
الراجح : أن الرباني هو الذي يشمل هذا كله ، وقد رجح ابن جرير الجمع بين هذه الأقوال
قال ابن جرير : والرّبّانيّ: العالم بالفقه والحكمة من المصلحين، يربّ أمور النّاس بتعليمه إيّاهم الخير، ودعائهم إلى ما فيه مصلحتهم، وكان كذلك الحكيم التّقيّ للّه، والوليّ الّذي يلي أمور النّاس على المنهاج الّذي وليه المقسطون من المصلحين أمور الخلق بالقيام فيهم، بما فيه صلاح عاجلهم وآجلهم، وعائدة النّفع عليهم في دينهم ودنياهم.
فالرّبّانيّون إذًا، هم عماد النّاس في الفقه والعلم وأمور الدّين والدّنيا، ولذلك قال مجاهدٌ: وهم فوق الأحبار، لأنّ الأحبار هم العلماء. والرّبّانيّ: الجامع إلى العلم والفقه البصر بالسّياسة والتّدبير والقيام بأمور الرّعيّة، وما يصلحهم في دنياهم ودينهم)