رسالة في تفسير قوله تعالى: {وإنْ مِنْ شيءٍ إلا عِندنا خزائِنُه وما نُنزِّلُه إلا بقدرٍ معلومٍ}[سورة الحجر: 21]
جاءت هذه الآية من سورة الحجر في سياق الاحتجاج على المشركين ببيان آيات الله عز وجل في خلقه، الدالة على ربوبيته ومِن ثمّ ألوهيته وحده، والإنكار عليهم وتوبيخهم على تكذيبهم بآيات الله رغم وضوحها وظهورها، مع وعد الله عز وجل بحفظ القرآن كما قال: {إنّا نحنُ نزلنا الذكرَ وإنا له لحافظون} [سورة الحجر: 9]
فكل سبلهم في الصد عن دعوة النبي صلى الله عليه وسلم ستبوء بالفشل، بل وسيأتي عليهم يوم القيامة حين يرون العذاب فيودون لو كانوا مسلمين، والله عز وجل كافٍ عبده ورسوله، فليس له إلا الانشغال بما أمره الله عز وجل به، كما قال في ختام السورة : {ولقد آتيناك سبعا من المثاني والقرآن العظيم. لا تمدن عينيك إلى ما متعنا به أزواجا منهم ولا تحزن عليهم واخفض جناجك للمؤمنين} [سورة الحجر: 87-88]
وقال: {فَاصْدَعْ بِمَا تُؤْمَرُ وَأَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ. إِنَّا كَفَيْنَاكَ الْمُسْتَهْزِئِينَ. الَّذِينَ يَجْعَلُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آَخَرَ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ. وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّكَ يَضِيقُ صَدْرُكَ بِمَا يَقُولُونَ. فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَكُنْ مِنَ السَّاجِدِينَ. وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ} [سورة الحجر: 94-99]
لهذا كله كان من المناسب تذكير المشركين بعجزهم عن تحصيل الرزق الذي بأيديهم إلا أن يرزقهم الله به، وعاجزون عن تدبير أمورهم، وأمور من تحت أيديهم، مع كمال افتقارهم لما عند الله عز وجل، وغناه عنهم، وكمال قدرته وهيمنته على خلقه؛ أفيعجزه حفظ الوحي ونصرة رسوله صلى الله عليه وسلم ومن اتبعه من المؤمنين؟!
حاشاه سبحانه !
ومن هذه الآيات الدالة على هذا المعنى قول الله عز وجل: {وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا عِنْدَنَا خَزَائِنُهُ وَمَا نُنَزِّلُهُ إِلَّا بِقَدَرٍ مَعْلُومٍ}
وللوقوف على دلالة الآية على هذه المعاني لابد من الوقوف أمام المعاني البيانية لها؛ فأقول وبالله التوفيق:
قال الله عز وجل: {وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا عِنْدَنَا خَزَائِنُهُ}
الواو هنا استئنافية، و{إنْ} بمعنى ما النافية، و {مِنْ} حرف جر زائد، يفيد تقوية المعنى وتأكيده، و {شيءٍ} مجرور بـ{مِنْ} لفظًا، مرفوعٌ على الابتداء محلا، و {إلا} أداة حصر، و{عِندنا خزائنه} جملة اسمية، قُدم الظرف فيها والمضاف إليه على أنه خبر مُقدم وأُخر المبتدأ وهو {خزائنه} والضمير فيها يعود على {شيء}
فيكون المعنى العام للآية:(ما من شيء إلا وعند الله خزائنه)
والخزائن جمع خزينة؛ وهي ما يحفظ فيه الناس نفائس الأموال، فيسترونها عن أعين الناس، ويصونوها من السرقة ونحو ذلك.
واختلف المفسرون في المراد بالخزائن في هذه الآية:
القول الأول: أنها في خزائن المطر، وهو مروي عن عبد الله بن مسعود وابن عباس والحكم بن عتيبة رضي الله عنهم، وابن جريج، وقال به ابن جرير الطبري والبغوي.
- قال يزيد بن أبي زياد عن أبي جحيفة عن عبد اللّه بن مسعودٍ رضي الله عنه قال:" ما من عامٍ بأمطر من عامٍ، ولكنّ اللّه يقسمه حيث يشاء، عامًا ههنا وعامًا ههنا، ثمّ قرأ: {وإن من شيءٍ إلاّ عندنا خزائنه، وما ننزّله إلاّ بقدرٍ معلومٍ} ". رواه ابن جرير.
- عن ابن عباس رضي الله عنهما قال:"ما نقص المطر منذ أنزله الله ولكن تمطر أرض أكثر مما تمطر الأخرى ثم قرأ {وما ننزله إلا بقدر معلوم}".رواه ابن المنذر وابن أبي حاتم كما في الدر المنثور للسيوطي.
- قال سُنيد: حدّثنا هشيمٌ، قال: أخبرنا إسماعيل بن سالمٍ عن الحكم بن عتيبة رضي الله عنه في قوله: {وإن من شيء إلا عندنا خزائنه وما ننزله إلا بقدر معلوم} قال: "ما من عام بأكثر مطر من عام ولا أقل ولكنه يمطر قوم ويحرم آخرون وربما كان في البحر ...". رواه ابن جرير، ورواه ابن المنذر وابن أبي حاتم كما في الدر المنثور للسيوطي.
- قال سُنيد: حدّثني حجّاجٌ قال: قال ابن جريجٍ: {وإن من شيءٍ إلاّ عندنا خزائنه، وما ننزّله إلاّ بقدرٍ معلومٍ} قال: " المطر خاصّةً ". رواه ابن جرير.
وهذا القول يفيد تخصيص المراد بالخزائن في الآية بالمطر، وهو مخالف لمعنى العموم المفهوم من لفظ الآية على ما سيأتي بيانه.
القول الثاني: أن معناها العموم، فخزائن الأشياء كلها عند الله عز وجل، وهو قول أبي جعفر النحاس وابن عطية وابن الجوزي وابن جُزيِّ الكلبي وابن القيم وابن كثير، وغيرهم.
ودلّ على هذا العموم لفظ الآية فدخول حرف الجر الزائد {مِن} على نكرة {شيء} في سياق النفي الذي دلّ عليه {إنْ} التي بمعنى (ما)، من الأساليب العربية الدالة على العموم؛ فيكون المعنى أن عموم الأشياء إنما هي مُلكٌ لله عز وجل.
ويدل عليه من كتاب الله عز وجل، ورورد آيات كثيرة فيها التعبير بالخزائن على سعة ملك الله عز وجل، وأنه الرزاق لجميع عباده.
كما قال سبحانه: {وَلَا أَقُولُ لَكُمْ عِنْدِي خَزَائِنُ اللَّهِ وَلَا أَعْلَمُ الْغَيْبَ وَلَا أَقُولُ إِنِّي مَلَكٌ وَلَا أَقُولُ لِلَّذِينَ تَزْدَرِي أَعْيُنُكُمْ لَنْ يُؤْتِيَهُمُ اللَّهُ خَيْرًا اللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا فِي أَنْفُسِهِمْ إِنِّي إِذًا لَمِنَ الظَّالِمِينَ}[سورة هود: 31]
- قال سُنيد: حدّثني حجّاجٌ قال: قال ابن جريجٍ في تفسير هذه الآية: "{ولا أقول لكم عندي خزائن اللّه} الّتي لا يفنيها شيءٌ، فأكون إنّما أدعوكم لتتّبعوني عليها لأعطيكم منها". رواه ابن جرير.
وقال الله عز وجل: {قُلْ لَوْ أَنْتُمْ تَمْلِكُونَ خَزَائِنَ رَحْمَةِ رَبِّي إِذًا لَأَمْسَكْتُمْ خَشْيَةَ الْإِنْفَاقِ وَكَانَ الْإِنْسَانُ قَتُورًا} [سورة الإسراء: 100]
وقال: {أم عندهم خزائن ربّك أم هم المصيطرون}[سورة الطور: 37]
وقال: {هُمُ الَّذِينَ يَقُولُونَ لَا تُنْفِقُوا عَلَى مَنْ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ حَتَّى يَنْفَضُّوا وَلِلَّهِ خَزَائِنُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلَكِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَا يَفْقَهُونَ}[سورة المنافقون:7]
فحين قال المنافقون (لا تنفقوا على من عندَ رسول الله حتى ينفضوا)، ردَّ الله عليهم دعواهم بأن خزائن السماوات والأرض له وحده، يملكها وينفق منها على من يشاء، وما بأيديهم من الرزق إنما هو من عند الله ولو شاء لمنعه عنهم!
وفي الحديث القدسي قال الله عز وجل: "يا عبادي لو أن أولكم وآخركم وإنسكم وجنكم قاموا في صعيد واحد فسألوني فأعطيت كل إنسان مسألته، ما نقص ذلك مما عندي إلا كما ينقص المخيط إذا أدخل البحر".رواه مسلم.
وفي الحديث عن أبي هريرة: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال: "يَدُ اللَّهِ مَلْأَى لَا يَغِيضُهَا نَفَقَةٌ، سَحَّاءُ الليل والنهار، وقال: أرأيتم ما أنفق منذ خلق السموات والأرض، فإنه لَمْ يَغِضْ مَا فِي يَدِهِ، وقال: عرشه على الماء، وبيده الأخرى الميزان، يخفض ويرفع ".رواه البخاري.
ومعنى يغيضها: ينقصها، سحاء: دائمة العطاء، يغض: ينقص.
وتفسير السلف للخزائن بأنها المطر من باب التفسير بالمثال، فالمطر واحد من خزائن الله عز وجل، وجاء تخصيص ذكره في هذه الآية لأن سياق الآيات في بيان آيات الله في السماء والأرض.
قال الله عز وجل في الآيات السابقة: {والأرض مددناها وألقينا فيها رواسي وأنبتنا فيها من كل شيء موزون. وجعلنا لكم فيها معايش ومن لستم له برازقين} [سورة الحجر: 19-20]
وقال سبحانه في الآيات بعدها: {وَأَرْسَلْنَا الرِّيَاحَ لَوَاقِحَ فَأَنْزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَسْقَيْنَاكُمُوهُ وَمَا أَنْتُمْ لَهُ بِخَازِنِينَ} [سورة الحجر: 22]
ووجّه المفسرون معنى العموم في الآية على هذا القول بأن المطر منه نبات كل شيء.
قال ابن أبي زمنين:({وَإِنْ مِنْ شيءٍ إِلا عِنْدَنَا خزائنه}يعني: المطر؛ وهذه الأشياء كلها إنما تعيش بالمطر)اهـ.
ويبقى معنى الآية عام، كما قال ابن كثير:"يخبر، تعالى، أنّه مالك كلّ شيءٍ، وأنّ كلّ شيءٍ سهلٌ عليه، يسير لديه، وأن عنده خزائن الأشياء من جميع الصّنوف"
وتأمل كيف جاءت الخزائن بصيغة الجمع، فالشيء الواحد له خزائن كثيرة، ألا يدلك هذا على سعة ملك الله عز وجل؟
ثم تأمل كيف عبّر الله عز وجل عن ملكه بالخزائن، وهذه الكلمة - كما علمت- تدل على الحفظ والاستتار وتدل على عجز العباد عن الوصول إليها إلا أن يأذن لهم مالك هذه الخزائن، مع شدة افتقار العباد لما عند الله عز وجل!
وأمام هذه الحقيقة تتعجب كيف يعرض العباد عن آيات ربهم، ويكفرون به ويكذبون رسوله ؟!
ومن تصور قدرة الله عز وجل على حفظ خزائن السماوات والأرض، كيف يتصور أن الله لن يحفظ كلامه ووحيه الذي أنزله على نبيه محمد صلى الله عليه وسلم، نورا وهدى للناس، ويسعى للصد عن دعوته والتكذيب بكتاب الله عز وجل !
وإذا علمت أن هذا الرزق الذي بيديك إنما هو مما أذن الله عز وجل بوصوله إليك، فكيف تعصي الله به؟ وكيف تُقصر في شكر نعمته عليك؟
ومما ينبغي التنبيه عليه أن رزق الله عز وجل لا ينحصر في الأمور المادية، فعموم معنى الخزائن يشمل الأمور المعنوية أيضًا بل هي أجلُّ وأعظم، مثل الصبر والعافية واليقين.
وفي الحديث عن أبي سعيد الخدري، أن ناسا من الأنصار سألوا رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأعطاهم، ثم سألوه فأعطاهم، حتى إذا نفد ما عنده قال: «ما يكن عندي من خير فلن أدخره عنكم، ومن يستعفف يعفه الله، ومن يستغن يغنه الله، ومن يصبر يصبره الله، وما أعطي أحد من عطاء خير وأوسع من الصبر». رواه البخاري ومسلم، واللفظ لمسلم.
وعن أبي بردة، عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه، قال: قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم: «قل اللهم اهدني وسددني، واذكر، بالهدى هدايتك الطريق، والسداد، سداد السهم». رواه أحمد ومسلم واللفظ لمسلم.
وعن أوسط قال: خطبنا أبو بكر فقال: قام رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مقامي هذا عام الأوّل، وبكى أبو بكر، فقال أبو بكر: «سلوا الله المعافاة، أو قال: العافية، فلم يؤت أحد قط بعد اليقين أفضل من العافية أو المعافاة، عليكم بالصدق، فإنه مع البر، وهما في الجنة، وإياكم والكذب، فإنه مع الفجور، وهما في النار، ولا تحاسدوا ولا تباغضوا ولا تقاطعوا ولا تدابروا، وكونوا إخواناً كما أمركم الله تعالى». رواه أحمد، وصححه أحمد شاكر.
والمقصود أن على المؤمن أن لا يغفل عن حقيقة أن النعم الدينية التي أنعم الله بها عليه من انشراح صدره للطاعات، والصبر لحكم الله عز وجل، واليقين بأمره، وغيرها من أنواع النعم، خيرٌ له من متاع الدنيا كلها، وإذا كان يعاني نقصًا في أي منها فعليه أن يسأل الله عز وجل ويُلح في مسألته أن يزيده من هذه النعم، كما يلح في سؤاله أن يزيده مالا أو متاعًا دنيويًا.
وجاءت كلمة (خزائنه) ضمن أسلوب يسمى بأسلوب الحصر، وهذا الحصر مستفاد من وجهين:
الأول: النفي والاستثناء في قوله تعالى :{وإن من شيء إلا عندنا خزائنه}
والثاني: تقديم الخبر على المبتدأ في قوله تعالى: {عندنا خزائنه}
فلا أحد يملك على الحقيقة إلا الله عز وجل!
والتعبير بظرف المكان (عِندَ) يدل على أن خزائن كل شيء موجودة على الحقيقة، وجاء التعبير بضمير الجمع (عندنا) ولم يقل (عندي) تعظيمًا له سبحانه !
فإذا أردت شيئا من نعم الدنيا والآخرة، فممن تطلبه إن لم تطلبه من الله عز وجل العظيم القدير مالك الملك الواسع العليم؟!
وفهم هذه المعاني واستحضارها يزيد القلب إخلاصا لله عز وجل، وتعلقًا به وحده، فمهما بدا أن الخلق متصرفون فيما يملكون من سلطة أو مال، فحقيقة ملكهم أنه بأمر الله عز وجل، فكيف نخشى الخلق، ولا نخشى الله عز وجل؟!
وكيف نسأل الخلق ونتعلق بهم، ولا نسأل الله عز وجل؟
قال ابن القيم:"قَول الله تَعالى {وَإن من شَيْء إلّا عندنا خزائنه}
مُتَضَمّن لكنز من الكُنُوز وهو أن يطْلب كل شَيْء لا يطْلب إلّا مِمَّن عِنْده خزائنه ومفاتيح تِلْكَ الخزائن بيدَيْهِ وأن طلبه من غَيره طلب مِمَّن لَيْسَ عِنْده ولا يقدر عَلَيْهِ" اهـ.
فكيف يُتصور بمن آمن بكل هذا، أن لا يتوكل على الله حق التوكل، وأن يعصي الله خوفَ انقطاع الرزق، وهل الرزق إلا بيد الله عز وجل، فكيف يرتجي المرءُ ما عندَ الله بمعصيته !
فإن قيل إن كان هذا هو عظيمُ مُلك الله عز وجل، فلماذا يبسط الرزق لمن يشاء ويقدر؟
ولماذا يحلُّ الجفاف بعام فلا ينزل المطر وتجف الأرض ويموت الزرع، ويُغاث الناس في عام آخر؟
والجواب في الجملة الثانية من الآية، حيث قال الله عز وجل: {وما نُنزّله إلا بقدرٍ معلوم}
والواو للعطف على الجملة السابقة: {وإن من شيء إلا عندنا خزائنه} ، والأسلوب هنا أيضًا للحصر بالنفي والاستثناء، ويدل على أن تنزيل هذه الأشياء إنما يكون بقدر معلوم لله عز وجل
وجاء الفعل " نُنزّل " بنون الجمع أيضًا تعظيمًا لله عز وجل.
وجاء مُضارعًا ومن الرباعي المضعّف (نزّل) ليفيد التجدد والاستمرار؛ فرزق الله عز وجل لعباده دائم متجدد، كما أفاد التعبير بالفعل على هذا الوزن (نُنزل) أنه على فترات وليس جملة واحدة؛ ليكون بحسب احتياج الخلق وما يصلحهم، ومصلحتهم الدينية أعظم وأنفع، فمن علم أن الابتلاء بضيق الرزق يقربه من ربه عز وجل، ويجعله أكثر إيمانًا وطاعة وإقدامًا على ما ينفعه في آخرته، وعلم أن الآخرة هي دار الخلود والقرار، هان عليه ما يجده من ضيق الرزق، لهذا قال الله عز وجل: {وما ننزله إلا بقدر معلوم}.
فقوله: {بقدر معلوم} يفيد حكمة الله عز وجل بتعيين هذا القدر، وإحاطة علمه بكل شيء.
فلك أن تتصور جميع أرزاق المخلوقات، مع تعدد أنواع المخلوقات، ما علمنا وما لم نعلم، الله عز جل يعلمها، وينزّل لها رزقها بقدره، قال تعالى: {وما مِن دآبة في الأرض إلا على الله رزقُها ويعلمُ مُستقرّها ومُستودعها كلٌ في كِتابٍ مبين} [سورة هود: 6]
وله سبحانه في عباده حِكمٌ، علمها الإنسان أو لم يعلمها، فهو سبحانه يبسط الرزق لمن يشاء ويقدر، وهو الحكيم في ذلك، يضع الشيء في موضعه.
قال تعالى: {إنّ ربك يبسطُ الرزق لمن يشاءُ ويقدر إنه كان بعباده خبيرا بصيرا} [سورة الإسراء: 30]
وفي الحديث عن عروة بن الزبير، أن المسور بن مخرمة، أخبره أن عمرو بن عوف وهو حليف بني عامر بن لؤي، وكان شهد بدرا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، أخبره أن رسول الله صلى الله عليه وسلم بعث أبا عبيدة بن الجراح إلى البحرين، يأتي بجزيتها، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم هو صالح أهل البحرين، وأمر عليهم العلاء بن الحضرمي، فقدم أبو عبيدة بمال من البحرين، فسمعت الأنصار بقدوم أبي عبيدة، فوافوا صلاة الفجر مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلما صلى رسول الله صلى الله عليه وسلم انصرف، فتعرضوا له، فتبسَّم رسول الله صلى الله عليه وسلم حين رآهم، ثم قال: «أظنكم سمعتم أن أبا عبيدة قدم بشيء من البحرين؟» فقالوا: أجل يا رسول الله قال: «فأبشروا وأمِّلوا ما يسركم، فوالله ما الفقر أخشى عليكم، ولكني أخشى عليكم أن تبسط الدنيا عليكم، كما بسطت على من كان قبلكم، فتنافسوها كما تنافسوها، وتهلككم كما أهلكتهم». رواه البخاري ومسلم.
وفي سورة الفجر قال الله عز وجل: {فأمّا الإنسان إذا ما ابتلاه ربّه فأكرمه ونعّمه فيقول ربّي أكرمن. وأمّا إذا ما ابتلاه فقدر عليه رزقه فيقول ربّي أهانن. كلّا بل لّا تكرمون اليتيم. ولا تحاضّون على طعام المسكين. وتأكلون التّراث أكلًا لّمًّا. وتحبّون المال حبًّا جمًّا} [سورة الفجر: 15-20]
قال ابن كثير:"يقول تعالى: منكراً على الإنسان في اعتقاده إذا وسّع الله عليه في الرزق؛ ليختبره في ذلك، فيعتقد أن ذلك من الله إكرامٌ له، وليس كذلك، بل هو ابتلاءٌ وامتحانٌ، كما قال تعالى: {أيحسبون أنّما نمدّهم من مالٍ وبنين * نسارع لهم في الخيرات بل لا يشعرون}.
وكذلك في الجانب الآخر، إذا ابتلاه وامتحنه، وضيّق عليه في الرزق يعتقد أن ذلك من الله إهانةٌ له". اهـ
فحريٌ بنا أن نحسن الظن بالله عز وجل، ونرضى بما رزقنا به، وننشغل بشكر نعمه علينا، وإذا سألنا فلا نسأل غيره، ولا نخشى مخلوقًا ضعيفًا يظن أن بيده حجب رزق الله عن عباده، فوحده سبحانه بيده خزائن السماوات والأرض، وإنما ينزل رزقه بقدر معلوم عنده.
ربنا لا تُزغ قلوبنا بعد إذ هديتنا وهب لنا من لدنك رحمة إنّك أنت الوهاب، ربنا اغفر لنا ذنوبنا وإسرافنا في أمرنا وثبت أقدامنا وانصرنا على القوم الكافرين، ربنا أفرغ علينا صبرًا وتوفنا مسلمين.
_____________________________________
هذه الرسالة كانت ضمن واجبات دورة أساليب التفسير للشيخ عبد العزيز بن داخل المطيري -حفظه الله-، كتبتها بتاريخ 3 جمادى الأولى 1442هـ، الموافق 17 ديسمبر 2020، وعدلتها يوم السبت بتاريخ 26 شعبان 1444هـ، الموافق 18 مارس 2023، وذلك وفق ملاحظات هيئة التصحيح، جزاهم الله خيرًا.