المجموعة الثالثة:
1: تكلّم عن جمع القرآن في عهد أبي بكر رضي الله عنه.
* سبب جمع أبي بكر للقرآن:
- جمع أبو بكر القرآن الجمع الأول لحفظ القرآن فلا يذهب منه شيء، روى البخاري: عن زيد بن ثابت أنه قال: أرسل إلى أبو بكر -مقتل أهل اليمامة- فإذا عمر بن الخطاب عنده، فقال أبو بكر: إن عمر بن الخطاب أتاني، فقال: إن القتل قد استحر بقراء القرآن، وإني أخشى أن يستحر القتل بالقراء في المواطن فيذهب كثير من القرآن، وإني أرى أن تأمر بجمع القرآن. فقلت لعمر: كيف نفعل شيئا لم يفعله رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ قال عمر: هذا والله خير، فلم يزل عمر يراجعني حتى شرح الله صدري لذلك ورأيت في ذلك الذي رأى عمر. قال زيد: قال أبو بكر: إنك رجل شاب عاقل لا نتهمك، وقد كنت تكتب الوحي لرسول الله صلى الله عليه وسلم، فتتبع القرآن فاجمعه، فوالله لو كلفوني نقل جبل من الجبال ما كان علي أثقل مما أمرني به من جمع القرآن. قلت: كيف تفعلون شيئا لم يفعله رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ قال: هو والله خير. فلم يزل أبو بكر يراجعني حتى شرح الله صدري للذي شرح له صدر أبي بكر وعمر، رضي الله عنهما. فتتبعت القرآن أجمعه من العسب واللخاف وصدور الرجال، ووجدت آخر سورة التوبة مع أبي خزيمة الأنصاري لم أجدها مع غيره: {لقد جاءكم رسول من أنفسكم عزيز} [التوبة: 128] حتى خاتمة براءة، فكانت الصحف عند أبي بكر حتى توفاه الله، ثم عند عمر حياته، ثم عند حفصة بنت عمر، رضي الله عنهم.
أما العسب فجمع عسيب قال الجوهري: وهو من السعف فويق الكرب لم ينبت عليه الخوص، وما نبت عليه الخوص فهو السعف.
واللخاف: جمع لخفة وهي القطعة من الحجارة مستدقة، كانوا يكتبون عليها وعلى العسب وغير ذلك، مما يمكنهم الكتابة عليه بما يناسب ما يسمعونه من القرآن من رسول الله صلى الله عليه وسلم.
- ومن الصحابة من لم يكن يحسن الكتابة أو يثق بحفظه، فكان يحفظه، فتلقاه زيد بن ثابت من هذا من عسيبه، ومن هذا من لخافه، ومن صدر هذا، أي من حفظه.
- جمع أبو بكر الصديق رضي الله عنه القرآن العظيم من أماكنه المتفرقة حتى تمكن القارئ من حفظه كله، حتى قال علي بن أبي طالب عنه: أعظم الناس أجرا في المصاحف أبو بكر، إن أبا بكر كان أول من جمع القرآن بين اللوحين. إسناده صحيح. وقد أمر الصديق رضي الله عنه عمرا لما جمع القرآن أن لا يقبل من أحد شيئا حتى يشهد شاهدان. فالذي فعله الشيخان أبو بكر وعمر، رضي الله عنهما، من أكبر المصالح الدينية وأعظمها، من حفظهما كتاب الله في الصحف؛ لئلا يذهب منه شيء بموت من تلقاه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم.
- كانت تلك الصحف عند الصديق أيام حياته، ثم أخذها عمر بعده فكانت عنده محروسة معظمة مكرمة، فلما مات كانت عند حفصة أم المؤمنين، لأنها كانت وصيته من أولاده على أوقافه وتركته وكانت عند أم المؤمنين رضي الله عنها، حتى أخذها منها أمير المؤمنين عثمان بن عفان، رضي الله عنه.
• من قام بنسخ المصحف في عهد أبي بكر الصديق رضي الله عنه
- روى البخاري عن زيد ابن ثابت، أن أبا بكر الصديق قال له: (وكنت تكتب الوحي لرسول الله صلى الله عليه وسلم)، ولم يذكر البخاري أحدا من الكتّاب في هذا الباب سوى زيد بن ثابت، وهذا عجب، وكأنه لم يقع له حديث يورده سوى هذا، والله أعلم
2: بيّن معنى التغنّي بالقرآن.
جاء في معنى التغني بالقرآن عدة أقوال، منها:
القول الأول: الجهر به والترنم به بتحزن وتخشع مع تحسين الصوت.
- عن أبي سلمة بن عبد الرحمن عن أبي هريرة رضي الله عنه أنه كان يقول: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((لم يأذن الله لشيء، ما أذن لنبي أن يتغنى بالقرآن))، وقال صاحب له: يريد يجهر به. رواه البخاري.
- قال حرملة: (سمعت ابن عيينة يقول: معناه: (يستغني به) فقال لي الشافعي: ليس هو هكذا، ولو كان هكذا لكان يتغانى به، وإنما هو يتحزن ويترنم به).
- قال ابن كثير: (معناه: أن الله ما استمع لشيء كاستماعه لقراءة نبي يجهر بقراءته ويحسنها، وذلك أنه يجتمع في قراءة الأنبياء طيب الصوت لكمال خلقهم وتمام الخشية، وذلك هو الغاية في ذلك).
- الله تعالى يسمع أصوات العباد كلهم برهم وفاجرهم لكن استماع الله لقراءة النبي والمؤمنين استماع تشريف.
- عن فضالة بن عبيد قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((لله أشد أذنا إلى الرجل الحسن الصوت بالقرآن يجهر به من صاحب القينة إلى قينته)). رواه ابن ماجة بسند جيّد.
- قال أبو عبيد: (يعني: الاستماع. وقوله في الحديث الآخر: ((ما أذن الله لشيء)) أي: ما استمع).
- عن السائب قال: قال لي سعد: يابن أخي، هل قرأت القرآن؟ قلت: نعم. قال: غن به، فإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ((غنوا بالقرآن، ليس منا من لم يغن بالقرآن، وابكوا، فإن لم تقدروا على البكاء فتباكوا)). رواه أبو القاسم البغوي.
- عن سعد بن أبي وقاص قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((ليس منا من لم يتغن بالقرآن)). رواه أبو داوود.
- عن سعد بن أبي وقاص قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((إن هذا القرآن نزل بحزن، فإذا قرأتموه فابكوا، فإن لم تبكوا فتباكوا، وتغنوا به، فمن لم يتغن به فليس منا)). رواه ابن ماجة.
- قال ابن كثير: (فقد فهم من هذا أن السلف، رضي الله عنهم، إنما فهموا من التغني بالقرآن: إنما هو تحسين الصوت به، وتحزينه، كما قاله الأئمة، رحمهم الله).
- واستدلّ لذلك بحديث البراء بن عازب قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((زينوا القرآن بأصواتكم)). رواه أبو داوود والنسائي وابن ماجه.
- المراد من تحسين الصوت بالقرآن: تطريبه وتحزينه والتخشع به،
- عن أبي موسى الأشعري قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((لو رأيتني وأنا أستمع قراءتك البارحة، لقد أوتيت مزمارا من مزامير آل داود )). قلت: أما والله لو علمت أنك تستمع قراءتي لحبرتها لك تحبيرا). رواه مسلم.
- قال ابن كثير: (والغرض أن أبا موسى قال: لو أعلم أنك تستمع لحبرته لك تحبيرا، فدل على جواز تعاطي ذلك وتكلفه).
القول الثاني: يستغني به وينشغل به عن غيره..
- عن عقبة بن عامر قال: خرج علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم يوما ونحن في المسجد نتدارس القرآن، فقال: ((تعلموا كتاب الله واقتنوه)). قال: وحسبت أنه قال: ((وتغنوا به، فوالذي نفسي بيده، لهو أشد تفلتا من المخاض من العقل)). رواه أبو عبيد، وفي رواية له: ((واقتنوه وتغنوا به)) ولم يشك، وهكذا رواه أحمد والنسائي.
القول الثالث: طالبا به غنى النفس راجيا به غنى اليد.
- عن المهاصر بن حبيب قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((يا أهل القرآن، لا توسدوا القرآن، واتلوه حق تلاوته آناء الليل والنهار، وتغنوه واقتنوه، واذكروا ما فيه لعلكم تفلحون))
- قال ابن كثير: (وهذا مرسل).
- قال أبو عبيد: (قوله: ((تغنوه)): يعني: اجعلوه غناءكم من الفقر، ولا تعدوا الإقلال منه فقرا. وقوله: ((واقتنوه))، يقول: اقتنوه، كما تقتنون الأموال: اجعلوه مالكم).
- عن سعد بن أبي وقاص قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((ليس منا من لم يتغن بالقرآن)). قال وكيع: يعني: يستغنى به). رواه أحمد.
- قال عبيد الله بن أبي يزيد: مرَّ بنا أبو لبابة فاتبعناه حتى دخل بيته فدخلنا عليه، فإذا رجل رث البيت، رث الهيئة، فانتسبنا له، فقال: تجار كسبة، فسمعته يقول: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ((ليس منا من لم يتغن بالقرآن)). قال: فقلت لابن أبي مليكة: يا أبا محمد، أرأيت إذا لم يكن حسن الصوت قال: يحسنه ما استطاع). رواه أبو داود.
3: أيهما أفضل: القراءة من المصحف أم القراءة عن ظهر قلب؟
• الأرجح عند أكثر العلماء أن القراءة من المصحف أفضل من القراءة عن ظهر قلب. وقد ورد عدة آثار عن السلف تدل على ذلك:
- فالذي صرح به كثيرون من العلماء أن قراءة القرآن من المصحف أفضل؛ لأنه يشتمل على التلاوة والنظر في المصحف وهو عبادة، كما صرح به غير واحد من السلف، وكرهوا أن يمضي على الرجل يوم لا ينظر في مصحفه.
- روي عن ابن مسعود قال: أديموا النظر في المصحف.
- روي عن عمر: أنه كان إذا دخل بيته نشر المصحف فقرأ فيه.
- روي عن ابن مسعود: أنه كان إذا اجتمع إليه إخوانه نشروا المصحف، فقرؤوا، وفسر لهم. إسناد صحيح.
- روي عن ابن عمر قال: إذا رجع أحدكم من سوقه فلينشر المصحف وليقرأ. وقال الأعمش عن خيثمة: دخلت على ابن عمر وهو يقرأ في المصحف فقال: هذا جزئي الذي أقرأ به الليلة.
• سبب تفضيل النظر للمصحف عند قراءة القرآن عن الحفظ عن ظهر قلب.
- لئلا يعطل المصحف فلا يقرأ منه.
- ولأن الاستثبات أولى، فالرجوع إلى المصحف أثبت من أفواه الرجال.
- ولعله قد يقع لبعض الحفظة نسيان فيستذكر منه، أو تحريف كلمة أو آية أو تقديم أو تأخير.
• ولا يفهم من ترجمة البخاري أنه يفضل القراءة عن ظهر قلب.
- أفرد البخاري في هذه الترجمة حديث أبي حازم عن سهل بن سعد، الحديث الذي فيه أنه، عليه السلام، قال لرجل: ((فما معك من القرآن؟)). قال: معي سورة كذا وكذا، لسور عددها. قال: ((أتقرؤهن عن ظهر قلبك؟)). قال: نعم. قال: ((اذهب فقد ملكتكها بما معك من القرآن)).. قال ابن كثير: ولا يدل هذا الحديث الذي أورده البخاري على أن تلاوة القرآن عن ظهر قلب أفضل منها في المصحف مطلقا في حق من يحسن الكتابة ومن لا يحسنها.
لسببين:
-- لأنها قضية عين، فيحتمل أن ذلك الرجل كان لا يحسن الكتابة ويعلم ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم منه، إذ لو دل هذا لكان ذكر حال رسول الله صلى الله عليه وسلم وتلاوته عن ظهر قلب -لأنه أمي لا يدري الكتابة- أولى من ذكر هذا الحديث بمفرده.
-- لأن سياق الحديث إنما هو لأجل استثبات أنه يحفظ تلك السور عن ظهر قلب؛ ليمكنه تعليمها لزوجته، وليس المراد هاهنا: أن هذا أفضل من التلاوة نظرا، ولا عدمه والله سبحانه وتعالى أعلم.
• وهناك من العلماء من جعل المدار حول الخشوع.
- فقال بعضهم: المدار في هذه المسألة على الخشوع في القراءة، فإن كان الخشوع عند القراءة على ظهر القلب فهو أفضل، وإن كان عند النظر في المصحف فهو أفضل فإن استويا فالقراءة نظرا أولى؛ لأنها أثبت وتمتاز بالنظر في المصحف.