تلخيص مبحث تفسيرالاستعاذة
بسم الله والحمدلله والصلاة والسلام على نبينا محمد ومن والاه وبعد،
فهذا ما يسر الله تعالى من تلخيص مبحث الاستعاذة من تفسير ابن كثير -رحمه الله – حيث لم يتعرض لها غيره من التفاسير المقررة ويتركز في ثمان مسائل على النحو الآتي:
المسألة الأولى:مواضعها.
الموضع الأول: عند قراءة القرآن الكريم،واختلف العلماء في محلها على ثلاثة أقوال:
الأول:بعد القراءة.
الثاني:قبل القراءة
.
الثالث:أوّل القراءة وآخرها جمعًا بين الأدلة.
*واستدلوا بالآتي:
أولا: أدلة القول الأول:
1- اعتمدوا على ظاهرسياق الآية:" فإذا قرأت القرآن فاستعذ باللّه من الشّيطان الرّجيم}النّحل: 98
2- دفع الإعجاب بعد فراغ العبادة.
ثانيا: أدلة القول الثاني:
1- قياسا على قوله تعالى:" إذا قمتم إلى الصّلاة فاغسلوا وجوهكم وأيديكم} الآية [المائدة: 6] أي: إذا أردتم القيام، فيكون
معنى الآية عندهم: "فإذا قرأت القرآن فاستعذ باللّه من الشّيطان الرّجيم}[النّحل: 98] أي: إذا أردت القراءة.
2-
الأحاديث الثابتة عن رسول اللّه صلّىاللّه عليه وسلّم تفيد ذلك منها:
أ- حديث أبي سعيدٍ الخدريّ، قال: كان رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلمإذا قام من اللّيل فاستفتح صلاته وكبّر قال: «سبحانكاللّهمّ وبحمدك، وتباركاسمك، وتعالى جدّك، ولا إله غيرك». ويقول: «لا إله إلّااللّه» ثلاثًا، ثمّ يقول: «أعوذ باللّه السّميع العليم، من الشّيطان الرّجيم، من همزه ونفخه ونفثه».[1].
ب-
حديث جبير بن مطعمٍ، عن أبيه قال: رأيت رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم حين دخل في الصّلاة، قال: «اللّه أكبر كبيرًا، ثلاثًا، الحمد للّه كثيرًا، ثلاثًا، سبحان اللّه بكرةً وأصيلًا ثلاثًا، اللّهمّ إنّي أعوذ بك من الشّيطان من همزه ونفخه ونفثه».[2]
3-
أنّ الاستعاذة لدفع الوسواس فيها، إنّما تكون قبل التّلاوة.
القول الراجح: هو القول الثاني
وهو المشهور الّذي عليه الجمهور و دلت عليه الأدلة.
الموضع الثاني:عند الغضب.
[هذه المسألة تذكر ضمن فضائل الاستعاذة؛ فمن فضائلها أنها تقال عند الغضب، ولدفع الوسواس]
دل عليه:
1-حديث أبيّ بن كعبٍ، قال: تلاحى رجلان عند النّبيّ صلّى اللّه عليه وسلّم، فتمزّع أنفأحدهما غضبًا، فقال رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم: «إنّي لأعلم شيئًا لو قاله ذهب عنه ما يجد: أعوذ باللّه من الشّيطان الرّجيم».
[3]
2-حديث سليمان بن صرد، قال: استبّ رجلان عند النّبيّ صلّى اللّهعليه وسلّم، ونحن عنده جلوسٌ، فأحدهما يسبّ صاحبه مغضبًا قد احمرّ وجهه، فقالالنّبيّ صلّى اللّه عليه وسلّم: «إنّي لأعلم كلمةً لوقالها لذهب عنه ما يجد، لو قال: أعوذ باللّه من الشّيطان الرّجيم» فقالوا للرّجل: ألا تسمع ما يقول رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم؟!، قال: إنّي لست بمجنونٍ[4].
المسألة الثانية:متى أمربهـــــا؟ [هذه المسألة تعنون: هل الاستعاذة من القرآن؟ وإنما ذكر ابن كثير هذا الأثر ليبين ضعفه وانقطاعه]
روي أنّ جبريل عليهالسّلام، أوّل ما نزل بالقرآن على رسول الله صلى الله عليه وسلم أمره بالاستعاذة،كما نقل ابن جريرٍ: عن الضّحّاك، عن عبد اللّه بن عبّاسٍ، قال: أوّل مانزل جبريل على محمّدٍ صلّى اللّه عليه وسلّم قال:«يامحمّد، استعذ». قال: «أستعيذ باللّه السّميعالعليم من الشّيطان الرّجيم» ثمّ قال: «قل: بسم اللّه الرّحمن الرّحيم». ثمّ قال: «{اقرأ باسم ربّك الّذيخلق}»،
قال ابن كثير:" وهذا الأثر غريبٌ، وإنّما ذكرناه ليعرف، فإنّ في إسنادهضعفًا وانقطاعًا، واللّه أعلم.
المسألة الثالثة: حـكمهـــــــا
اختلف العلماء في حكمها على خمسة أقوال بيانها في الآتي:
القول الأول:
أنّ الاستعاذة مستحبّةٌ،
و هو قول جمهور العلماء.
القول الثاني:
تجب في الصّلاة وخارجها كلّما أراد القراءة، وهو قول عطاءبن أبي رباحٍ.
احتج له: بظاهر الآية: "فاستعذ" وهو أمرٌ ظاهره الوجوب وبمواظبة النّبيّ صلّىاللّه عليه وسلّم عليها، ولأنّها تدرأ شرّ الشّيطان وما لا يتمّ الواجب إلّا به فهوواجبٌ، ولأنّ الاستعاذة أحوط وهو أحد مسالك الوجوب.
القول الثالث: إذا تعوّذ مرّةً واحدةً في عمره فقد كفى في إسقاط الوجوب، وهو قول ابن سيرين.
القول الرابع: واجبةٌ على النّبيّ صلّى اللّه عليه وسلّم دون أمّته
القول الخامس: لا يتعوّذ في المكتوبة ويتعوّذ لقيام شهر رمضان في أوّل ليلةٍ منه، حكي عن مالك.
المسألة الرابعة: هل يجهر بهـــــــا؟ [تُدرج ضمن أحكام الاستعاذة]
نقل عن الشافعي قولان:
الأول:
يجهر بالتعوذ، وإن أسرّ فلايضرّ.
الثاني:يخيّر
لأنّ ابن عمر أسرّ ،وجهر أبو هريرة.
واختلف قول الشّافعيّ فيما عدا الرّكعة الأولى: هل يستحبّ التّعوّذ فيها؟ على قولين، ورجّح عدم الاستحباب، واللّه أعلم.
[هذه المسألة تعنون: حكم الاستعاذة فيما عدا الركعة الأولى؛ وتُدرج ضمن المسائل الفقهية]
المسألة الخامسة: صيغها.
1-أعوذ باللّه من الشّيطان الرّجيم نقل عن الشّافعيّ وأبي حنيفة.
2-زاد بعضهم: أعوذ باللّه السّميع العليم.
3-قال آخرون: بل يقول: أعوذ باللّه من الشّيطان الرّجيم إنّ اللّه هو السّميع العليم، قاله الثّوريّ والأوزاعيّ.
4-حكي عن بعضهم أنّه يقول: أستعيذ باللّه من الشّيطان الرّجيم لمطابقة أمر الآية ولحديث الضّحّاك عن ابن عبّاسٍ المذكور[5].
قال ابن كثير:والأحاديث الصّحيحة، كماتقدّم، أولى بالاتّباع من هذا، واللّه أعلم.
وعليه تكون الصيغة الأولى والثانية هي الراجحة.
المسألة السادسة: هل الاستعاذة للتلاوة أم للصلاة؟ [تُدرج ضمن المسائل الفقهية]
اختلف فيها على النحو الآتي:
القول الأول: الاستعاذة في الصّلاة إنّما هي للتّلاوة وهو قول أبي حنيفة ومحمّدٍ.
القول الثاني: بل للصّلاة، وهو قول أبييوسف.
فعلى هذا يتعوّذ المأموم وإن كان لا يقرأ، ويتعوّذ في العيد بعدالإحرام وقبل تكبيرات العيد، وذهب الجمهور أنها بعد تكبيرات العيد قبل القراءة.
المسألة السابعة: منلطائف الاستعاذة
:
1- أنّها طهارةٌ للفم ممّا كان يتعاطاه من اللّغو والرّفث،وتطييبٌ له وتهيّؤٌ لتلاوة كلام اللّه.
2- أنها استعانةٌ باللّه واعترافٌ له بالقدرةوللعبد بالضّعف والعجز عن مقاومة هذا العدوّ المبين الباطنيّ الّذي لا يقدر علىمنعه ودفعه إلّا اللّه الّذي خلقه.
3- أن اللّه تعالى أمر بمصانعة شيطان الإنس ومداراته بإسداء الجميل إليه،ليردّه طبعه عمّا هو فيه من الأذى، وأمر بالاستعاذة به من شيطان الجنّ لأنّه لايقبل رشوةً ولا يؤثّر فيه جميلٌ؛ لأنّه شرّيرٌ بالطّبع ولا يكفّه عنك إلّا الّذي خلقه، وهذا المعنى ورد في ثلاث آياتٍ من القرآن ليس لهنّ رابعة[6].
4- أن الملائكة نزلت لمقاتلةالعدوّ البشريّ يوم بدرٍ، ومن قتله العدوّ البشريّ كان شهيدًا، ومن قتله العدوّالباطنيّ كان طريدًا، ومن غلبه العدوّ الظّاهر كان مأجورًا، ومن قهره العدوّ الباطن كان مفتونًا أو موزورًا، ولمّا كان الشّيطان يرى الإنسان من حيث لا يراه استعاذ منه بالّذي يراه ولا يراه الشيطان.
المسألة الثامنة: معنى الاستعاذة:
تتركب صيغة الاستعاذة من أربع كلمات يحسن بيان كل منها على حدة ثم بيانها مجتمعة
:
1- أعوذ:
أي ألتجئ إلى اللّه وألتصق بجنابه من شرّ كلّ ذي شرٍّ، والعياذة تكون لدفع الشّرّ، واللّياذ يكون لطلب جلب الخير كما قال المتنبّي:
يا من ألوذ به فيما أؤمّله ...... ومن أعوذ به ممّن أحاذره
لا يجبر النّاس عظمًا أنت كاسره ...... ولا يهيضون عظمًا أنت جابره
2- الله:
اسم الجلالة سيأتي معناه مفصلا في البسملة.
3- الشيطان:
في لغة العرب مشتقٌّ من:
أ-شطن إذا بعد، فهو بعيدٌ بطبعه عنطباع البشر، وبعيدٌ بفسقه عن كلّ خيرٍ،
ب- قيل: مشتقٌّ من شاط لأنّه مخلوقٌ من نارٍ.
والأوّل أصحّ لما يأتي:
1-أن كلام العرب دل عليه، قال سيبويه: العرب تقول: تشيطنفلانٌ إذا فعل فعل الشّيطان ولو كان من شاط لقالوا: تشيّط.
2-أنهم يسمّون كلّ ما تمرّد من جنّيٍّ وإنسيٍّ وحيوانٍ شيطانًا،دل عليه:
أ-قوله تعالى: "وكذلك جعلنا لكلّ نبيٍّ عدوًّا شياطينالإنس والجنّ يوحي بعضهم إلى بعضٍ زخرف القول غرورًا} [الأنعام: 112
ب- حديث أبي ذرٍّ قال: قال رسول اللّه صلّىاللّه عليه وسلّم: «يقطع الصّلاة المرأة والحمار والكلبالأسود». فقلت: يا رسول اللّه، ما بال الكلب الأسود من الأحمروالأصفر؟ فقال: «الكلب الأسود شيطانٌ[7].
جـ- أنّ عمر بن الخطّاب، رضي اللّه عنه، ركب برذونًا، فجعل يتبختر به، فجعل لا يضربهفلا يزداد إلّا تبخترًا، فنزل عنه، وقال: «ما حملتمونيإلّا على شيطانٍ، ما نزلت عنه حتّى أنكرت نفسي»[8].
4-الرجيم :
1- فعيلٌ بمعنى مفعولٍ، أي: أنّه مرجومٌ مطرودٌ عن الخير كلّه،كما قال تعالى: {ولقد زيّنّا السّماء الدّنيا بمصابيحوجعلناها رجومًا للشّياطين} [الملك: 5]،
2- وقيل: رجيمٌ بمعنى راجمٍ؛ لأنّه يرجم النّاس بالوساوسوالرّبائث والأوّل أشهر.
ومعنى أعوذ باللّه من الشّيطان الرّجيم، أي: أستجير بجناب اللّه من الشّيطان الرّجيم أن يضرّني في ديني أو دنياي، أو يصدّني عن فعل ماأمرت به، أو يحثّني على فعل ما نهيت عنه؛ فإنّ الشّيطان لا يكفّه عن الإنسان إلّااللّه.
تم بفضل الله وعونه
والله تعالى أعلم وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه والحمدلله رب العالمين.
[1]- رواه أحمد، وقدرواه أهل السّنن الأربعة وقال التّرمذيّ: هو أشهر حديثٍ في هذا الباب. وقد فسر الهمز بالموتة وهيالخنق، والنّفخ بالكبر، والنّفث بالشّعر.
[2]- رواه أبو داود وابن ماجه.
[3]- رواه النّسائيّ في اليوم واللّيلة.
[4]- رواه البخاريّ.
[5]- ينظر المسألة الثانية: متى أمر بها؟
[6]-الأعراف: 199: 200 ،المؤمنون: 96 -98 ،فصّلت: 34 -36
[7]-رواه مسلم
[8]-رواه الطبري وقال ابن كثير:إسنادهصحيحٌ