بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله الذي ابتلى عباده المؤمنين بما أنزل عليهم ليكونوا من المتقين، والصلاة والسلام على إمام المتقين من الأولين والآخرين, نبينا محمد صلى الله عليه وسلم ، الذي أرسله ربه شاهدا ومبشرا ونذيرا، وداعيا إلى الله بإذنه وسراجا منيرا، أما بعد:
قال تعالى: {إِنَّ لِلْمُتَّقِينَ عِنْدَ رَبِّهِمْ جَنَّاتِ النَّعِيمِ }.
إن هذه الآية , تبعث في قلب المؤمن البشر والأمل , وتعزز حسن الظن بالله تعالى , وكيف أن الجزاء من جنس العمل , فلنتأمل هذه الآية وما تضمنته من لطائف وهدايات عظيمة , وعبر جليلة .
فإننا وفي هذه الحياة الدنيا , لنعلم علم اليقين أن هذه الدنيا دار تكليف وعمل , وليست دار قرار واستقرار , بل و إنما هي ممر , فالدنيا ستمضي , وكلنا راحلون ونحن لا نملك من حطام الدنيا شيئا , بينما الآخرة هي دار المقر, ودار التشريف
والجزاء, والعبرة أن يكون العبد في طاعة الله تعالى وحده , فالتعاهد التعاهد بتقوى الله سرا وعلانية, إن تقوى الله وصية ربانية.
* فماذا تعنى التقوى :
نقل ابن منظور في معجمه الكبير لسان العرب عن ابن الأعرابي أن :( التقاة، والتقية، والتقوى، والاتقاء بمعنى واحد، و أن معنى وقاه الله وقيا ووقاية: صانه، تقول: وقيت الشيء أقيه : إذا صنته وسترته من الأذى، وتوقّى، واتقى بمعنى. والوقاء , والوقاء والوقاية: كل ما وفيت به شيئاً، ووقاك الله شر فلان وقاية، أي: حفظك).
وقد قال الإمام ابن رجب الحنبلي - رحمه الله -: ( تقوى العبد لربه أن يجعل بينه وبين ما يخشاه من ربه مِن غضبه وسخطه وعقابه وقاية تقِيه من ذلك، وهو: فعل طاعته، واجتناب معاصيه).
* وأما حقيقة التقوى :
أن يعمل العبد مخلصا بطاعة الله على نور من الله يرجو ثوابه , وأن يترك معصية الله على نور من الله يخاف عقابه. فحقيقتها تكمن فبما يفعله العبد بينه وبين الله في حال الخلوات , فالتقوى هي الحصن الذي يحتمي فيه المؤمن .فكانت الركيزة المتينة لحقيقة التقوى , ألا وهي الخوف من الله تعالى في السر والعلانية.
فكان من منَّة الله تعالى على عباده أن أمرهم بالتقوى في حدود الاستطاعة والطاقة ولَم يكلفهم بما وراء ذلك .
لنتأمل في كتاب الله تعالى من آياته التي تأمرنا بتقوى الله تعالى في السر والعلانية :
قال الله تعالى: {وَلَقَدْ وَصَّيْنَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَإِيَّاكُمْ أَنِ اتَّقُوا اللَّهَ وَإِنْ تَكْفُرُوا فَإِنَّ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَكَانَ اللَّهُ غَنِيًّا حَمِيدًا } (النساء: 131).
وقال سبحانه: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ } (آل عمران: 102).
وقال جل شأنه: { وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى وَاتَّقُونِ يَا أُولِي الْأَلْبَابِ }(البقرة: 197).
وقال سبحانه:{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَلْتَنْظُرْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ لِغَدٍ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ }(لحشر: 18).
وقال تعالى: { وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَرَكَاتٍ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ وَلَكِنْ كَذَّبُوا فَأَخَذْنَاهُمْ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ } (الأعراف: 96).
وهكذا فإن نظائر هذه الآيات في كِتاب الله كثيرة, ومن أحق من الله بالتقوى والطاعة والاستقامة؛ سبحانه هو أهل التَقوى وأهل المغفرة !
ونسأل الله أن يجعلنا من المتقين المخلصين له تعالى , الذين وصفهم تعالى في محكم كتابه :
قال تعالى : { لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَالْمَلائِكَةِ وَالْكِتَابِ وَالنَّبِيِّينَ وَآتَى الْمَالَ عَلَى حُبِّهِ ذَوِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَالسَّائِلِينَ وَفِي الرِّقَابِ وَأَقَامَ الصَّلاةَ وَآتَى الزَّكَاةَ وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذَا عَاهَدُوا وَالصَّابِرِينَ فِي الْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ وَحِينَ الْبَأْسِ أُوْلَئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَأُوْلَئِكَ هُمْ الْمُتَّقُونَ} (البقرة : 177).
فصفاتهم الكريمة العظيمة :
= الإيمان الخالص بـ ( الله تعالى , اليوم الآخِر, الملائكة, الكتب التي أنزل الله , الأنبياء - عليهم الصلاة والسلام- )
= إعطاء المال بنية صادقة لوجه الله تعالى ( للأقرباء، واليتامى، والمساكين، والمسافرين، والسائلين، وإعتاق الرقاب ) . = إقام الصلاة.- إيتاء الزكاة.- الوفاء بالعهد , منقادين لأوامر الله تعالى .
= الصبر في ( الفقر، والمرض، ووقت قتال الأعداء) ابتغاء وجه الله تعالى.
= الصدق في ( الأقوال، والأفعال، والأحوال) ابتغاء مرضات الله تعالى.
*ومن أبرز صور تحقيق التقوى , والحفاظ عليها بعد الاستعانة بالله تعالى :
- محافظة المسلم على الفرائض التي افترضها الله تعالى عليه، من إقامة الصلوات الخمس، وإيتاء الزكاة، وصوم شهر رمضان، وحج بيت الله الحرام، وغيرها.
- اجتناب المحرمات .
- التمسك بهدي النبي صلى الله عليه وسلم ، والابتعاد عن البدع المحدثة في الدين.
- الإكثار من ذكر الله وتلاوة القرآن .
- مصاحبة أهل الخير الذين ينصحون ويذكرون ، ومجانبة أهل الشر والبدعة .
إن تقوى الله تعالى تستوجب عملا وجهدا، ونية صادقة، فليست التقوى بالتمني، وإنما هو ما يقر في القلب، يصدقه العمل. ومن عمل بهذه الصفات, وصدق في إيمانه ، وحقق التقوى في قلبه , كان على الهدى العظيم، وكان مِن المفلحين الفائزين في الدنيا والآخِرة.
* فجزاء المتقين في الدارين :
=في الدنيا:
- محبة الله للمتقين , {فَإِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ} ( آل عمران 76).
- زوال الخوف والحزن , {فَمَنِ اتَّقَىٰ وَأَصْلَحَ فَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ} ( الأعراف: 35).
- العلم والحلم والهدى, {وَاتَّقُوا اللَّـهَ وَيُعَلِّمُكُمُ اللَّـهُ}( البقرة : 282)
- العون والنصرة والتوفيق والسداد , { إن الله مع الذين اتقوا والذين هم محسنون } ( النحل : 128)
- نجاته من كل كرب في الدنيا والآخرة ,وتحصيل أبواب الرزق {وَمَن يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَل لَّهُ مَخْرَجًا وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُ } ( الطلاق : 2 , 3).
- اليسر والسهولة في الأمور كلها, { ومن يتق الله يجعل له من أمره يسرا} , ( الطلاق : 4).
= و في الآخرة فالفوز العظيم :
فقد أعد الله للمتقين مكانة عالية وبشارات كبيرة، فكم علق بها من خير، وكم وعد عليها من ثواب، وكم أضاف إليها من سعادة, إنها جنات ليس لهم فيها إلا النعيم الخالص , والسرور التام ,فهو الخير و الفضل الذي لا ينقطع ولا ينقضي , فنعيمها لا يشوبه نقمة ولا كدر ,بل هي لذة ما بعدها من لذة , تلك الجنة التي ما لاعين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر, محفوفة بالبساتين , مكللة بصحبة أكرم الأكرمين .
فليحرص العبد على تقوى لله تعالى دائما وأبدا , فالتقوى خير زاد للآخرة.
-------------------------------------------------------------------------------------------
* المصادر :
- جامع البيان لابن جرير الطبري (ت: 310هـ).
- المحرر الوجيز لابن عطية (ت:546هـ).
- لسان العرب لابن منظور( 711هـ ).
- تفسير القرآن العظيم لابن كثير (ت: 774 هـ).
- جامع العلوم والحكم لابن رجب الحنبلي (795 هـ).
ملاحظة : بعد الاطلاع على تصحيحكم لمجلس أسلوب التقرير العلمي , استفدت جدا من الملاحظات التي وضعتموها, وبفضل الله اتضح المطلوب أكثر وأكثر, وأدركت أن المطلوب في كتابة رسالة تفسيرية أن لا تكون على نمط التلخيص.
فلم أحسن في كتابة الرسالة ( الأسلوب الوعظي) لقصور فهمي , وأداءها على شكل تلخيص, لذلك عملت بعض التعديلات , وأرجو أن أكون قد وفقت للصواب, وليس المغزى ووليس الهدف من التعديل للحصول على الدرجة , إنما للتمرن والإجادة في كتابة الرسائل بأساليبها المختلفة, والتعلم من أخطائنا والاستفادة من ملاحظاتكم.
جزاكم الله خيرا وبارك بكم .