مراتب مصادر السير والتراجم
هذه مسألة مهمة ينبغي لطالب العلم أن يكون على معرفة بها ، وأن يتبين مراتب المصادر التي تذكر فيها السير والتراجم ، وهذه المصادر يمكن تقسيمها إلى سبعة مراتب :
المرتبة الأولى :
دواوين السنة من الصحاح والسنن والمسانيد وغيرها ، وهذه المرتبة العليا من المصادر فيما تضمنته من مرويات السير وخاصة سير الصحابة ومناقبهم ، وفي بعضها مرويات تتعلق بسير بعض التابعين وتابعي التابعين ، ولاسيما في بعض المصنفات والأجزاء الحديثية ، وفي صحيح البخاري كتاب في السير ، وكتاب في المغازي ، وكتاب آخر في المناقب ، وكتاب في فضائل الصحابة ، وهي من المراجع المهمة في السير والتراجم ، بل هي أعلى درجات المصادر .
وكذلك يقال في بقية دواوين السنة ، وما لم يرتب منها على الأبواب منها المسانيد والمعاجم فكثير منها صنف في كتب الزوائد كما في المطالب العالية وإتحاف الخيرة المهرة ومجمع الزوائد وغيرها ، وما في هذه الدواوين مما يتعلق بالسير والتراجم يمكن الوصول إليه بأسماء الأبواب أو مما صنف في كتب الزوائد .
ويلحق بهذه المرتبة ما كتبه الأئمة في كتب الزهد والرقائق المسندة ، ككتاب الزهد لابن المبارك ، وكتاب الزهيد لوكيع ، وكتب الزهد لأحمد وهناد بن السري وأبي داود وابن أبي عاصم ، وكذلك كتاب الزهد الكبير للبيهقي ، وله أيضا من شعب الإيمان وكذلك كتب ابن أبي الدنيا ، وأمثال هذه الكتب .
وهذه الكتب من المراجع المهمة في السير والتراجم ، بل بعض هذه الكتب مرتب على أسماء الرجال ، واعتني فيها بذكر أحوال الصالحين من الأئمة من الصحابة والتابعين وتابعي التابعين وغيرهم ، وقد يجد فيها الباحث ما لا يجده في كثير من كتب التاريخ والتراجم .
المرتبة الثانية :
كتب التاريخ والأخبار المسندة ، وهي التي يذكر أصحابها الأخبار بأسانيدها ، وهذه الكتب تعد من المراجع الأصلية في السير والتراجم والتاريخ ، ومن أمثلتها كتاب الطبقات لابن سعد ، والمعرفة والتاريخ لأبي يوسف الفسوي ، وتاريخ ابن أبي خيثمة ، وتاريخ أبي حفص الفلاس ، وكتب التاريخ للبخاري الكبير والأوسط والصغير ، وكتب أحمد بن يحيى البلاذري ، وأيضا تاريخ أبي زرعة الدمشقي ، وتاريخ بغداد للخطيب البغدادي ، وتاريخ دمشق لابن عساكر ، وكتب ابن حبان وكتب أبي نعيم الأصبهاني ، وابن منده ، وابن عبد البر وغيرهم ممن عني برواية الأخبار بأسانيدها وهذه الكتب أولى بالعناية والتقديم لأنها مصادر أصلية في الغالب .
المرتبة الثالثة :
الكتب البديلة ، وهي الكتب التي تنقل عن مصادر أصلية مفقودة ، فإن كانت تذكرها بالأسانيد فهي أعلى درجة ، وإن كانت تنقل ما فيها بدون إسناد مع النص عليها فهي أيضا تعد من الكتب البديلة ، وكل ما تحقق فيه هذا الوصف فهو مصدر بديل ، لذلك قد لا يحسن النص على بعض الكتب أنها مصادر بديلة ؛ لأن نفس المصدر قد يكون مصدرا أصليلا إذا روى الخبر بإسناده ، وقد يكون هو أيضا مصدرا بديلا إذا نقل عن غيره بالإسناد .
ومن مظان المصادر البديلة كتب شمس الدين الذهبي والحافظ ابن كثير وابن حجر وغيرهم .
المرتبة الرابعة :
كتب الثقات والمقبولين من الأخباريين ، وقد اشتهر جماعة من الأخباريين المتقدمين برواية الأخبار حتى كان يطلق على بعضهم أخباري نسبة إلى الأخبار ، والذين أثنى عليهم العلماء وهم في عداد المقبولين ، ومنهم من أثني عليه ثناء بليغا ويعد من الثقات والحفاظ ، وهؤلاء جماعة منهم :
موسى بن عقبة بن أبي عياش المدني المتوفى سنة 141هـ ، وهو مولى آل الزبير بن العوام ، وكان ثقة عالما بالسير والمغازي ، ويعتبر من طبقة صغار التابعين لأنه سمع من أم خالد بنت خالد بن سعيد بن العاص الأموية رضي الله عنها ، وهي صحابية ولدت بالحبشة مع أبيها رضي الله عنه لما هاجر إلى الحبشة ، وتزوجها الزبير بن العوام ومات عنها .
ولم يسمع موسى بن عقبة من غيرها من الصحابة ، وقال معين بن عيسى القزاز كان مالك إذا سئل عن المغازي قال : "عليكم بمغازي الرجل الصالح موسى" ، وكتابه في المغازي مفقود ، لكن منه نقول متداوله في التاريخ والسير ، وطبع كتاب المنتخب من مغازي موسى بن عقبة لابن قاضي شهبة المتوفى سنة 851هـ .
ومن الأخباريين محمد بن إسحاق بن يسار المتوفى سنة 151هـ ، وأبو الحسن على بن محمد بن المدائني المتوفى سنة 225هـ ، والزبير بن بكار الأسدي المتوفى 256هـ .
وخليفة بن خياط العصفري المتوفي 240 هـ ، الملقب بشباب ، وهو ثقة ، وله أخطاء تكلم بعضها فيه بسببها ، وقد أخرج له البخاري في صحيحه ، وضعفه علي بن المديني وأبو حاتم وأبو زرعة ، ووثقه ابن مهدي وذب عنه ، ووثقه ابن حبان وأثنى عليه ، وعلى كل حال فهو في عداد الثقات ما لم يأت في مروياته ما يستنكر.
ومن الأخباريين الثقات أبو جعفر محمد بن عبدالله بن سليمان الحضرمي الكوفي المعروف بمطين توفي سنة 297هـ ، وهو ثقة حافظ له كتب في التفسير والسنن والفقه مفقودة ، وله كتاب الأخبار والحكايات ، وهو ممن تنقل أقواله في كتب الوفيات والأعيان في كثير من كتب التاريخ والسير والتراجم ، قال جعفر بن محمد الخلدي : قلت لأبي جعفر محمد بن عبدالله : لما عرفت بمطين ؟ قال : كنت صبيا ألعب من الصبيان وكنت أطولهم فندخل في الماء فنخوض فيطينون ظهري ، فبصر بي يوما أبو نعيم – وهو أبو نعيم الحافظ الفضل بن دكين – فلما رأني قال : يا مطين لما لا تحضر مجلس العلم ، قال : فاشتهر ذلك اللقب ، فلما اشتغلت بالحديث مات أبو نعيم ففاتني الرواية عنه ، لكنني كتبت عن أكثر من خمسمائة شيخ .وهذا الخبر ذكره أبو الحجاج المزي في تهذيب الكمال .
فهذه من المصادر المهمة لكن كثيرا منها هؤلاء كتبهم مفقودة لكن يوصل إلى النقول عنها في كتب التاريخ الناقلة لها ، أي الكتب البديلة التي سبق البيان عنها .
المرتبة الخامسة :
كتب المؤرخين المحققين وهم الذين ينقلون ، وينقدون ، ويحررون ، ويصححون ، ويجمعون المرويات ، ويوازنون بينها ، ولهم خبرة بأحوال الرواة ومراتب الكتب ، فهؤلاء كتبهم من أنفع الكتب لما اشتملت عليه من حسن الجمع والتحرير ، ومن هؤلاء : أبو الحجاج المزي ، وشمس الدين الذهبي ، وابن كثير ، وابن حجر.
المرتبة السادسة :
كتب الأخبار من الضعفاء وهم وإن كانوا متقدمين ، إلا أني أخرتهم لهذه المرتبة لحالها .
فقد اشتهر برواية الأخبار جماعة من الضعفاء المتقدمين ، ومنهم من كتب الكتب في التاريخ أو السير والتراجم ، ومن هؤلاء : محمد بن السائب الكلبي (ت : 146هـ) ، وأبي مخلف لوط بن يحيى الكوفي الرافضي (ت: 157هـ) ، وسيف بن عمر التميمي (ت: 180هـ تقريبا ) ، ومحمد بن الحسن بن زبالة المخزومي المتوفي بعد المئتين ، وهشام بن محمد بن السائب الكلبي (ت: 204هـ) ، والهيثم بن عدي بن الطائي (ت: 207هـ) ، ومحمد بن عمر الواقدي (ت: 207هـ) ، وعبد المنعم بن إدريس اليماني (ت: 228هـ) وهو ابن بنت وهب بن منبه .
وهؤلاء كلهم متروكوا الحديث ، شديدوا الضعف ، عامتهم متهم بالكذب ، وأخفهم حالا الواقدي ، وقد كان العلماء يتساهلون في حاله حتى ظهرت نكارة شديدة في مروياته ، وكان قاضي الجانب الشرقي في بغداد زمن المأمون ، وله كتب كثيرة لكنه متروك الحديث ، وهو وإن كان ليس من طبقات هؤلاء الكذابين وأخف حالا منهم لكنه أيضا متروك الحديث .
فهؤلاء في باب مرويات الأحكام لا يلتفت إليهم ، وفي باب السير والتراجم فمن أهل العلم من تساهل في إيراد أخبارهم وانتقى منها ، وإن كان لا يحتج بها.
المرتبة السابعة :
كتب المتأخرين التي تذكر فيها الأخبار ملخصة مجردة عن الأسانيد ، وهذه الكتب هي ملخص من كتب سابقة ، فينظر فيها من جهة موارد أصحابها ، ومقدار معرفتهم بأحوال المرويات وأحكامها ، واختصاصهم بعلم التاريخ والسير والتراجم .
وكتب هؤلاء قد تكون صالحة للعامة وللمبتدئين من طلاب العلم ؛ لأنها موضوعة لتحصيل المعرفة الموجزة بالأحداث والأخبار المهمة ، ولذلك وضع جماعة من العلماء كتب مختصرة في التاريخ والسير ، ونظمت بعض المنظومات لتيسير حفظ الحوادث والأخبار وبعض التراجم .
فهذه مراتب مصادر السير والتراجم على سبيل الإيجاز ، وفي كل مرتبة تفاصيل لكن لعل هذا القدر كاف في هذه المرحلة .
والله المستعان .