السلام عليكم ورحمة الله.
ا
لمجموعة الثانية:
(1) قول مجاهد: {وأيّدناه بروح القدس}: القدس هو الله).
أخرجه عبد الله بن وهب المصري من طريق غالب بن عبيد الله، وابن أبي حاتم من طريق ابن أبي نجيح، كلاهما عن مجاهد به.
ومعنى القدس لغة: الطهر.
قال الخليل بن أحمد في العين: (القُدسُ: تنزيه الله، وهو القُدّوس والمقدَّس).
وقال الزجاج: (والقدس الطهارة).
قال إسماعيل بن حماد الجوهري في الصحاح تاج اللغة وصحاح العربية: (القُدْسُ والقُدُسُ: الطُهْرُ، اسمٌ ومصدرٌ).
وقال ابن فارس في مقاييس اللغة: ((قدس) القاف والدال والسين أصل صحيح، وأظنه من الكلام الشرعي الإسلامي، وهو يدل على الطهر.
ومن ذلك الأرض المقدسة هي المطهرة. وتسمى الجنة حظيرة القدس، أي الطهر. وجبرئيل عليه السلام روح القدس. وكل ذلك معناه واحد. وفي صفة الله تعالى: القدوس، وهو ذلك المعنى؛ لأنه منزه عن الأضداد والأنداد، والصاحبة والولد، تعالى الله عما يقول الظالمون علوا كبيرا...)
أما معنى اسم الله القدوس فقد قال ابن أبي زمنين: {القدوس} يعني: الطاهر.
وقال البغوي: {القدوس} الطاهر من كل عيب المنزه عما لا يليق به.
قال ابن كثير: {القدوس} أي: المنزه عن النقائص، الموصوف بصفات الكمال.
قال الطاهر بن العاشور: (والقدوس بضم القاف في الأفصح...)
وقول مجاهد مبناه على شيئين:
الأول: أن القدوس من أسماء الله الحسنى، وقد قال تعالى:
{هو الله الذي لا إله إلا هو الملك القدوس} [الحشر: 23].
روى الطبري عن ابن زيد أنه قال: (
{وأيدناه بروح القدس}، قال: الله، القدس...قال: نعت الله، القدس. وقرأ قول الله جل ثناؤه:
{هو الله الذي لا إله إلا هو الملك القدوس}، قال: القدس والقدوس، واحد).
الثاني: قراءة أبي حيوة بذلك. قال ابن عطية: (وقرأ أبو حيوة "بروح القدس" بواو)، وذكرها أيضا أبو حيان، قال: (وقرأ أبو حيوة: القدوس، بواو).
وعلى هذا فالروح فيه قولان:
الأول: أنه جبريل عليه السلام.
قال الشوكاني: (وقيل: القدس هو الله عز وجل، وروحه جبريل).
ودليله قوله تعالى:
{قل نزله روح القدس من ربك بالحق}.
قال البغوي: (سمي جبريل عليه السلام روحا للطافته ولمكانته من الوحي الذي هو سبب حياة القلوب).
الثاني: أنه الروح الذي نفخ في عيسى عليه السلام.
قال ابن زيد: (الله، القدس، وأيد عيسى بروحه)، رواه الطبري.
وتترتب على هذا مسألتان:
الأولى: معنى الإضافة.
فالإضافة هنا على معنى اللام، فتكون من باب إضافة المملوك إلى مالكه.
قال ابن عطية: (وقال الربيع ومجاهد: الْقُدُسِ اسم من أسماء الله تعالى كالقدوس، والإضافة على هذا إضافة الملك إلى المالك، وتوجهت لما كان جبريل عليه السلام من عباد الله تعالى).
الثانية: نوع الإضافة.
وعلى كلا القولين المذكورين في المراد بالروح تكون الإضافة إضافة تشريف وتكريم، قال البغوي: (أضافه إلى نفسه تكريما وتخصيصا، نحو: بيت الله، وناقة الله، كما قال:
{فنفخنا فيه من روحنا} [12-التحريم]).
والقول الآخر أن القدس صفة للروح، يعني: الروح الطاهرة، فتكون من إضافة الموصوف إلى صفته.
[وهو الراجح؛ لأن أسماء الله عز وجل توقيفية ولم يرد دليل على هذا الاسم من الكتاب والسنة، وغالب من طبقة الرواة الضعفاء عن مجاهد، وعلى فرض صحة الأثر إلى مجاهد فلا يصح القول بأن القدس من أسماء الله عز وجل لما سبق بيانه]
وقد ورد في المراد فيه أقوال:
الأول: هو جبريل عليه السلام. وهو قول قتادة، والسدي، والضحاك، والربيع، وشهر بن حوشب.
وهو اختيار ابن قتيبة في تأويل مشكل القرآن، والطبري، والزجاج، ومكي، وابن عطية، وابن كثير.
قال الطبري: (وإنما سمى الله تعالى جبريل"روحا" وأضافه إلى"القدس"، لأنه كان بتكوين الله له روحا من عنده، من غير ولادة والد ولده، فسماه بذلك"روحا"، وأضافه إلى"القدس" - و"القدس"، هو الطهر - كما سمي عيسى ابن مريم "روحا" لله من أجل تكوينه له روحا من عنده من غير ولادة والد ولده).
قال البغوي: (وصف جبريل بالقدس أي بالطهارة لأنه لم يقترف ذنبا).
الثاني: هو الإنجيل، وهو قول ابن زيد.
الثالث: هو الاسم الذي كان عيسى يحيي به الموتى. وهو قول ابن عباس.
وهذا قريب من قول مجاهد؛ إذ يرجع القولان إلى ذات واحد، وهو الله تعالى.
وبين الطبري سبب اختياره، وأنه ضعف القول الثاني؛ لأنه إذا كان الإنجيل لكان قوله تعالى: {إذ أيدتك بروح القدس}، و{إذ علمتك الكتاب والحكمة والتوراة والإنجيل}، تكريرا لا معنى له. وعنى به قوله تعالى في سورة المائدة: {إذ قال الله ياعيسى ابن مريم اذكر نعمتي عليك وعلى والدتك إذ أيدتك بروح القدس تكلم الناس في المهد وكهلا وإذ علمتك الكتاب والحكمة والتوراة والإنجيل} الآية.
وقال مكي في ذلك: ((فإن حُمل على أنه أعيد للتأكيد كما قال: {فِيهِمَا فَاكِهَةٌ وَنَخْلٌ وَرُمَّانٌ} [الرحمن: 68]، وقال: {مَن كَانَ عَدُوّاً للَّهِ وملائكته وَرُسُلِهِ وَجِبْرِيلَ وميكال} [البقرة: 98]، فهو وجه)).
(2) قول الحسن البصري: {أكالون للسحت}: أكالون للرشى).
أخرجه عبد الله بن وهب المصري من طريق قرة بن خالد، والطبري من طريق أبي عقيل، كلاهما عن الحسن البصري، وهذا اللفظ لعبد الله بن وهب المصري.
قال الواحدي في البسيط: (وأجمعوا على أن المراد بالسحت ههنا: الرشوة في الحكم).
والسحت في اللغة اسم لكل حرام.
قال الخليل بن أحمد: (السُّحْتُ: كل حرام قبيح الذكر يلزم منه العار- نحو ثمن الكلب والخمرِ والخنزيرِ. وأَسْحَتَ الرّجلُ: وقع فيه. والسُّحْتُ: جَهْدُ العذاب).
قال أبو عبيدة في مجاز القرآن: (السحت: كسب ما لا يحلّ).
قال غلام ثعلب في ياقوتة الصراط في تفسير غريب القرآن: (و{للسحت}: الحرام).
قال ابن فارس في مقاييس اللغة: ((سحت) السين والحاء والتاء أصل صحيح منقاس. يقال سحت الشيء، إذا استؤصل، وأسحت. يقال سحت الله الكافر بعذاب، إذا استأصله. ومال مسحوت ومسحت في قول الفرزدق:
وعض زمان يا بن مروان لم يدع ... من المال إلا مسحتا أو مجلف
ومن الباب: رجل مسحوت الجوف، إذا كان لا يشبع، كأن الذي يبلعه يستأصل من جوفه، فلا يبقى. المال السحت: كل حرام يلزم آكله العار؛ وسمي سحتا لأنه لا بقاء له. ويقال أسحت في تجارته، إذا كسب السحت. وأسحت ماله: أفسده).
قال الراغب الأصفهانى: (السُّحْتُ: القشر الذي يستأصل، قال تعالى: {فَيُسْحِتَكُمْ بِعَذابٍ} [طه/ 61]، وقرئ: فَيَسْحِتَكُمْ يقال: سَحَتَهُ وأَسْحَتَهُ، ومنه: السَّحْتُ والسُّحْتُ للمحظور الذي يلزم صاحبه العار، كأنه يسحت دينه ومروءته، قال تعالى: {أَكَّالُونَ لِلسُّحْتِ} [المائدة/ 42]، أي: لما يسحت دينهم. وقال عليه السلام: «كلّ لحم نبت من سحت فالنّار أولى به»، وسمّي الرّشوة سحتا لذلك، وروي «كسب الحجّام سحت» فهذا لكونه سَاحِتاً للمروءة لا للدّين، ألا ترى أنه أذن عليه السلام في إعلافه الناضح وإطعامه المماليك).
والسحت هنا بمعنى اسم المفعول.
قال أبو علي الفارسي في الحجة للقراء السبعة: (والسّحْت والسّحُت لغتان، ويستمر التخفيف والتثقيل في هذا النحو، وهما اسم الشيء المسحوت، وليسا بالمصدر)
قال ابن عطية: والسّحت والسّحت بضم السين وتخفيف الحاء وتثقيلها لغتان في اسم الشيء المسحوت...
قال الطاهر بن العاشور: (والسحت- بضم السين وسكون الحاء- الشيء المسحوت، أي المستأصل...)
ويكمن أن يكون بمعنى اسم الفاعل، قال الراغب الأصفهانى: (والسُّحْتُ للمحظور الذي يلزم صاحبه العار، كأنه يسحت دينه ومروءته...وروي «كسب الحجّام سحت» فهذا لكونه سَاحِتاً للمروءة).
وفي سبب تسمية الحرام بالسحت أقوال:
الأول: لأنه يسحت- أي: يذهب ويمحق- دين الانسان وطاعاته.
قال النحاس في معاني القرآن: (والسحت في كلام العرب على ضروب، يجمعها أنه ما يسحت دين الانسان، يقال: سحته وأسحته، إذا استأصله).
قال مكي: (والسحت - في اللغة -: كل حرام يسحت الطاعات أي: يذهبها)
وضعفه الراغب الأصفهانى، قال: (وروي «كسب الحجّام سحت» فهذا لكونه سَاحِتاً للمروءة لا للدّين...)
وضعفه أيضا ابن عطية فقال: (وهذا مردود؛ لأن السيئات لا تحبط الحسنات)، ثم وجحه فقال: (...اللهم إلا أن يقدر أنه يشغل عن الطاعات فهو سحتها من حيث لا تعمل، وأما طاعة حاصلة فلا يقال هذا فيها).
ولعله يمكن حمل قول النحاس ومكي على الذي يصل إلى درجة الكفر؛ لأن الآية نزلت في اليهود.
قال الكيا الهراسي: (والرشوة هي التي دعت اليهود إلى كتمان ما أنزل الله تعالى من نعوت نبينا على الأنبياء المرسلين، فإنهم آثروا حظهم من الدنيا على اتباعه، فكتموا ما أنزل الله تعالى من نعوته، بعد أن كانوا أغروا به من آبائهم وأبنائهم، وجحدوا بألسنتهم ما استيقنته أنفسهم ظلما وعتوا، فأدّاهم شؤم الارتشاء إلى الكفر بما أنزل الله تعالى، فصاروا إلى محاربة الله ورسوله وعذاب الأبد).
الثاني: لأنه يذهب المروءة.
قال الراغب الأصفهانى: (وروي «كسب الحجّام سحت» فهذا لكونه سَاحِتاً للمروءة...).
ونقله ابن عطية عن المهدوي، وحسنه قال: (وهذا أشبه).
واختار القرطبي القول الأول فقال: (والقول الأول أولى، لأن بذهاب الدين تذهب المروءة، ولا مروءة لمن لا دين له).
الثالث: لأنه لا بركة فيه لأهله، فكأنه يذهب البركة.
قال الجصاص في أحكام القرآن: (فسمي الحرام سحتا؛ لأنه لا بركة فيه لأهله ويهلك به صاحبه هلاك الاستئصال).
قال الطاهر بن العاشور: (سمي به الحرام؛ لأنه لا يبارك فيه لصاحبه، فهو مسحوت وممحوق، أي مقدر له ذلك، كقوله: {يمحق الله الربا}، [البقرة: 276])
فالاقوال متلازمة.
وقول الحسن يحمل على إرادة التمثيل، لا التخصيص. وإنما مثل بالرشوة لعظمها.
وهذا يفهم من قول الجصاص: (...واتفقوا على أنه، أي: الرشا، من السحت الذي حرمه الله تعالى).
قال الكيا الهراسي الشافعي: (فأخذ الرشوة على الحكم غاية المحظور من الرشوة).
ونص على ذلك ابن عطية قال: (وكل ما ذكر في معنى السحت فهو أمثلة، ومن أعظمها الرشوة في الحكم والأجرة على قتل النفس، وهو لفظ يعم كل كسب لا يحل).
وقال نحوه الطاهر بن العاشور: (والسحت يشمل جميع المال الحرام، كالربا والرشوة وأكل مال اليتيم والمغصوب).
وأما الأقوال الأخر في السحت فقد قال الماوردي: (فيه أربعة تأويلات.
أحدهما: أن السحت الرشوة، وهو مروي عن النبي صلى الله عليه وسلم.
والثاني: أنه الرشوة فى الحكم، وهو قول علي.
والثالث: هو الاستعجال فى القضية، وهو قول أبي هريرة.
والرابع: ما فيه الغار من الأثمان المحرمة: كثمن الكلب، والخنزير، والخمر، وعسب افحل، وحلوان الكاهن).
ويستدل بهذه الأقوال الواردة في المراد بالسحت على حكم الرشوة.
قال الجصاص: (اتفق جميع المتأولين لهذه الآية على أن قبول الرشا محرم، واتفقوا على أنه من السحت الذي حرمه الله تعالى).
الرشوة لها أنواع:
الأول: الرشوة في الحكم.
فهي محرمة على الراشي والمرتشي جميعا.
ودليل ذلك قوله صلى الله عليه وسلم: (لعن الله الراشي والمرتشي).
أخرجه أحمد، والترمذي، والبزار في "مسنده"، وابن الجارود في "المنتقى"، والطحاوي في "شرح مشكل الآثار"، وابن حبان في "صحيحه"، والحاكم في "مستدركه".
قال ابن قدامة في المغني: (وروى عبد الله بن عمرو قال: «لعن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الراشي والمرتشي.» قال الترمذي: (هذا حديث حسن صحيح). ورواه أبو هريرة، وزاد: "في الحكم". ورواه أبو بكر، في "زاد المسافر"، وزاد: "والرائش" وهو السفير بينهما).
ولها حالتان:
الأولى: أن يرشوه ليقضي له بحقه.
قال الجصاص فيه: (فقد فسق الحاكم بقبول الرشوة على أن يقضي له بما هو فرض عليه، واستحق الراشي الذم حين حاكم إليه وليس بحاكم، ولا ينفذ حكمه، لأنه قد انعزل عن الحكم بأخذه الرشوة، كمن أخذ الأجرة على أداء الفروض من الصلاة والزكاة والصوم...)
قال القرطبي: (وهذا لا يجوز أن يختلف فيه إن شاء الله، لأن أخذ الرشوة منه فسق، والفاسق لا يجوز حكمه. والله أعلم).
قال الجصاص: (وفي هذا دليل على أن كل ما كان مفعولا على وجه الفرض والقربة إلى الله تعالى أنه لا يجوز أخذ الأجرة عليه، كالحج وتعليم القرآن والإسلام؛ ولو كان أخذ الأبدال على هذه الأمور جائزا لجاز أخذ الرشا على إمضاء الأحكام، فلما حرم الله أخذ الرشا على الأحكام واتفقت الأمة عليه دل ذلك على فساد قول القائلين: (بجواز أخذ الأبدال على الفروض والقرب)).
الثانية: أن يرشوه ليقضي بما ليس بحق له.
فهذا قد فسق الحاكم من وجهين:
أحدهما: أخذ الرشوة.
والثاني: الحكم بغير حق، ويشاركه في ذلك الراشي.
ذكرهما الجصاص في الأحكام.
النوع الثاني من أنواع الرشوة: أن يرشو السلطان لدفع ظلمه عنه.
فهي محرمة على آخذها، غير محظورة على معطيها.
وروى عبد الرزاق في مصنفه عن جابر بن زيد أبي الشعثاء قال: سمعته يقول: (ما كان شيء أنفع للناس من الرشوة في زمان زياد، أو قال: ابن زياد).
وقد روى الجهضمي عن الحسن أنه قال: (لعن رسول الله صلي الله عليه وسلم الراشي والمرتشي)، قال الجهضمي: (قال الحسن: (ليحق باطلا او يبطل حقا فاما ان تدفع عن مالك فلا باس)).
النوع الثالث: الرشوة في غير الحكم.
وذلك منهي عنه أيضا لأن عليه معونته في دفع الظلم عنه.
ومنه الهدية إلى الرجل ليعينه بجاهه عند السلطان.
ومنه هدية القاضي. قال ابن قدامة في المغني: ((ولا يقبل هدية من لم يكن يهدي إليه قبل ولايته): وذلك لأن الهدية يقصد بها في الغالب استمالة قلبه، ليعتني به في الحكم، فتشبه الرشوة).
ما اختلف في كونه من السحت:
- كسب الحجام.
اختلف أهل العلم في كسب الحجام.
القول الأول: أنه حرام.
ويستدل لهذا بما أخرجه البخاري عن أبي جحيفة أيضا أن رسول الله صلّى الله عليه وسلم: (نهى عن ثمن الكلب، وعن ثمن الدم، وكسب البغي).
قال ابن عبد البر في التمهيد: (...نهيه صلى الله عليه وسلم عن ثمن الدم ليس من أجرة الحجام في شيء، وإنما هو كنهيه عن ثمن الكلب وثمن الخمر والخنزير وثمن الميتة ونحو ذلك، ولما لم يكن نهيه عن ثمن الكلب تحريما لصيده كذلك ليس تحريم ثمن الدم تحريما لأجرة الحجام لأنه إنما أخذ أجرة تعبه وعمله وكل ما ينتفع به
فجائر بيعه والإجارة عليه).
وبما رواه مسلم عن رافع بن خديج، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (ثمن الكلب خبيث، ومهر البغي خبيث، وكسب الحجام خبيث)
قال ابن عبد البر في التمهيد بعدما ذكر هذا الحديث: (وهذا الحديث لا يخلو أن يكون منسوخا منه كسب الحجام بحديث أنس وابن عباس، والإجماع على ذلك، أو يكون على جهة التنزه...وليس في عطف ثمن الكلب ومهر البغي عليه ما يتعلق به في تحريم كسب الحجام؛ لأنه قد يعطف الشيء على الشيء وحكمه مختلف...)
قال ابن قدامة: (وتسميته كسبا خبيثا لا يلزم منه التحريم، فقد سمى النبي - صلى الله عليه وسلم - الثوم والبصل خبيثين، مع إباحتهما، وإنما كره النبي - صلى الله عليه وسلم - ذلك للحر تنزيها له؛ لدناءة هذه الصناعة).
قال النووي عند شرح هذا الحديث: (فقال الأكثرون من السلف والخلف: (لا يحرم كسب الحجام ولا يحرم أكله لا على الحر ولا على العبد)...وحملوا هذه الأحاديث التي في النهى على التنزيه والارتفاع عن دنئ الأكساب والحث على مكارم الأخلاق ومعالي الأمور...).
الثاني: أنه مباح.
ويستدل لهذا بما روى البخاري ومسلم عن أبي العالية أن ابن عباس رضى الله عنهما سئل عن كسب الحجام فقال: (احتجم رسول الله صلى الله عليه وسلم
واعطاه أجره، ولو كان حراما ما أعطاه).
وروى الإمام مالك في الموطأ عن حميد الطويل، عن أنس بن مالك، أنه قال: (احتجم رسول الله صلى الله عليه وسلم - حجمه أبو طيبة - فأمر له رسول الله صلى الله عليه وسلم بصاع من تمر، وأمر أهله أن يخففوا عنه من خراجه). قال ابن عبد البر في التمهيد: (هذا يدل على أن كسب الحجام طيب؛ لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يوكل إلا ما يحل أكله، ولا يجعل ثمنا ولا عوضا ولا جعلا بشيء من الباطل).
قال النووي في المجموع: (واحتج الجمهور بحديث ابن عباس وحملوا الأحاديث الباقية على التنزيه والارتفاع عن دنئ الاكتساب والحث على مكارم الأخلاق).
قال القرطبي: (الصحيح في كسب الحجام أنه طيب، ومن أخذ طيبا لا تسقط مروءته ولا تنحط مرتبته...وحديث أنس هذا ناسخ لما حرمه النبي صلى الله عليه وسلم من ثمن الدم، وناسخ لما كرهه من إجارة الحجام).
وقال ابن حزم في المحلى: (ولا تجوز الإجارة على الحجامة، ولكن يعطى على سبيل طيب النفس وله طلب ذلك، فإن رضي وإلا قدر عمله بعد تمامه لا قبل ذلك وأعطي ما يساوي).
وقوله هذا مبني على وجوب استعمال الحديثين، قال: (فاستعمال الخبرين واجب فوجدنا النبي - صلى الله عليه وسلم - أعطاه عن غير مشارطة فكانت مشارطته لا تجوز، ولأنه أيضا عمل مجهول، ولا خلاف في أن ذلك الحديث ليس على ظاهره؛ لأن فيه النهي عن كسب الحجام جملة وقد يكسب من ميراث، أو من سهم من المغنم، ومن ضيعة، ومن تجارة، وكل ذلك مباح له بلا شك...فصح أن كسبه بالحجامة خاصة هو المنهي عنه فوجب أن يستثنى من ذلك فعل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فيكون حلالا حسنا ويكون ما عداه حراما).
(3) قول عكرمة في تفسير قول الله تعالى: {واتقوا الله الذي تساءلون به والأرحام} قال: اتقوا الأرحام أن تقطعوها).
التخريج: أخرجه المروزي في البر والصلة، والطبري، وابن المنذر عن سفيان، عن خصيف، عن عكرمة به.
قال الواحدي في البسيط: وقال أكثر المفسرين: معنى {وَالْأَرْحَامَ} أي: واتقوا الأرحام أن تقطعوها.
وقد يراد باللفظ الواحد المعاني المختلفة، فالتقوى هو القدر المشترك الجامع بين تقوى الله وتقوى الأرحام، وإن اختلف معناهما، كما قاله أبو حيان.
قال الأخفش: (قال الله تعالى {وَالأَرْحَامَ} منصوبة أي: اتقوا الأَرْحام. وقال بعضهم {والأَرْحامِ} جرّ. والأوَّلُ أحسن لأنك لا تجري الظاهر المجرور على المضمر المجرور).
وحسن الزجاج القراءة بالنصب، واختارها أيضا الأزهري في معاني القراءات، ومكي في الكشف.
وهذه القراءة أيدها ما قال النبي صلى الله عليه وسلم: "الرحم شجنة، فمن وصلها وصلته، ومن قطعها قطعته".
أخرجه ابن أبي شيبة في "مصنفه"، وأحمد، والبخاري، ومسلم، وأبو يعلى في "مسنده"، والطبراني في "الأوسط"، والحاكم في "مستدركه"، والبيهقي في "سننه الكبير" عن مُعَاوِيَة بن أبِي مُزَرِّدٍ، عن يَزِيدَ بن رُومَانَ، عن عُرْوَة، عن عَائِشَة، واللفظ للبخاري.
وقطع صلة الرحم من صفات الكافرين، كما بينه تعالى بقوله: {الذين ينقضون عهد الله من بعد ميثاقه ويقطعون ما أمر الله به أن يوصل} الآية.
وهذه القراءة تحتمل وجهين:
الأول: أن يكون "الأرحام" عطفًا على اسم الله تعالى، أي: واتقوا اللَّهَ والأرحامَ. ورجحه الشوكاني في تفسيره.
قال أبو حيان: (وفي عطف الأرحام على اسم الله دلالة على عظم ذنب قطع الرحم)، وقدر حذف المضاف، على التقدير: واتقوا الله، وقطع الأرحام، وهذا عنده أيضا من باب عطف الخاص على العام.
الثاني: أن يكون عطفًا على محل الجار والمجرور، وتعضده قراءة ابن مسعود - رضي الله عنه، كما ذكره الزمخشري: (تَسْأَلون بِهِ وبالأرحامِ) بإعادة الجار.
معنى القراءة بالجر: وهي قراءة حمزة وحده.
روى الطبري عن إبراهيم النخعي أن معناها: أن الرجل يسأل بالله وبالرحم، وفي لفظ: (هو كقول الرجل: أسألك بالله، أسألك بالرحم)، وفي لفظ: (هو قول الرجل: أسألك بالله والرحم) بدون الباء.
وفيه قولان:
الأول: أنه عطفٌ على الضمير المجرور في "به".
وهذه القراءة ضعفها البصريون وعدوها من اللحن، وإنما جوزوا مثلها في الشعر، واستقبحها أيضا بعض
الكفيين، قال الفراء: (وفيه قبح؛ لأن العرب لا ترد مخفوضا على مخفوض وقد كنى عنه).
وبين الزمخشري وجه ضعف هذه القراءة فقال: (لأن الضمير المتصل متصل كاسمه، والجار والمجرور كشيء واحد، فكانا في قولك «مررت به وزيد» و«هذا غلامه وزيد» شديدي الاتصال، فلما اشتد الاتصال لتكرره أشبه العطف على بعض الكلمة، فلم يجز ووجب تكرير العامل، كقولك: «مررت به وبزيد» و «هذا غلامه وغلام زيد» ألا ترى إلى صحة قولك «رأيتك وزيدا» و «مررت بزيد وعمرو» لما لم يقو الاتصال، لأنه لم يتكرر).
وضعفها أيضا الطبري، والزجاج ونقل قول المازني: (الثاني في العطف شريك للأول، فإِن كان الأول يصلح شريكاً للثاني وإلا لم يصلح أن يكون الثاني شريكاً له. قال: فكما لا تقول مررت بزيد و"ك" فكذلك لا يجوز مررت بك وزيدٍ).
وضعفها أيضا الأزهري في معاني القراءات، ومكي، وابن عطية وبين هذا فقال: (ذكر الأرحام فيما يتساءل به لا معنى له في الحض على تقوى الله، ولا فائدة فيه أكثر من الإخبار بأن الأرحام يتساءل بها، وهذا تفرق في معنى الكلام وغض من فصاحته، وإنما الفصاحة في أن يكون لذكر الأرحام فائدة مستقلة)
قال ابن خالويه: (وليس لحنًا عندي؛ لأن ابن مجاهد حدثنا بإسناد يعزيه إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قرأ: {والأرحامِ}، ومع ذلك فإن حمزة كان لا يقرأ حرفًا إلا بأثر. غير أن من أجاز الخفض في {الأرحام} أجمع مع من لم يجز أن النصب هو الاختيار.
ونقل أبو شامة في "إبراز المعاني من حرز الأماني" كلام أبي نصر بن القشيري فيه رد على من أنكر هذه القراءة: (ومثل هذا الكلام مردود عند أئمة الدين؛ لأن القراءات التي قرأ بها أئمة القراء ثبتت عن النبي -صلى الله عليه وسلم- تواترًا يعرفه أهل الصنعة، وإذا ثبت شيء عن النبي -صلى الله عليه وسلم- فمن رد ذلك فقد رد على النبي -صلى الله عليه وسلم- واستقبح ما قرأ به، وهذا مقام محذور لا تقلد فيه أئمة اللغة والنحو، ولعلهم أرادوا أنه صحيح فصيح وإن كان غيره أفصح منه؛ فإنا لا ندعي أن كل القراءات على أرفع الدرجات في الفصاحة).
وقد فصل السمين الحلبي هذه المسألة فقال: (اختلف النحاة في العطفِ على الضمير المجرور على ثلاثة مذاهب:
أحدُها - وهو مذهبُ الجمهور من البصريين -: وجوبُ إعادةِ الجار إلا في ضرورة.
الثاني: أنه يجوزُ ذلك في السَّعَةِ مطلقاً، وهو مذهبُ الكوفيين، وتَبِعهم أبو الحسن ويونس والشلوبيين.
والثالث: التفصيلُ، وهو إنْ أُكِّد الضميرُ جاز العطفُ من غيرِ إعادةِ الخافِض نحو: «مررت بك نفسِك وزيدٍ» ، وإلا فلا يجوزُ إلا ضرورةً، وهو قولُ الجَرْمي).
ورجح بعد ذلك قول الكوفيين مستدلا بثلاثة أوجه:
الأول: كثرة السماعِ الوارد به، وأورد قوله تعالى: {وجعلنا لكم فيها معايش ومن لستم له برازقين}، قال: فـ «من» عطف على «لكم». وقوله تعالى: {ويستفتونك في النساء قل الله يفتيكم فيهن وما يتلى عليكم...} الآية. قال: (وقوله: {ما يتلى عليكم} عطف على «فيهن»)
واستشهد أيضا بقول العباس بن مرداس:
أَكُرُّ على الكتيبةِ لا أُبالي ... أفيها كان حَتْفي أم سواها
قال: (فـ "سواها" عطفٌ على "فيها"). وغيرها من الأبيات.
الثاني: ضَعْفِ دليل المانعين.
وبين وجه ضعفه "أنه كان بمقتضى هذه العلةِ ألاَّ يُعْطَفَ على الضمير مطلقاً، أعنى سواءً كان مرفوعَ الموضعِ أو منصوبَه أو مجرورَه، وسواءً أُعيد معه الخافِضُ أم لا كالتنوين".
الثالث: اعتضاده بالقياس. قال: (وأما القياس فلأنه تابع من التوابع الخمسة فكما يؤكد الضمير المجرور ويبدل منه فكذلك يعطف عليه).
القول الثاني: أنه مُقْسَم به، والواو للقسم. وجوابُ القسم: قوله تعالى: {إنَّ الله كان عليكم رقيبا}.
وهذا مردود؛ لأن الحلف بغير الله منهي عنه. فقد روى البخاري أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (من كان حالفا، فليحلف بالله أو ليصمت).
وضعف هذا أيضا النحاس في إعراب القرآن قال: (فلو كان قسما كان قد حذف منه لأن المعنى: ويقولون بالأرحام أي: وربّ الأرحام، ولا يجوز الحذف إلّا أن لا يصحّ الكلام إلّا عليه).
وذكر ابن عطية أن بعضهم حمله على جهة القسم من الله على ما اختص به من القسم بمخلوقاته، ورده قائلا: (وهذا كلام يأباه نظم الكلام وسرده).
وقال العكبري في التبيان: (التقدير في القسم: وبرب الأرحام)، وبين وجه ضعفه فقال: (هذا قد أغنى عنه ما قبله).
وحمله بعضهم على أنه كان قبل النهي كما قال المنتجب الهمذاني في "الكتاب الفريد في إعراب القرآن المجيد": (...لأنّ القوم كانوا يقسمون كثيرًا بالأرحام، فخوطبوا على ما ألفوا من تعظيمها، ثم وردت الأخبار بالنهي عن الحَلِفِ إلَّا بالله تعالى، وهذا الوجه أمتن؛ لأنَّ عطف الظاهر على المضمر المجرور أباه صاحب الكتاب رحمه الله وموافقوه إلّا بإعادة الجار).
وقد روى البخاري ومسلم أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (ألا إن الله ينهاكم أن تحلفوا بآبائكم، من كان حالفا فليحلف بالله أو ليصمت).
وهنا قراءة ثالثة: بالرفع. وهي قراءة عبد الله بن يزيد، قراءة شاذة.
قال ابن عطية: (وذلك على الابتداء والخبر مقدر، تقديره: والأرحام أهل أن توصل).
قال الزمخشري: (والرفع على أنه مبتدأ خبره محذوف، كأنه قيل: والأرحام كذلك، على معنى: والأرحام مما يتقى أو والأرحام مما يتساءل به)، وهذا الذي رجحه أبو حيان والسمين الحلبي "للدلالة اللفظية والمعنوية، بخلاف الأول (أي: قول ابن عطية)، فإنه للدلالة المعنوية فقط".