ثم قال الشيخ رحمه الله تعالى :
((وقوله تعالى : (أَأَمِنْتُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ) من هذه الآية وما بعدها من الأدلة)) .
بدأ الشيخ يتحدث عن مسألة كبرى ؛ ألا وهي مسألة إثبات العلو لله سبحانه وتعالى, وصفة العلو لله سبحانه وتعالى من القضايا الكبار في العقيدة الإسلامية التي قررها الأئمة سلفاً وخلفاً, ومن القضايا الكبار التي خاض فيها المتكلمون قديماً وحديثاً .
وإن الإنسان ليصيبه أشد الحزن حينما يرى كثيراً من الناس, بل كثيراً من المنتسبين للعلم ممن لم يدرس ويتفهم عقيدة السلف الصالح , لايقر بهذه
الحقيقة الكبرى , قضية إثبات أن الله سبحانه وتعالى في جهة العلو في السماء وأنه فوق المخلوقات , فلقد ماج المتكلمون منذ القرن الأول وإلى عصرناالحاضر في هذه القضية التي جاء الدليل عليها في كتاب الله تعالى وفي سنة رسوله صلى الله عليه وسلم
بما يزيد على أكثر من ألف دليل .
وهذه حقيقة تدل على أهمية مدارسة منهج السلف الصالح , وتربية الأمة عليه, وتنشئتهم على أصوله, ولكن عمي عن هذه الحقيقة ألوف مؤلفة ممن ينتسب إلى الإسلام , فمنذ القرون الأولى وإلى عصرنا الحاضر نشأ فئام ممن نهج منهج المتكلمين أو تأثر بهم , إذا سألته : عن علوالله , أو سألته بسؤال رسول الله صلى الله عليه وسلم كما في صحيح مسلم حين سأل الجارية وقال لها ( أين الله ) (1) قالت : في السماء .
أقول إذا سألته أين الله ؟ إو إذا سألته : هل تقر بأن الله سبحانه وتعالى في العلو فوق خلقه بائنٌ منهم ؟ قال لك : لا . لا يجوز أن تقول هذا, إنك إذا قلت هذا فأنت تشبه الله بخلقه, وتجسمه وتقول : إنه متحيز في مكان . هكذا يقولون. ولو سألت هؤلاء : ماذا تقولون ؟ تجدهم اختلفوا في بذلك على قولين :
بعضهم يقول : الله في كل مكان . وهذا قول لبعض المتكلمين .
وبعضهم يقول : الله لا داخل العالم ولا خارجه .
وأهل السنة والجماعة وعلى رأسهم سيد الأولين والآخرين محمد صلى الله عليه وسلم
وصحابته من بعده , والسائرون على منهاجه يقولون : إن الله في السماء, إن الله تبارك وتعالى بائن من خلقه فوق العالم , على العرش استوى استواء يليق بجلاله وعظمته .
مع العلم أن هذه القضية التي وقع فيها المخالفة من قبل المتكلمين والفلاسفة والمبتدعة- تكاد تكون من المعلوم من الدين بالضرورة ؛ لأن من قرأ كتاب الله من أوله إلى آخره , ومن اطلع على سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم , وأقوال سلف الأمة - خاصة القرون المفضلة - علم علم اليقين ثبوت هذه الصفة لله ثبوتاً يقينياً لا مجال مع للشك والارتياب .
وهي من الأمور الظاهرة التي يميز فيها بين من ينهج منهج السلف الصالح , ومن ينهج نهج من خالفهم من المتكلمين فالأدلة صريحة في ذلك, ونحن هنا سنعرض لما ذكره الشيخ من أدلة, أما استقصاء الأدلة فيرجع فيها إلى الكتب التي ألفت في هذا الموضوع بالذات, ومنها : كتاب العلو لهذا الإمام الذي نشرح كتابه (( ابن قدامة )) , فإن لـه كتاباً مطبوعاً اسمه العلو , ومنها كتاب (( العلو )) أيضاً لشيخ الإسلام الإمام الذهبي رحمه الله تعالى , وقد اختصره الشيخ الإمام المحدث ناصر الدين الألباني في كتاب سماه (( مختصر العلو )) وخرج أحاديثه فجزاه الله خيراً وأثابه, وغيرها من الكتب , ولا يكاد يخلو كتاب من كتب السنة ومن كتب العقيدة السلفة إلا وفيه تقرير للأدلة الدالة على أن الله سبحانه وتعالى في العلو .
وليست أدلة العلو مقتصرة على دلائل الكتاب والسنة, بل دلّت على ذلك الفطرة , فإن الله فطر عباده جميعاً - حتى ذلك الذي يقول : إن الله في كل
مكان - فطر عباده جميعاً على انه سبحانه وتعالى في العلو, وقد كان من مواقف السلف رحمهم الله تعالى العملية الاستدلال بدليل الفطرة على تقرير هذه القضية .
فقد ذكر أن أحد أئمة السلف دخل على الإمام الجويني أحد الأشاعرة وهو يلقي درسه على المنبر يقرر فيه عقيدته الأشعرية, وما قرره إنكار أن الله في العلو, فكان هذا الشيخ يتكلم ويلقي درسه امام الناس ويقول : إن الله كان ولا مكان, وهو الآن على ما كان عليه , ويقرر نفي العلو عن الله سبحانه وتعالى, فقال له أحد الشيوخ الحاضرين واسمه الهمذاني : ياإمام - يخاطبه أمام الناس- دعنا من أقوالك, ومن حججك, ما هذه الحاجة التي يجدها كل واحد منا , ما أراد ربه قط إلا ورفع بصره إلى السماء, أجب عن هذه القضية الفطرية . قال : فنزل الإمام الجويني من المنبر وهو يقول : حيرني الهمذاني, حيرني الهمذاني, وجلس بن أصحابه يبكي بكاءً شديداً , ومعلومٌ أنه في آخر أمره رجع وأبطل تأويل الاستواء بالاستيلاء, وبين أنه يجب إثبات هذه الصفات ومنع من تأويلها على تفصيل في مذهبه رحمه الله تعالى .
لكن المهم هو كيف أن الفطرة التي فطر الله سبحانه وتعالى العباد عليها, دالة يقيناً على أن الله سبحانه وتعالى في العلو .
وقد جرى لشيخ الإسلام ابن تيمية موقف, آخر شبيه بهذا الموقف حيث ذكر - رحمه الله - قصته فقال :جاءني أحد مشايخ هؤلاء ممن ينفي علو الله سبحانه وتعالى , في حاجة , وتعمدت أن أنشغل عنه قليلاً, فكلمني في هذه الحاجة وأنا متشاغل عنه . فلما انتظر قليلاً وسئم إذا بي ألمحه وهو يرفع بصره
إلى السماء وزفر زفرة وهو يقول ( يالله ) . فنظرت إليه وقلت لـه : ماذاصنعت أنت موحد, مثبت للعلو ؟ يقول : فاعتذر مني . وكان هذا الموقف سبباً في توبته ورجوعه إلى مذهب السلف, فهو في لحظة ذهول عن هذا الذي كان يقررفيه أن الله ليس في السماء, بل في كل مكان , ولا داخل العالم ولا خارجه إلى آخره , وجد نفسه فطرياً يرفع بصره إلى السماء متوسلاً مستغيثاً بالله سبحانه وتعالى فدليل الفطرة دال على العلو, وكذلك أيضاً دلّ عليه دليل العقل كما بينه الأئمة كشيخ الإسلام ابن تيمية ابن القيم وغيرهما , وذكره شارح الطحاوية, وسنعرض إلى شيء من ذلك بعد بيان ما ذكره الشيخ من الأدلة الشرعية الدالة على صفة العلو .
وأول دليل ذكره الشيخ هو قوله تعالى : (الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى) (طـه:5) , وهو من الأدلة الدالة على علو الله سبحانه وتعالى على خلقه, فآيات الاستواء السبعة كلها تدل على صفة العلو لله سبحانه وتعالى , كما سبقت الإشارة إليه .
الدليل الثاني : قال : (( وقوله تعالى (أَأَمِنْتُمْ مَنْ فِي السَّمَاء) (الملك: من الآية16), ولا يقول عاقل : إن (( في )) هنا ظرفية , وان الله داخل في السماء ؛ لأن القول بأن الله داخل في السماء يلزم منه أن السماء فوقه, وأنها محيطة به , وهذا لا يقول به عاقل .
وهذه الآية من أدلة علو الله تعالى على جميع مخلوقاته, ولها معنيان كل منهما صحيح :
أحدهما : أن السماء هنا يقصد بها العلو وليس مجرد السماء التي
وقول النبي صلى الله عليه وسلم : (( ربُّنا الله الذي في السماء تقدَّس اسمُك )) .
نشاهدها وهي سماء الدنيا أو ما فوقها , فقوله : (أَأَمِنْتُمْ مَنْ فِي السَّمَاء) أي أأمنتم من في العلو .
والقول بأن السماء تعني مطلق العلو مستخدم كثيراً فتقول : طار الطائر في السماء , وحلقت الطائرة في السماء , وأنت لا تقصد أنها داخل السماء , بل تقصد أنها ارتفعت في العلو , ومن ذلك إنزال الله المطر من السماء , أي العلو , إذن قول : (أَأَمِنْتُمْ مَنْ فِي السَّمَاء) أي العلو المطلق على جميع المخلوقات .
الثاني : أن تكون ((في )) بمعنى على, فقوله : (أَأَمِنْتُمْ مَنْ فِي السَّمَاء) أي من على السماء , وقد جاءت في اللغة العربية بمعنى ((على )) كثيراً . يقول الله تعالى عن فرعون لما أراد أن يصلب السحرة المؤمنين قال: (وَلَأُصَلِّبَنَّكُمْ فِي جُذُوعِ النَّخْلِ) (طـه: من الآية71) فقوله : (فِي جُذُوعِ النَّخْلِ) لم يقصد به انه سيضعهم في داخل تلك الجوع وإنما سيصلبهم على تلك الجذوع وهذا واضح ولله الحمد .
ثم قال الشيخ رحمه الله:
(( وقول النبي صلى الله عليه وسلم :(( ربنا الله الذي في السماء تقدس اسمك )) (2) .
هذا الحديث رواه أبو داود والإمام أحمد وغيره, لكنه حديث ضعيف ؛ لأن فيه راويا يقال لـه : زيادة الأنصاري , متكلم فيه وقد تفرد بهذا الحديث, ومن ثم فنحن حينما نتحدث عن مثل هذا الحديث نقول : هذا الحديث ضعيف .
وليس هو الدليل الوحيد على هذه المسألة حتى لا يأتي قائل ويقول : إنكم تحتجون لمذاهبكم بالأحاديث الضعيفة .
وهنا مسألة لا بد من بيانها تتعلق بهذا الأمر , فابن قدامة رحمه الله استشهد بحديث تكلم فيه العلماء وقالوا : ضعيف, فقد يدخل من هذا الباب بعض المخالفين لأهل السنة وقول : إن كثيراً من كتب السنة التي ترواى بالأسانيد يذكرون أحياناً أحاديث ضعيفة, فكيف تذكر هذه الأحاديث في باب العقائد ؟ وكيف يتسأهل في إيرادها ولاحتجاج بها ؟
والجواب عن ذلك من وجوه .
الوجه الأول : أن هؤلاء العلماء لم يثبتوا هذه الصفة أو تلك بحديث ضعيف يكون هو العمدة في الباب, وإنما يثبتونها بالأحاديث الصحيحة أولاً, فما أوردوه بعد من حديث ضعيف فإنه يتقوَّى بما ورد من الصحيح, وإن لم يتقوَّ فإن الصفة المقصودة ثابتة, لأن الدليل الصحيح دل عليها .
فليس إثبات العلو لله سبحانه وتعالى مقتصراً على هذا الحديث الذي معنا والذي استشهد به ابن قدامة رحمه الله وإنما هناك أحاديث أخرى كثيرة وصحيحة سيرد بعضها, بل والأدلة من القرآن أكثر من ذلك .
الوجه الثاني : أن العلماء إذا أوردوا تلك الأحاديث وهي ضعيفة, فإنهم يوردونها بالأسانيد وإيراداها بالأسانيد يرفع العهدة عنهم ويجعل العهدة على القارئ والمطلع
والمحذور أن يصحح حديثاً ضعيفاً أو أن يحتج به وحده مع ضعفه, لكن إذا أورده بالإسناد فقط ولم يحكم عليه فحينئذ يكون قد أعذر لنفسه , فعلى
القارئ وطالب العلم أن ينظر في هذا الإسناد وأن يسأل أهل الشأن إذا كان لا يستطيع التمييز بين الصحيح وغيره .
ولهذا نجد بعض من جمع الدواوين في الحديث كالبخاري ومسلم مثلاً أشترط أن لا يورد في كتابه إلا الصحيح , ليس في صحيح البخاري او صحيح مسلم إلاماهو صحيح .
أما ابو داود والترمذي وابن ماجه والنسائي والإمام أحمد فلم يشترطوا ذلك ؛ ولذلك ففي كتبهم الصحيح والحسن والضعيف .
كذلك أيضاً كتب السنة الخرى كالسنة لابن أبي عاصم , والسنة للخلال والسنة للالكائي والعلو للذهبي وغيرها , هذه الكتب وإن وردت فيها إلى جانب الأحاديث الصحيحة روايات ضعيفة , إلا أنهم أوردوها بالأسانيد فالعهدة على القارئ .
الثالث : أن إيرادها وإن كانت من طرق أحياناً ضعيفة إلا أن فيها فائدة كبرى , وهي أن هذه الرواية قد تتقوى بغيرها وقد تقوي غيرها, فأحياناً تكون الرواية ضعيفة , لكن ترد في كتاب آخر من كتب السنة أو الحديث من طريق آخر, فإذا جمعنا ذلك الطريق إلى هذا الطريق , تبين منه أنه حديث ثابت, وقد يكون هذا الحديث روي من طريق فيه رجل ضعيف , فيتبين من الرواية الخرى أنه مروي من طريق آخر عن غير هذا الراوي الضعيف فيصح أو يرتقي إلى درجة الحديث الحسن .
وكثير من الأحاديث إذا جمعت طرقها وفحصها العالم النحرير في علم
الحديث , تبين لـه أنها تتقوى فتصل إلى درجة الحسن أو تصل أحياناً إلى درجة الصحيح .
إذن إيراد هذه الأحاديث فيه فائدة . وتكتفي بهذه الأجوبة .
فقوله : (( ربنا الله الذي في السماء تقدس اسمك )) هذا الحديث كما أشرنا قبل قليل وإن كان ضعيفاً , إلا أنه يواكب الأحاديث الدالة على أن الله سبحانه وتعالى في السماء. قوله : (( الذي في السماء )) أي العلو. (( تقدس اسمك )) أي تنزه اسمك فهو كقوله تعالى : (سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى) (الأعلى:1) .
ثم يقول ابن قدامة : (( وقال للجارية : (( أين الله ؟)) قالت : في السماء )) قال : (( اعتقها فإنها مؤمنة ))(3) رواه مالك بن انس ومسلم وغيرهما من الأئمة))(4).
هذا الحديث رواه الإمام مسلم في صحيحه ورواه الإمام مالك ورواه غيرهما وقد استقصى طرقه أحد الأخوة الفضلاء, فألف رسالة أو جزءاً حديثياً بعنوان ( أين الله ) ذكر فيه من رواه من الأئمة مع ذكر طرقه التي ورد بها . وهذا الكتاب جيد ومطبوع .
وقد تأول المتأولة هذا الحديث الصريح لأنه يخالف منهج المتكلمين في أمرين مهمين جداً :
أحدهما : أنه يجوز السؤال عن الله بأين, وان هذا السؤال لا يلزم منه لازم
باطل ؛ كالتجسيم أو المكان أو غير ذلك ؛ لأن الرسول صلى الله عليه وسلم وهو سيد الخلق وأعمهم بالله سأل بأين, وقال للجارية (( أين الله ؟)).
الثاني : أن الجارية اشارت بيدها أو براسها وقالت : في السماء, فأقرها رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال : (( اعتقها فإنها مؤمنة )).
إذاً هذا يدل دلالة صريحة قطعية على أن الله سبحانه وتعالى في العلو وأنه في السماء , وانه يسأل عنه بأين ولا يلزم من ذلك لازم باطل كما يدعي هؤلاء .
والعجيب أيضاً أن المتكلمين خاضوا وتأولوا هذا الحديث الصحيح تأويلات غريبة جداً, فبعضهم ضعف رواية (( أين )) وقال : الرواية الصحيحة : ((من الله )) فيقال لـه : أين وردت كلمة من؟ ومن الذي رواها ؟ والأئمة الجهابذة يروونها بالأسايند الصحيحة بلفظ (( أين )), إن من المؤسف أن الواحد من هؤلاء يردُّ هذه الرواية الصحيحة ويرد الحديث خوفاً من أن يدل عل بطلان ما يعتقده هو ويقول به .
وبعضهم اجاب بجواب أعجب من هذا فزعم أن الرسولصلى الله عليه وسلم لم يقصد حينما قال : (( اعتقها فإنها مؤمنة )) إقرارها عل قولها بأن الله في السماء , وإنما إأراد أن يبين هل هي تعبد الأصنام أم تعبدالله, فسألها (( أين الله )) فقالت : في السماء , فدل على أنها لاتعبد هبل ولا العزى؛ لأنها لو كانت تعبد واحداً منهما لقالت : هبل او العزى في مكة أو في الطائف فما قالت : في السماء . دلَّ ذلك على أنها تعبد الله ولا تعبد الأصنام .
وهذا تأويل ضعيف جداً, ولا يمكن أن يقول عاقل : إن الرسول صلى الله عليه وسلم لما أتي بها كان يقصد هذا المعنى البعيد الذي لايدل عيه الفظ ولا السياق.
فهذه تأويلات بعيدة لايليق بمن ينتسب إلى العلم أإن يلجا إليها خوفاً من إثبات ما أثبته الله تعالى لنفسه وأثبته لـه رسوله صلى الله عليه وسلم بل هي تمحلات اضطر إليها هؤلاء بسبب هذا الاعتقاد الباطل الذي اعتقدوه وهو توهمهم أن القول بان الله في السماء , يلزم منه أن الله محتاج إلى مكان, وأن المخلوقات تحوزه ونحو ذلك من اللوازم الباطلة التي توهموها .
ثم قال الشيخ :
((وقال النبي صلى الله عليه وسلم لحصين - وهو والد عمران بن حصين- : (( كم إلهاً تَعْبُدُ ؟)) قال :سبعة, ستة في الأرض وواحداً في السماءِ . قال : (( ومن لرهبتك ورغبتك )) قال : الذي في السماء )).
ستة : يعني ستة اصنام من أصنام الجأهل ية التي كانت موجود في مكة وغيرها وواحداً في السماء ؛ أي الله سبحانه وتعالى فهو يعبد هؤلاء جميعاً , فقال الرسول صلى الله عليه وسلم (( من لرهبتك ورغبتك )) أي من الذي تعلم أنه يقدر على تحيق الخير الذي تريده , وكشف الضر الذي تخشاه وتريد زواله؟ من هو الذي ترغب وترهب إليه؟ فقال : الذي في السماء. أي الله سبحانه وتعالى .
قال صلى الله عليه وسلم له :(( فاترك الستةَ واعبد الذي في السماء , وأنا أعلمُك
دعوتين )).
فأسلم رضي الله عنه, وعلُمه النبيُّ صلى الله عليه وسلم أن يقول : (( اللهمًّ ألهمني رشدي, وقني شر نفسي)) (5) .
وهذا الحديث رواه الترمذي وغيره, وحسنه .
ووجه الدلالة منه قوله : (( وواحداً في السماء )) وهو يدل على أنه يقصد بقوله : في السماء ؛ أن الله سبحانه وتعالى في العلو ولهذا قال (( من الذي لرغبتك ورهبتك)) قال : الذي في السماء ، وهذا دلٌّ على أن حصيناَ حتى قبل إسلامه كان يؤمن بأن الله سبحانه وتعالى في السماء ، ولقد كانوا في الجأهل ية, يؤمنون بذلك , وهذا معروف ومشهور عند أهل الجأهل ية, فهذا الحديث دال على إثبات العلو لله سبحانه وتعالى.
وكما أسلفنا في آية (أَأَمِنْتُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ) فقوله في هذا الحديث : (( في السماء )) ليس معناه أن السماء تحيط به, أ و أنه داخل السماء , وإما المعنى (( في السماء )) أي في العلو , أو في السماء أي على السماء ,وكلا المعنيين صحيح.
ثم قال الشيخ رحمه الله تعالى:
(( وفيما نُقل من علامات النبيِّ صلى الله عليه وسلم وأصحابه في الكتب المتقدّمة أنهم يسجدون بالأرضِ ، ويزعمون أن إلههم في السماءِ)).
هذا الكلام مروي عن الصحابي عديِّ بن عميرة بن فروة العبدي, وقد رواه عنه بإسناده ابن قدامة في كتابه (( العلو ))(6) وكذلـك أيضاً الذهبي في كتـاب (( العلـو )) من طريقين أحدهما عن ابن قدامة .
وقال الذهبي عنه : هذا حديث غريب (7) , وقوله في وصف النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه : إنهم يسجدون بالأرض . أي يسجدون على الأرض , وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم عن الخائص التي اختص بها مع أمته :(( وجعلت لي الأرض مسجداً وطهوراً ))(8), ورواية ابن قدامة في العلو (( يسجدون على وجوهم)) , وكذا في العلو للذهبي , والمعنى كماسبق : يسجدون على وجوهم على الأرض .
والشاهد قوله (( ويزعمون أن إلههم في السماء )), أي في العلو أو على السماء ، وقوله : يزعمون ، الزعم يرد بمعنى الظن ، وفيما يشك فيه ، وبمعنى الكذب، وبمعنى القول أو الخبر (9) وهو المقصود هنا, والمعنى أن النبي صلى الله عليه وسلم واصحابه يقولون ويخبرون بأن إلههم في السماء ، وقد ورد في إحدى النسخ الخطية المتقدمة للعلو اللذهبي لفظ الرواية الأولى - من غير طريق ابن قدامة – [ويعلمون ] بدل [ويزعمون ] كما نبه على ذلك المحقق وفقه الله تعالى ، وهي موافقة في المعنى لما ذكرناه .
ثم قال الشيخ رحمه الله تعالى :
(( وروى أبو داود في سننه أن النبيَّ صلى الله عليه وسلم قال : ((إن ما بين سماءٍ إلى سماءٍ مسيرة كذا وكذا – وذكر الخبرَ إلى قوله : وفوق ذلك العرشُ ، والله سبحانه فوق ذلك )) )).
هذا الحديث رواه الترمذي وحسنه ورواه أيضاً ابن ماجه ، وبعض العلماء تكلموا في إسناده .
وهو أيضاً دال على إثبات صفة العلو لله سبحانه وتعالى , ففيه وصف ما بين سماء إلى سماء مسيرة كذا خمسمائة عام, والشاهد قوله : (( وفوق ذلك العرش والله سبحانه فوق ذلك )) وهذا نص صريح أن فوق السموات العرش , وأن الله سبحانه وتعالى فوق العرش , وهذا دليل على إثبات علو الله تعالى على جميع المخلوقات .
_____________________________
(1) اخرجه مسلم رقم (537) كتاب المساجد
(2) أخرجه أبو داود رقم (3892) كتاب الطب الحاكم في المستدرك (1\344) وقال الحاكم : قد احتج الشيخان بجميع رواة هذا الحديث غير زيادة بن محمد وهو شيخ من أهل مصر قليل الحديث وقال الذهبي : قال الخاري وغيره : منكر الحديث وقال الحافظ في التقريب: منكر الحديث
(3) أخرجه مسلم رقم (537) كتاب المساجد
(4) كأبي داود رقم (930) ككتاب الصلاة والنسائي رقم (1218) كتاب السهو
(5) اخرجه الترمذي رقم (3483) كتاب الدعوات واحمد في المسند ( 4\444) وقال الترمذي غريب ونقل النووي في الأذكار عن الرمذي تحسينه وحسنه الحافظ ابن حجر
(6) العلو لابن قدامة رقم 21 ت بد=ر البدر
(7) العلو للذهبي رقم (35,53) ت د\ عبدالله البراك
(8) أخرجه البخاري رقم (353) كتاب التيمم مسلم رقم (521,522,523) كتاب المساجد
(9) انظر المصباح المنير مادة زعغم