المجموعة الثانية
1.حرّر القول في المسائل التالية:
أ: معنى الاستواء في قوله تعالى: {ثم استوى إلى السماء فسوّاهن سبع سماوات}.
ذكر في معنى الاستواء أقوال :
الأول : عمد وقصد إلى السماء . وهو قول ابن كيسان . ذكره الزجاج وابن عطية وقال : أي بخلقه وقدرته , وذكره ابن كثير وقال : والاستواء هاهنا تضمن معنى القصد والإقبال .
الثاني : صعد أمره إلى السماء . وهو قول ابن عباس . ذكره الزجاج .
الثالث : علا دون تكييف ولا تحديد . وهو اختيار ابن جرير كما ذكره ابن عطية وقال : علا أمره وقدرته وسلطانه .
الرابع : كمل صنعه فيها , كما تقول استوى الأمر . ذكره ابن عطية ولم يعزه وقال : وهذا قلق .
الخامس : أقبل . ذكره ابن عطية حكاية عن الطبري وقال : وضعفه .
السادس : أن المستوي هو الدخان . ذكره ابن عطية ولم يعزه , وقال : وهذا أيضا يأباه رصف الكلام .
السابع : استولى . ذكره ابن عطية .
واستدل له بقول الشاعر الأخطل :
قد استوى بشر على العراق.......من غير سيف ودم مهراق
وذكر ابن عطية أن القاعدة في هذه الآية ونحوها منع النقلة وحلول الحوادث , ويبقى استواء القدرة والسلطان .
ومن خلال هذه الأقوال يتبين اختلاف المفسرين في معنى الاستواء إلى أقوال عديدة رجح ابن عطية منها أن معناها هو استواء القدرة والسلطان وهذا القول رجحه ابن جرير كما نقله عنه ابن عطية , وفسر ابن كثير الاستواء بأنه القصد والعمد ؛ لأن الاستواء عدي بإلى فتضمن معنى القصد والإقبال وهذا القول هو الراجح لأن تعدية الفعل بحرف الجر يضمن فعلا آخر فحينما عدي الاستواء بحرف الجر إلى كان المعنى متضمن القصد والإقبال , مع ثبوت علو الله تعالى كما يليق بجلاله من غير تحريف ولا تشبيه ولا تعطيل ولا تكييف .
ب: المراد بالكلمات التي تلقّاها آدم.
ذكر في المراد بالكلمات التي تلقاها آدم أقول :
الأول : اعتراف آدم وحواء بالذنب ؛ لأنهما قالا : (ربّنا ظلمنا أنفسنا وإن لم تغفر لنا وترحمنا لنكوننّ من الخاسرين ) . ذكره الزجاج .
الثاني : هي قوله تعالى : { ربّنا ظلمنا أنفسنا } الآية . وهو قول الحسن بن أبي الحسن , و مجاهدٍ، وسعيد بن جبيرٍ، وأبي العالية، والرّبيع بن أنسٍ ، وقتادة، ومحمّد بن كعبٍ القرظي ، وخالد بن معدان , وعطاءٍ الخراسانيّ ، وعبد الرّحمن بن زيد بن أسلم . ذكره ابن عطية , وابن كثير .
الثالث : هي أن آدم قال: سبحانك اللهم لا إله إلا أنت ظلمت نفسي فاغفر لي إنك أنت التواب الرحيم . وهو قول مجاهد . ذكره ابن عطية .
الرابع : هي أن آدم قال: أي رب ألم تخلقني بيدك؟ قال: بلى، قال: أي رب ألم تنفخ فيّ من روحك؟ قال بلى، قال: أي رب ألم تسكني جنتك؟ قال: بلى. قال: أرأيت إن تبت وأطعت أراجعي أنت إلى الجنة؟ قال: نعم . وهو قول ابن عباس , وأبي بن كعب . ذكره ابن عطية , وابن كثير .
واستدل له بما قال السّدّيّ، عمّن حدّثه، عن ابن عبّاسٍ: {فتلقّى آدم من ربّه كلماتٍ}، قال: «قال آدم، عليه السّلام: يا ربّ، ألم تخلقني بيدك؟ قيل له: بلى. ونفخت فيّ من روحك؟ قيل له: بلى. وعطست فقلت: يرحمك اللّه، وسبقت رحمتك غضبك؟ قيل له: بلى، وكتبت عليّ أن أعمل هذا؟ قيل له: بلى. قال: أفرأيت إن تبت هل أنت راجعي إلى الجنّة؟ قال: نعم».
الخامس : إن آدم قال: أي رب أرأيت ما عصيتك فيه أشيء كتبته علي أم شيء ابتدعته؟ قال: بل شيء كتبته عليك. قال: أي رب كما كتبته علي فاغفر لي . وهو قول عبيد بن عمير . ذكره ابن عطية وابن كثير .
واستدل له بما قال سفيان الثّوريّ، عن عبد العزيز بن رفيع، أخبرني من سمع عبيد بن عمير، وفي روايةٍ: [قال]: أخبرني مجاهدٌ، عن عبيد بن عميرٍ، أنّه قال: قال آدم: يا ربّ، خطيئتي الّتي أخطأت شيءٌ كتبته عليّ قبل أن تخلقني، أو شيءٌ ابتدعته من قبل نفسي؟ قال: بل شيءٌ كتبته عليك قبل أن أخلقك. قال: فكما كتبته عليّ فاغفر لي. قال: فذلك قوله تعالى: {فتلقّى آدم من ربّه كلماتٍ}.
السادس : الكلمات هي أن آدم قال: أي رب أرأيت إن أنا تبت وأصلحت؟ قال: إذا أدخلك الجنة . وهو قول قتادة , وأبو العالية . ذكره ابن عطية , وابن كثير .
واستدل له بما قال أبو جعفرٍ الرّازيّ، عن الرّبيع بن أنسٍ، عن أبي العالية، في قوله تعالى: {فتلقّى آدم من ربّه كلماتٍ} قال: «إنّ آدم لمّا أصاب الخطيئة قال: يا ربّ، أرأيت إن تبت وأصلحت؟ قال اللّه: إذن أرجعك إلى الجنّة فهي من الكلمات. ومن الكلمات أيضًا:{ربّنا ظلمنا أنفسنا وإن لم تغفر لنا وترحمنا لنكوننّ من الخاسرين} .
السابع : إن آدم رأى مكتوبا على ساق العرش "محمد رسول الله" فتشفع بذلك، فهي الكلمات . ذكره ابن عطية ولم يعزه .
الثامن : إن المراد بالكلمات ندمه واستغفاره وحزنه، وسماها كلمات مجازا لما هي في خلقها صادرة عن كلمات، وهي كن في كل واحدة منهن . ذكره ابن عطية ولم يعزه , وقال : وهذا قول يقتضي أن آدم لم يقل شيئا إلا الاستغفار المعهود .
التاسع : علم [آدم] شأن الحج . وهو قول ابن عباس . ذكره ابن كثير واستدل له بما قال أبو إسحاق السّبيعي، عن رجلٍ من بني تميمٍ، قال: أتيت ابن عبّاسٍ، فسألته: [قلت]: ما الكلمات الّتي تلقّى آدم من ربّه؟ قال: «علم [آدم] شأن الحج».
العاشر : الكلمات: اللّهمّ لا إله إلّا أنت سبحانك وبحمدك، ربّ إنّي ظلمت نفسي فاغفر لي إنّك خير الغافرين، اللّهمّ لا إله إلّا أنت سبحانك وبحمدك، ربّ إنّي ظلمت نفسي فارحمني، إنّك خير الرّاحمين. اللّهمّ لا إله إلّا أنت سبحانك وبحمدك، ربّ إنّي ظلمت نفسي فتب عليّ، إنّك أنت التّوّاب الرحيم . وهو قول مجاهد . ذكره ابن كثير .
ويتبين مما سبق أن المفسرون قد اختلفوا في المراد بالكلمات التي تلقاها آدم من ربه فتاب عليه إلى اقوال كثيرة أرجحها القول الثاني ؛ أن المراد هي قوله تعالى : ( ربنا ظلمنا أنفسنا ) الآية , ؛ ذلك لأن سياق الآيات يفسر بعضها بعضا , والسياق من المرجحات .
2. بيّن ما يلي:
أ: دليلا على قاعدة سد الذرائع مما درست.
الدليل قوله تعالى : ( ولا تقربا هذه الشجرة ) .
قال ابن عطية : قال بعض الحذاق: «إن الله لما أراد النهي عن أكل الشجرة نهى عنه بلفظة تقتضي الأكل وما يدعو إليه وهو القرب» . قال القاضي أبو محمد رحمه الله: وهذا مثال بين في سد الذرائع.
ب: سبب نزول قوله تعالى: {إن الله لا يستحيي أن يضرب مثلا ما بعوضة فما فوقها}.
ذكر في سبب نزول الآية أقوال :
الأول : ما رواه السّدّيّ في تفسيره، عن أبي مالكٍ، وعن أبي صالحٍ، عن ابن عبّاسٍ -وعن مرّة، عن ابن مسعودٍ، وعن ناسٍ من الصّحابة: «لمّا ضرب اللّه هذين المثلين للمنافقين -يعني قوله: {مثلهم كمثل الّذي استوقد نارًا}[البقرة: 17] وقوله {أو كصيّبٍ من السّماء}[البقرة: 19] الآيات الثّلاث- قال المنافقون: اللّه أعلى وأجلّ من أن يضرب هذه الأمثال، فأنزل اللّه هذه الآية إلى قوله:{هم الخاسرون}». ذكره ابن كثير .
الثاني : ما رواه عبد الرّزّاق، عن معمر، عن قتادة: «لمّا ذكر اللّه العنكبوت والذّباب، قال المشركون: ما بال العنكبوت والذّباب يذكران؟ فأنزل اللّه [تعالى هذه الآية] {إنّ اللّه لا يستحيي أن يضرب مثلا ما بعوضةً فما فوقها}». ذكره ابن عطية , وابن كثير .
الثالث : ما رواه سعيدٌ، عن قتادة: «أي إنّ اللّه لا يستحيي من الحقّ أن يذكر شيئًا ما، قلّ أو كثر، وإنّ اللّه حين ذكر في كتابه الذّباب والعنكبوت قال أهل الضّلالة: ما أراد اللّه من ذكر هذا؟ فأنزل اللّه:{إنّ اللّه لا يستحيي أن يضرب مثلا ما بعوضةً فما فوقها}». ذكره ابن كثير .
وذكر ابن كثير تعقيبا على هذه الأقوال قال : قلت: العبارة الأولى عن قتادة فيها إشعارٌ أنّ هذه الآية مكّيّةٌ، وليس كذلك، وعبارة رواية سعيدٍ، عن قتادة أقرب واللّه أعلم.
ج: المراد بالحين في قوله تعالى: {ولكم في الأرض مستقرّ ومتاع إلى حين}.
ذكر في المراد بالحين أقوال :
الأول : إلى يوم القيامة . ذكره الزجاج , وابن عطية , وقال : وهذا قول من يقول: المستقر هو في القبور .
الثاني : فناء الآجال . ذكره الزجاج , وابن عطية , وقال : وهذا قول من يقول المستقر هو المقام في الدنيا .
الثالث : إلى وقت مؤقت ومقدار معين , ثم تقوم القيامة . ذكره ابن كثير .
ومما سبق يتبين أن المفسرون اختلفوا في المراد بالحين على أقوال , وسبب اختلافهم تفسيرهم للمستقر فمن فسر المستقر بالقبر كان معنى الحين عنده إلى يوم القيامة , أما من فسر المستقر بالمقام في الدنيا كان معنى الحين عنده الموت وفناء الآجال , وقول ابن كثير الثالث يدخل في القول الثاني .
والله أعلم