ص: (والحُكْمُ: خِطَابُ اللهِ تعالَى المُتَعَلِّقُ بفعلِ المكلَّفِ مِن حيثُ إنَّه مُكَلَّفٌ).
ش: لَمَّا عَرَّفَ الفِقْهَ بالحُكْمِ،وَجَبَ تعريفُ الحكمِ، والألِفُ واللامُ فيه للعَهْدِ؛ أي: الشرعيُّ؛ لِيُحْتَرَزَ به عن العقليِّ، وبهذه القَرِينَةِ اسْتَغْنَى المُصَنِّفُ عن التقييدِ. فالخِطَابُ: جِنْسٌ، والمرادُ به: ما وُجِّهَ من الكلامِ نحوَ الغيرِ لإفادتِهِ، وبإضافتِه إلى اللهِ تعالَى يَخْرُجُ خِطَابُ غيرِه. واسْتَغْنَى عن تَقْيِيدِهِ بالقديمِ؛ لأنَّ كلامَه قديمٌ. و (المُتَعَلِّقُ بفعلِ المكلَّفِ) يُخْرِجُ أربعةَ أشياءَ: ما تَعَلَّقَ بذاتِهِ،نحوُ: {اللهُ لاَ إِلَهَ إِلاَّهُوَ}، وبفعلِهِ، نحوُ: {خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ}، وبالجماداتِ نحوُ: {وَيَوْمَ نُسَيِّرُ الْجِبَالَ}،وبذواتِ المُكَلَّفِينَ، نحوُ: {وَلَقَدْ خَلَقْنَاكُمْ ثُمَّ صَوَّرْنَاكُمْ}.
وإنَّما أَفْرَدَ المُكَلَّفَ ولم يَجْمَعْهُ؛ لِئَلاَّ يَرِدَ عليه ما يَتَعَلَّقُ بمُكَلَّفٍ واحدٍ؛ كخَوَاصِّ النبيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
وقولُه: (من حيثُ إنَّه مُكَلَّفٌ) يُخْرِجُ ما تَعَلَّقَ بفِعْلِ المُكَلَّفِ،لا مِن حيثُ تكليفُه؛ كخبرِ اللهِ عن أفعالِ المكلَّفِينَ،نحوُ: {وَاللهُ خَلَقَكُمْ وَمَا تَعْمَلُونَ}،فقولُه: {وَمَا تَعْمَلُونَ} مُتَعَلِّقٌ بعملِ المكلَّفِ، لا مِن حيثُ فِعْلُه؛بدليلِ أنَّه يَعُمُّ المُكَلَّفَ وغيرَه، بل مِن حيثُ إنَّه مخلوقٌ للهِ تعالَى، وليسَ ذلك حُكْماً شرعيًّا، بل هو مِن بابِ العقائدِ،لا الأحكامِ. وكذا قولُه عليه الصلاةُ والسلامُ: ((صِلَةُ الرَّحِمِ تَزِيدُ فِي الرِّزْقِ)) وغيرُه.
وهذا القيدُ مُغْنٍ عن قولِ البَيْضَاوِيِّ: بالاقتضاءِ أو التخييرِ. وهو يُفْهِمُ اختصاصَ التعلُّقِ بوجهِ التكليفِ، لا يقالُ: فحينَئذٍ يَخْرُجُ ما سِوَى الإيجابِ والحَظْرِ، من الندبِ والإباحةِ والكراهةِ وخلافِ الأَوْلَى؛ لأنَّا نقولُ: هذه تَخُصُّ أفعالَ المُكَلَّفِينَ. وقولُ الفقهاءِ: (الصبيُّ يُثَابُ ويُنْدَبُ له) كلُّه على سبيلِ التجَوُّزِ عندَ الأُصُولِيِّينَ، فلا يكونُ نَدْبٌ ولا كراهةٌ إلاَّ في فِعْلِ المكلَّفِ، وهذا أمرٌ مفروغٌ منه عندَ الأُصُولِيِّينَ، نَبَّهُوا عليه بقولِهِم: المُتَعَلِّقُ بأفعالِ المكلَّفِينَ. كذا قالَه المصنِّفُ، وسَبَقَه إليه الهِنْدِيُّ، فقالَ: الدليلُ على أنَّه لا يَتَعَلَّقُ بفعلِ الصبيِّ حُكْمٌ شرعيٌّ, الإجماعُ؛فإنَّ الأُمَّةَ أَجْمَعَتْ على أنَّ شرطَ التكليفِ العقلُ والبلوغُ، وإذا انْتَفَى التكليفُ عنهم؛ لِفَقْدِ شَرْطِهِ، انْتَفَى الحكمُ الشرعيُّ عن أفعالِهم، والمعنى مِن تَعَلُّقِ الضمانِ بإتلافِ الصبِيِّ أمرُ الولِيِّ بإخراجِهِ من مالِهِ.
وقالَ الشيخُ تَقِيُّ الدينِ: عَبَّرَ بعضُهم بأفعالِ العبادِ؛ لِيَشْمَلَ الضمانَ المُتَعَلِّقَ بِفِعْلِ الصبِيِّ والمجنونِ. ومَنِ اعْتَبَرَ التكليفَ، رَدَّ ذلك الحُكْمَ إلى الوَلِيِّ، وتكليفُه بأداءِ قَدْرِ الواجِبِ.
قلتُ: وكذا القولُ في إتلافِ البَهيمةِ ونحوِهِ؛ فإنَّه حُكْمٌ شرعيٌّ، وليسَ مُتَعَلِّقاً بفعلِ المكلَّفِ، والحاصلُ رَدُّهُ إلى التعلُّقِ بفعلِ المكلَّفِ، إلاَّ أنَّ التَّعَلُّقَ تارَةً يكونُ بواسطةٍ، وتَارَةً يكونُ بغيرِ واسطةٍ، وكذا القولُ فيما يَثْبُتُ بِخِطَابِ الوضعِ على أحدِ الأقوالِ؛فإنَّ الزوالَ سببٌ لوجوبِ الصلاةِ، وهو مُتَعَلِّقٌ بفعلِ مُكَلَّفٍ؛ إذ مُوجِبُهُ وُجُوبُ الصلاةِ،لا أنَّه بِوَاسِطَةٍ، وقد أُورِدَ على المصنِّفِ أنَّه كانَ يَنْبَغِي أنْ يَزِيدَ: به، فيقولَ: مِن حيثُ إنَّه مُكَلَّفٌ به؛ لأنَّ الخطابَ من الشارِعِ لا يكونُ إلاَّ معَ المُكَلَّفِ، لا معَ الصبيِّ والمجنونِ، وأجابَ بأنه لو قالَ: به، لاقْتُضِيَ أنَّ المُكَلَّفَ لا يُخَاطَبُ إلاَّ بما هو مُكَلَّفٌ به، وليسَ كذلكَ؛فإنَّ النبيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مُخَاطَبٌ بما كَلَّفَ به الأُمَّةَ،بمعنى تَبْلِيغِهم، وكذا جميعُ المُكَلَّفِينَ بفرضِ الكفايةِ، وإنْ كانَ المكلَّفُ به بعضَهم،لا الكلَّ،على المختارِ.
ولقائلٍ أنْ يقولَ: لا نُسَلِّمُ امتناعَ كونِ المكلَّفِ لا يُخَاطَبُ إلاَّ بما كُلِّفَ به؛فإنَّ سائرَ التكليفاتِ كذلك، ولا يَرِدُ عليه تكليفُ النبيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بالتبليغِ دونَ العملِ؛فإنَّه لم يُكَلَّفْ إلاَّ بالتبليغِ، ولا يَضُرُّ تَعَلُّقُ التكليفِ بغيرِهِ مِن جِهَةٍ أُخْرَى، فصَدَقَ قَوْلُنا: إنَّه لم يُخَاطَبْ إلاَّ بما هو مُكَلَّفٌ به، ويَبْقَى سؤالُ المُعْتَرِضِ وتنظيرُه بفرضِ الكفايةِ عجيبٌ؛ فإنَّ كونَ الجميعِ مُخَاطَبِينَ معَ القولِ بأنَّ المكلَّفَ بعضُهم - مِمَّا لا يُمْكِنُ،والأَوْلَى أنْ يُقالَ: لو قالَ: به، لاقْتَضَى أنَّ المكلَّفَ لا يُخَاطَبُ إلاَّ بما كُلِّفَ به، وليسَ كذلك؛فإنَّ المندوبَ والمكروهَ والمباحَ مُخَاطَبٌ بها،معَ أنَّه غيرُ مكلَّفٍ بها؛على ما اخْتَارَهُ المصنِّفُ فيما سيأتِي، ولا تكليفَ في الحقيقةِ إلاَّ بالواجبِ والمحظورِ، فوَجَبَ حذفُ (به) لِيَتَنَاوَلَ جميعَ الأحكامِ المخاطَبِ بها؛مُكَلَّفاً به وغيرَ مكلَّفٍ به.
فائدةٌ: قولُه: (مِن حيثُ إنَّه) بكسرِ الهمزةِ، ثَمَّ، وقد أُولِعَ الفقهاءُ بالفتحِ، وعُدَّ مِن اللَّحْنِ، لكِنْ يَجِيءُ على رأيِ الكِسَائِيِّ في إضافةِ حيثُ إلى المفردِ.
ص: (ومِن ثَمَّ لا حُكْمَ إلاَّ للهِ).
ش: هذه المسألةُ فرعٌ لِمَا سَبَقَ، ولهذا قالَ: (ومِن ثَمَّ) وهي هنا للمكانِ المجازيِّ؛أي: مِن أجلِ أنَّ الحُكْمَ خِطابُ اللهِ، وحيثُ لا خِطابَ لا حُكْمَ، فعُلِمَ أنه لا حُكْمَ إلاَّ للهِ، خِلافاً للمعتزلةِ في دَعْوَاهُم أنَّ العقلَ يُدْرِكُ الحكمَ بالحُسْنِ والقُبْحِ، فهو عندَهم طريقٌ إلى العلمِ بالحُكْمِ الشرعيِّ.
فائدةٌ: قالَ الراغِبُ: (ثَمَّ) إشارةٌ إلى المُتَبَعِّدِ من المكانِ، و (هناكَ) للمُتَقَرِّبِ، وهما ظرفانِ في الأصلِ، وقولُه تعالى: {وَإِذَا رَأَيْتَ ثَمَّ} فهو في موضعِ المفعولِ. انْتَهَى.
وقولُه: إنَّ (هناكَ) للمتقرِّبِ. خلافُ المشهورِ، وقولُه: إنَّها في الآيةِ مفعولٌ. مردودٌ؛ لأنَّه ظرفٌ لا يَنْصَرِفُ.