ولهذا نقل الشيخ رحمه الله تعالى كلام إمام أهل السنة ؛ أبي عبدالله أحمد ابن حنبل رحمه الله تعالى في قول الرسول r : (( إن الله ينزل إلى سماء الدنيا ))(1) ,
و(( إن الله يُرى في القيامة ))(2) وما أشبه هذه الأحاديث موضحاً موقف أهل الإيمان والسنة من هذه النصوص .
ويلاحظ أن الإمام أحمد هنا استشهد بأحاديث , فيها دليل على إثبات الصفات لله سبحانه وتعالى بالسنة الصحيحة , فنزول الله تعالى إلى سماء الدنيا ثابت , دلت عليه أحاديث صريحة صحيحة كثيرة , ونزوله كما يليق بجلاله وعظمته , هكذا يثبته أهل أسنة والجماعة .
كذلك أيضاً رؤية المؤمنين لربهم في الآخرة عياناً بأبصارهم , دلت عليها الأحاديث المتواترة(3) , وغيرها من الأحاديث التي قال عنها الإمام أحمد : ((نؤمن بها ونصدق بها لا كيف )) أي لا نكيفها؛ لأننا لا نعلم ذات الله تعالى فلا نكيف صفاته.
ثم قال : (( ولا معنى )) أي لا نتأولها إلى المعاني الأخرى الباطلة , فنأتي لها بمعان جديدة تخالف ما دلت عليه النصوص , ولهذا قال : (( ولا نرد شيئاً منها , ونعلم أن ما جاء به الرسول حق ولا نرد على رسول الله r )).
ولما كان أحد الأئمة وهو إسحاق بن راهوية عند ابن طاهر أمير خراسان , يحدث ويقرأ عليه الأحاديث , قرأ عليه بأسانيده أحاديث النزول بطرقها (( إن الله تعالى ينزل إلى سماء الدنيا كل ليلة حين يبقى ثلث الليل الآخر , فيقول : هل من سائل فأعطيه , هل من مستغفر فأغفر له , هل من تائب فأتوب عليـه ))(4), فقال عبدالله بن طاهر ـ وفي إحدى روايات القصة أحد الجالسين ـ: كيف تحدث بهذه الأحاديث التي فيها : إن الله ينزل ؟! وهذا الإعتراض قد يقع لبعض من يسمع مثل هذه الأحاديث فلا يقبلها ,بل يستنكرها ثم يتأولها ويقول : إن الذي ينزل هو رحمته , أو أمره , أو ملك من الملائكة .
وإنما يقولون ذلك لأنهم يستثقلون مثل هذا الحديث , الذي ثبت عن النبي r بطرق عديدة صحيحة , ويظنون أنه يلزم منه التشبيه , وأن نزول الله سبحانه وتعالى إلى السماء الدنيا كنزول المخلوقين .
فلما اعترض هذا الرجل أو هذا لأمير , وقال : كيف تحدث بهذه الأحاديث ؟ قال له إسحاق بن راهوية : يا أمير , هذه أحاديث رسول الله r نرويها ؛ بها نحرم الحرام , وبها نحلُّ الحلال , وبها نستحل الفروج , وبه تُقطع الرقاب . يعني نثبت بها الأحكام , فنفس الإسناد الذي نقطع به رقبة فلان شرعاً هو نفسه الإسناد الذي نحدث عن طريقه بمثل هذا الحديث عن رسول الله r , فإذا رددنا مثل هذا لزم رد الشريعة الإسلامية من أولها إلى آخرها , ورد سنة الرسولr كلها .
وقد كان الأئمة رحمهم الله تعالى يروون هذه الأحاديث لا يفرقون بينها , ما دامت صحيحة الإسناد , ثابتة إلى رسول الله r , فما دلت عليه من صفة فإنهم يثبتونها كما لودل عليها القرآن , فلا يفرقون بين القرآن والسنة في إثبات ذلك .
ومن ثم قال الإمام أحمد : (( ولا نردُّ على رسول اللهr )) . فما دام الإسناد ثابتاً , فإننا نؤمن به نصدق ونثبت هذه الصفات , كما يليق بجلاله وعظمته من غير تحريف ولا تعطيل , ومن غير تكييف ولا تمثيل .
ثم قال : (( ولا نصف الله بأكثر مما وصف به نفسه بلا حد ولا غاية , {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ} [الشورى:11] ونقول كما قال ونصفه بما وصف به نفسه )) .
قوله : (( ولا نصف الله بأكثر مما وصف به نفسه )) , هذا قيدٌ مهم في منهج أهل السنة والجماعة , بمعنى أن الأسماء والصفات توقيفية ؛ إذ ليس كل معنى صحيح نثبته لله سبحانه وتعالى صفة بحجة أن معناه صحيح .
كما أنه لا يجوز أن نأتي إلى كل عبارة صحيحة ونقول : قال رسول الله r:
ثم نذكر هذه العبارة فلا نقول مثلاً : قال رسول الله r : افعل الخير , وأحسن
إلى جارك إحساناً في الليل وفي النهار . فليس لنا لكون هذا المعنى صحيحاً أن نقول : لا يمتنع أن يقوله الرسول r , فالمعنى ولو كان صحيحاً , لا يجوز أن ننسبه إلى رسول الله r ما لم يثبت عنه بالإسناد الصحيح .
وكذلك أيضاً لا نأتي إلى صفة من الصفات وإن كان معناها صحيحاً
ونقول : هذه صفة يجوز أن نثبتها لله .
ومثال ذلك أن بعض الناس تعجبهم كلمة مهندس , ويقولون : إن فن الهندسة الآن يعتبر من الفنون الدقيقة الرائعة التي تدل على الإحكام والدقة إلى آخره , وإن هذا الكون بخلقه رائع وعظيم جداً , فما المانع أن نقول : إن الله هو مهندس هذا الكون , فنجعل المهندس من أسمائه تعالى ومن صفاته هذه الصفة ؟
فنقول : هذا لا ينبغي وإن كان المعنى صحيحاً , لأنه لا يجوز لنا أن نصف الله إلا بما ورد.
ولكن بعض العلماء قال : يُتسأهل في باب الإخبار , أي حينما تخبر أو تشرح أو تترجم ، فلا مانع من أن تأتي بكلمات صحيحة المعنى لا نقص فيها تنسبها إلى الله سبحانه وتعالى ولو لم ترد وذلك من باب الإخبار والشرح والتوضيح . فتقول : إن الله صنع هذا الكون مثلاً ؛ تريد أن تشرح أو توضح , ولكن لا يعني ذلك أن تقول : إن من أسمائه سبحانه وتعالى (( الصانع )) ما لم يثبت هذا الاسم , ونوضح هذا فنقول : في باب الإثبات , حينما تثبت لله اسماً من أسمائه أوصفة من صفاته , لابد أن يكون قد دل عليها الدليل من كتاب الله أو من سنة الرسول r . وفي باب الإخبار قد يتسأهل في ذلك , فيجوز وأنت تخبر أو توضح أو تشرح أو تترجم إذا كان كلامك يتعلق بالله سبحانه وتعالى أن تأتي بالعبارات اللائقة بالله تعالى وإن لم يكن ورد بها النصّ , شريطة ألا تثبتها لله اسماً من أسمائه أو صفة من صفاته .
فقول الإمام أحمد رحمه الله : (( ولا نصف الله بأكثر مما وصف به نفسه , بلا حد ولا غاية )) لتقرير منهج أهل السنة والجماعة في باب أسماء الله وصفاته , وهو أنهم يثبتون ما أثبته الله وأثبته رسوله r و من غير نقص ؛ سواء كان هذا النقص بنفي أو تعطيل أو نحو ذلك , وبغير زيادة , فلا يأتون من عند أنفسهم بصفات ولو ظنوها عليا ، أو بأسماء ولو ظنوها حسنى , ليصفوا الله سبحانه وتعالى بها ، بل صفات الله سبحانه وتعالى عمادها التوقيف عل ما ورد ، حيث نثبت ما ورد إثباته , وننفي ما ورد نفيه , ونتوقف عما لم يرد إثباته ولا نفيه .
وقوله : (( بلا حدٍ ولا غاية )) . مقصوده رحمه الله : أننا نثبت لله سبحانه وتعالى هذه الصفات على ما يليق بجلاله وعظمته , ونقول : إن صفاته ليس لها غاية , فليس لعلم الله - مثلاً - غاية ومنتهى , كما أنه ليس لكلام الله سبحانه وتعالى غاية ومنتهى .
فالله سبحانه وتعالى بكل شيء عليم , يعلم ما كان , وما لم يكن لو كان كيف كان يكون , كما أن كلامه تعالى لا ينقضي كما قال تعالى : {وَلَوْ أَنَّمَا فِي الْأَرْضِ مِنْ شَجَرَةٍ أَقْلامٌ وَالْبَحْرُ يَمُدُّهُ مِنْ بَعْدِهِ سَبْعَةُ أَبْحُرٍ مَا نَفِدَتْ كَلِمَاتُ اللَّه} [لقمان: 27] وفي الآية الأخرى : {قُلْ لَوْ كَانَ الْبَحْرُ مِدَاداً لِكَلِمَاتِ رَبِّي لَنَفِدَ الْبَحْرُ قَبْلَ أَنْ تَنْفَدَ كَلِمَاتُ رَبِّي وَلَوْ جِئْنَا بِمِثْلِهِ مَدَداً} [الكهف:109] .
قال العلماء في تفسير هاتين الآيتين : إن العدد غير مراد , ولا يعني أنه لو جئنا بسبعة أبحر نفدت كلمات الله , بل لو جئنا بسبعة وسبعة وسبعة ما نفدت كلمات الله أبداً . ومعنى الآيتين : أننا لوقطَّعنا الأشجار التي على الأرض ، وبرينا غصونها وأعوادها لتتحول إلى أقلام , ثم تحول البحر إلى مدادٍٍ وحبر , وكتب بتلك الأقلام وبذلك المداد كلمات الله , ما نفدت كلمات الله أبداً ، وهذا من عظمة الله سبحانه وتعالى , فلكل مخلوق منتهى , أما الخالق سبحانه وتعالى فلا منتهى لأمره وعلمه , ولا لكلامه سبحانه وتعالى .
فإن ربنا تبارك وتعالى عظيم عظمة لا يمكن أن يتصورها مخلوق , ومهما تصور المخلوق فالله أعظم من ذلك . وأقرب مثالٍ على ذلك أننا إذا قلنا إن السموات والأرض كلها بمجراتها , وأفلاكها , في يد الرحمن سبحانه وتعالى كخردلة في يد أحدكم , تبين جلال عظمة الله سبحانه وتعالى , وكيف أننا لا نستطيع ولن نستطيع أن نقدر الله حق قدره سبحانه وتعالى .
هذا معنى قول ابن قدامة أن صفاته نثبتها بلاحدٍّ ولا غاية , أي لا نجعل لصفاته منتهى ، فهو العظيم الذي لا عظيم فوقه سبحانه وتعالى .
ولكن كلمة الحدِّ هنا فيها إجمال , حيث ورد عن بعض السلف إثبات الحدِّ لله سبحانه وتعالى . فأين ورد إثبات الحد وما معناه ؟ وما هو القول الحق في هذه المسألة ؟
نقول : ورد إثبات الحد لله سبحانه وتعالى في باب الاستواء ، فقد سئل عبدالله بن المبارك رحمه الله تعالى : نثبت أن الله على العرش استوى ؟ قال : نعم ؛
نثبت أن الله على العرش استوى . قال السائل : بحدٍّ ؟ قال : بحدّ (5).
فما الذي قصده ابن المبارك وغيره من السلف من إثبات الحد لله ؟ الذي قصده هؤلاء هو أن يثبتوا الفارق بين المخلوق والخالق فنحن مخلوقون مربوبون , نؤمن بأن الله سبحانه وتعالى فوقنا , ونصدق بأنه على العرش استوى استواء يليق بجلاله وعظمته سبحانه وتعالى . ولكن قد يخطر ببال بعض عوام الناس , أو ببال بعض الصوفية الحلولية , أو ببال بعض الذين يقولون : إن الله في كل مكان , قد يخطر ببالهم أن الله عظيم لا منتهى لعظمته , وإذا كان لا منتهى لعظمته في ذاته ، فمعنى ذلك : أننا مهما تصورنا شيئاً , فالله
يمكن أن يكون أعظم من ذلك , بحيث يشمل حتى مخلوقاته ، والنتيجة أن لا يكون هناك فارق بين الخالق وبين المخلوق .
فأراد هؤلاء العلماء أن يقرروا البينونة بين الخالق والمخلوق ، حتى يردوا على الحلولية , وعلى الاتحادية , وعلى غيرهم من الصوفية , الذين لا يفرقون بين الخالق والمخلوق ، وينكرون علو الله تعالى فوق خلقه وبينونيته لهم .
فقال هؤلاء الأئمة : نؤمن بأن الله على العرش استوى ، ونؤمن ببينونة الله لخلقه , وهذه البينونة مقتضاها كما أشار بعضهم ـ أن يكون هناك لله حدٌّ لا يعلمه إلا هو ، حتى نفصل بين الخالق وبين المخلوق ، ولهذا قال بعض السلف لما سئل: بحدٍّ ؟ قال : تعم بحد لا يعلمه إلا هو ، لإثبات وتقرير البينونة بين الخالق وبين المخلوق ، أما إذا أطلقنا هذا الأمر وقلنا : إن الله عظيم وبلا حد , فقد يتوهم متوهم أن هذه المخلوقات هي داخل ذاته سبحانه وتعالى أو أن الله حال في مخلوقاته , فأراد أن يبين هذه البينونة بين الخالق والمخلوق التي دلت عليها النصوص الكثيرة من كتاب الله ومن سنة رسوله r , وهذا ما قرره بعض العلماء الخبيرين بمذاهب الصوفية والمتكلمين حين قال : التوحيد إفراد القديم عن المحدث , أي التمييز بين الخالق الأزلي والمخلوق المحدث حتى يتم تحقيق توحيد الربوبية والألوهية والأسماء والصفات .
وبعض السلف رحمهم الله تعالى قالوا : كلمة الحدّ هذه لم ترد لا في كتاب الله ولا في سنة رسوله r , ومن ثم فنحن لا نثبتها , ولا نقول بحد
وإنما نقول : (( على العرش استوى )) , ونثبت لله الصفات , ونقف عند هذا .
إذن انتهينا إلى خلاصة مهمة في هذا الباب مفادها : أن من السلف من لم يطلق إثبات الحد لله ، وكأن عبارة ابن قدامة هنا موحية بهذا القول ، ولهذا قال: (( بلا حد ولا غاية )) لأن هذا اللفظ لم يرد ، لا في كتاب الله ولا في سنة رسوله r .
وبعض السلف أثبتوا الحد لله , لكنه حد لا يعلمه إلا هو , وإنما أثبتوه للرد على الحلولية , وعلى كثير ممن ينكر علو الله سبحانه وتعالى واستواءه على العرش , وليثبتوا البينونة بين الخالق وبين المخلوق .
ونحن نقول : إن لفظ الحد من الألفاظ المجملة , فنستفسر من هذا الذي يثبت لفظ الحد : إن قصد به أن الله يحدُّه شيء فنقول : هذا باطل لأن الله سبحانه وتعالى قد أحاط بكل شيء , و الله سبحانه وتعالى لا يقدر قدره إلا هو .
وإن قصد بلفظ الحدِّ بيان البينونة بين الخالق والمخلوق , وأن الله تعالى العرش استوى , فنقول : المعنى الذي أثبتَّه صحيح , ولكن إثباتك للفظ الحدَّ لم يرد لا في كتاب الله ولا في سنة رسوله r , فنُلحق لفظ الحد بلفظ : الجسم , والجهة , والتحيز ونحو ذلك ونستفصل عن قائلها ؛ فإن أراد معنى صحيحاً قبلنا المعنى , وإن إراد معنى باطلاً رددنا الكل ، ونتوقف في إثبات هذه الألفاظ ، حتى ترد إلى كتاب الله , وإلى سنة رسوله r .
ثم قال الإمام أحمد ـ رحمه الله ـ : (( ليس كمثله شيء وهو السميع البصير)) وهذه قاعدة مشهورة لأهل السنة والجماعة : إثبات الصفات من غير تشبيه , ومن غير تعطيل .
(( ليس كمثله شيء )) ردٌّ على المشبهة , (( وهو السميع البصير )) ردٌّ على المعطلة .
ثم قال : ((ونقول كما قال , ونصفه بما وصف به نفسه , لا نتعدى ذلك ))
ثم قال : (( ولا يبلغه وصف الواصفين )) بمعنى أن الله سبحانه وتعالى هو العظيم , وهو ذو الجلال والإكرام , فإن الواصفين له مهما وصفوه لم يبلغوا المبلغ اللائق به سبحانه وتعالى , فإنه تبارك وتعالى له الأسماء الحسنى والصفات العلى ونحن إنما نعلم بعضاً من هذه الصفات , ونعلم بعضاً من المعاني اللائقة بالله سبحانه وتعالى من هذه الصفات , ولا يستطيع العباد , البشر , القاصرون , أن يصلوا إلى وصف الله سبحانه وتعالىبكل وصف وبكل اسم ثبت له .
لا نستطيع أن نصل في ذلك إلى المبلغ والغاية ولهذا فإن الرسول r أخبرنا أن لله سبحانه وتعالى أسماء استأثر بها تبارك وتعالى في علم الغيب عنده , كما قال r في الدعاء المشهور : (( أسألك بكل اسم هو لك , سميت به نفسك , أو أنزلته في كتابك , أو علمته أحداً من خلقك أو أستأثرت به فيعلم الغيب عندك )) (6) .
فلله أسماء وصفات استأثر الله بها , فمن أين لبشر أن يحيط بذلك ؟ لكن نثبت لله سبحانه وتعالى ما عَلِمْنَا مما ورد في الكتاب والسنة من أسمائه وصفاته كما يليق بجلاله وعظمته .
ثم قال : (( ونؤمن بالقرآن كلِّه ؛ محكمه ومتشابهه , ولا نُزيل عنه صفة من صفاته ؛ لشناعة شنعت , ولا نتعدى القرآن والحديث , ولا نعلم كيف كُنْهَ ذلك , إلا بتصديق الرسول r وتثبيت القرآن )) .
وهذا الكلام دل على عدة أمور :
دل على بعض الأمور التي سبقت , مثل أننا لا نكيف , ولا نعلم كنه الصفة , أي لا نعلم كيفية الصفة وحقيقة صفات الله سبحانه وتعالى ؛ لأن هذه الأمور لا يعلمها إلا الله تبارك وتعالى , ولكن نحن نثبت الصفات لله كما يليق بجلاله وعظمته , أما كيفيتها فلا يعلمها إلا الله .
وكذلك أيضاً ما سبق من أننا لا نتعدى القرآن والحديث فنثبت ما ورد فيهما , ولا نتعدى ذلك .
لكن نقف عند قوله : (( ولا نُزيل عنه صفة من صفاته لشناعة شنعت )) ؛
أي أنه إذا ثبت بالدليل من كتاب الله أو من سنة الرسول r صفة لله , فإننا نثبتها , ولا نرد هذه الصفة أو نتأولها لأجل تشنيع المخالفين , مثل أن يأتي قائل ويقول : إثبات الوجه واليدين والعين لله تجسيم , وتشبيه له بالمخلوقين , ومن أثبت لله الوجه واليدين فقد أثبت أبعاضاً فهو مجسم , فيشنع علينا عندما نثبت هذه الصفات بمثل هذه الشناعات , بأن هذا تشبيه لله بخلقه , أو تجسيم , ونحو ذلك .
فمنهج أهل السنة والجماعة ألا ننظر إلى تشنيع هؤلاء , فنثبت لله ما ثبت ولو شنعوا , فإذا جاءوا وقالوا : إثبات الوجه لله تجسيم , نقول : نحن نثبت لله الوجه , سمِّه تجسيماً , أو تشبيهاً ، سمِّه ما شئت فنحن لا نلتفت إلى قولك .
نحن نثبت لله اليدين كما يليق بجلاله وعظمته , وإذا سميت هذا تشبيهاً وتجسيماً فنحن لا نلتفت إليك , ولن نردّ الصفة لأجل تشنيعك علينا بأننا مجسمة , أو مشبهة , أو حشوية , أو نابتة , أو غير ذلك .
كما أننا مثلاً لا نردُّ محبة أصحاب الرسول r لأجل تشنيع الرافضة حينما يقولون : لا ولاء إلا ببراء , أي : من لم يبغض الصحابة فهو ناصبي .
نقول : حتى لو سميتمونا ناصبة فنحن لا يهمنا هذه الشناعة , فنحن نحب أصحاب النبي r جميعاً .
وبالمقابل لو قال لنا ناصبي : لا تنبغي محبة آل البيت ؛ لأن محبة آل البيت رفضٌ . نقول : حتى لو شنعتم علينا وقلتم : إن محبة آل بيت رسول الله r رفضٌ فلن نخضع لقولكم , بل نحب آل بيت رسول الله r المحبة اللائقة بهم , ولو أنكم شنعتم وسميتم ذلك رفضاً , كما قيل :
إن كان رفضاً حبُّ آل محمد فليشهد الثقلان أني رافضي
ويقول الآخر :
إن كان نصباً حبُّ صحب محمد يشهد الثقلان أني ناصبي
يعني أن العبارات والشناعات لا تغير من حقائق الأمور , فنحبُّ أصحاب الرسول r , ونحب آل بيت رسول الله r , ولو أن هؤلاء سموه نصباً وأولئك سمَّوه رفضاً .
كذلك أيضاً نثبت لله الوجه , واليدين , والاستواء , والنزول , كما يليق بجلاله وعظمته , ولو أن المعطلة سمَّوا هذا تشبيهاً , أو سموه تجسيماً أو غير ذلك .
فلا ينبغي للمتمسك بمنهج أهل السنة والجماعة أن يستسلم لتشنيع هؤلاء . ومثل
ذلك تماماً ما يفعله كثير من الناس اليوم ،إذا رأوا الشاب المسلم الملتزم قالوا : هذا متطرف , متزمت , أصولي , إلى آخره .
فلا ينبغي للإنسان أن يترك سنة الرسول r , أو أن يترك التمسك بما أوجب الله عليه , وأوجب عليه الرسول r لأجل شناعات هؤلاء , إذا كان الذي يرفع ثوبه فوق الكعبين يقال عنه : إنه متطرف , ويستهزئون به ويصفونه بشناعات حتى يترك هذه السنة , نقول لا ينبغي للمسلم أن يلبس ثوباً وينزله تحت الكعبين حتى تزول عنه هذه الشناعة ،وإنما يلتزم هدي الرسولr , ولو شنع المشنعون , وكذا الالتزام بكل سنة الرسول r .
وهكذا فمسيرة أهل الزيغ والضلال على مدار التاريخ متشابهة , منذ عهد
الرسولr وإلى ما شاء الله , في كل وقت يخترعون ألقاباً جيجة يشنعون بها على المتمسكين والمتشبثين بكتاب ربهم وبسنة رسولهم r . والمؤمن الصادق الواثق من نفسه , الواثق من منهجه , هو الذي لا يعبأ بمثل هذه العبارات , ولا بمثل هذه الشناعات , بل يعتز بدينه اعتزازاً قوياً , والله سبحانه وتعالى مؤيده وناصره ومثبته .
(1)تقدم تخريجه ص 35
(2) تقدم تخريجه ص 35
(3) كما دلت الآيات في كتاب الله تعالى على إثبات الرؤية
(4) تقدم تخريجه ص 35
(5) رواه البيهقي في الأسماء والصفات ص427
(6) أخرجه أحمد في المسند (1/391 ) وصححه الألباني وهو في سلسلة الأحاديث الصحيحة رقم (199)