القارئ: بسم الله الرحمن الرحيم ، الحمد لله رب العالمين ، وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين . قال المؤلف رحمنا الله تعالى وإياه:
عن أبي بكرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((ألا أنبئكم بأكبر الكبائر ثلاثا)) . قلنا: بلى يا رسول الله . قال: ((الإشراك بالله وعقوق الوالدين)) . وكان متكئا فجلس فقال: ((ألا وقول الزور ، وشهادة الزور)) . فما زال يكررها حتى قلنا: ليته سكت .
الشيخ: ...سقط ... يتعلق بالقضاء , فالحديث الأول يتعلق بالشهادة , شهادة الزور وقول الزور . والحديث الثاني يتعلق بكيفية القضاء , كيف يقضي القاضي بين اثنين إذا تنازعا .
فأما الحديث الأول فأخبر بأن شهادة الزور من أكبر الكبائر , يقول: ((ألا أنبئكم بأكبر الكبائر)) . قالوا: بلى يا رسول الله . قال: ((الإشراك بالله وعقوق الوالدين)) . وكان متكئا فجلس فقال: ((ألا وقول الزور , ألا وشهادة الزور)) . فمازال يكررها حتى قالوا: ليته سكت .
الكبائر: هي الذنوب الكبيرة التي تحتاج إلى التوبة , فمنها ما لا يغفر إلا بالتوبة كالشرك ، ومنها ما يكون تحت المشيئة كالكبائر التي دون الشرك....
الوجـه الثانـي
... فقوله: ((ألا أنبئكم)) . يعني ألا أخبركم بأكبر الكبائر . قد عرفوا أن الذنوب فيها كبائر وفيها صغائر , وأن الكبائر منها كبير ومنها أكبر , فكأنه أراد أن يخبرهم بالأكبر ، بالأكبر من الكبائر ، بأكبر الكبائر , فلما قالوا: بلى , ابتدأ بإخبارهم , فقال: ((الإشراك بالله)) . لا شك أن الشرك بالله هو أكبر الكبائر ؛ وذلك لأنه يوجب الخلود في النار إن كان شركا أكبر ، أو يسبب دخولها إن كان أصغر , يقول الله تعالى: {إنه من يشرك بالله فقد حرم الله عليه الجنة ومأواه النار} وغير ذلك من الآيات .
والمراد بالشرك هنا أن تجعل العبادة بين الله وبين غيره , أن يجعل العبادة أو بعضها مشتركا بين الخالق وبين بعض المخلوقين , يشرك المخلوق في حق الخالق , يجعل المخلوق شريكا لله , فيدعو الله ويدعو غيره ، ويخاف الله ويخاف غيره ، ويحب الله ويحب غيره , وما أشبه ذلك , وهو الذي ذكره ابن القيم بقوله:
والشرك فاحذره فشرك ظاهر ذا القسم ليس بقابل الغفران
وهو اتخاذ الند للرحمن أيا كان من حجر ، ومن إنسان
يدعوه ، أو يرجوه ، ثم يخافه ويحبه كمحبة الديان
يدعوه أو يرجوه ثم يخافه ويحبه كمحبة الديان
فهذا الشرك أخبر بأنه أكبر الكبائر .
الثاني: عقوق الوالدين ، الوالدان لهما حق كبير على ولدهما ، فالإحسان إليهما يقرن بالتوحيد ، وعقوقهما يقرن بالشرك , كثيرا ما يذكر الله تعالى حق الوالدين بعد حقه , كما في قوله: {أن اشكر لي ولوالديك} , وفي قوله تعالى: {واعبدوا الله ولا تشركوا به شيئا وبالوالدين إحسانا} , وقال تعالى: {وإذ أخذنا ميثاق بني إسرائيل لا تعبدون إلا الله وبالوالدين إحسانا} , لا تعبد إلا الله:هذا التوحيد ، وبالوالدين إحسانا: هذا هو البر ، فأعظم الحسنات التوحيد ، ثم البر ، وأعظم السيئات الشرك ثم العقوق .
والعقوق مشتق من العق ، وهو القطع ، والعاق كأنه قطع الصلة بينه وبين أبويه , فبدل الإحسان أساء إليهما , وبدل البرعقهما , وبدل أداء حقوقهما جحد فضلهما . ولا شك أن للوالدين حق كبير على ولدهما , ولذلك قال تعالى: {وبالولدين إحسانا إما يبلغن عندك الكبر أحدهما أو كلاهما فلا تقل لهما أف ولا تنهرهما وقل لهما قولا كريما واخفض لهما جناح الذل من الرحمة وقل رب ارحمهما كما ربياني صغيرا} تعليم من الله تعالى لكيفيه البر , فنهى بقوله: {لا تنهرهما} ، {ولا تقل لهما أف} , التأفيف أقل ما يتصور من القول السيء ، فعرف بذلك أن عقوق الوالدين من أكبر الكبائر .والأحاديث في ذم العقوق كثيرة معروفة.
وأما قوله: وكان متكئا فجلس . لما تكلم بأول الكلام كان متكئا على جدار ، أو نحوه , ولأهمية ما سوف يذكره استوى جالسا , جلس متربعا وأخذ يكرر قوله: ((ألا وشهادة الزور ، ألا وقول الزوروشهادة الزور)) . أخذ يكرر ذلك , ومع تكراره كأنهم أشفقوا عليه ، ورأوا أنه قد تأثر من الانفعال , حتى قالوا: ليته يسكت , أي: قد شق على نفسه بهذا التأثر, تمنوا أنه يسكت من شدة تكراره ، ومن شدة تأثره . ولا شك أنه لا يتأثر إلا من شيء له أهمية ,وهو دليل على أن قول الزور وشهادة الزور من أكبر الكبائر , ومن الأولى بالاهتمام ، وما ذاك إلا أنه أشفق على أمته أن يقعوا في قول الزور ، أو في شهادة الزور .
الزور: هو الكذب . معروف إلى الآن التزوير , التدليس ، والكذب في أمر من الأمور ، زور فلان على فلان يعني كذب عليه , وكتب عنه أنه قال: كذا ، أو قلد كتابته ، أو نحو ذلك ؛ حتى يظلمه ، ثم يطلق الزور على كل من كذب على غيره ، ولا شك أنه يعم الكذب على الله تعالى ، وعلى رسله , فإنه من أكبر الكبائر , وقد قرنه الله تعالى بالشرك في آية أخرى في سورة الحج , يقول تعالى: {فاجتنبوا الرجس من الأوثان واجتنبوا قول الزور} , اجتنبوا الرجس , الرجس هو الشرك , والزور هو الكذب . وكذلك مدح الذين يتجنبونه بقوله تعالى: {والذين لا يشهدون الزور} , قيل: لا يحضرونه وقيل: لا يشهدون به .
وبكل حال فهذا دليل على عظم الكلمة . مشاهدة الزور هي الشهادة عند القاضي كذبا وزورا وإثما , جعلها من أكبر الكبائر ؛ وما ذاك إلا أنه يترتب عليها مظالم ، فإن القاضي يبني على شهادة الشاهدين , فيحكم بما شهدا به , ومتى كانا كاذبين تحملا ذلك الإثم , فإذا اقتطع من هذا حقا بموجب شاهدين وهما كاذبين فهما الظالمان ، وهما الآثمان ، وهما الكاذبان , وعليهما جرم ذلك الظلم لا على القاضي ؛ لأنه بنى على شهادة غيره .
ولهذا روي عن شريح أحد قضاة الصحابة , كان قاضيا لعلي ولمن بعده , أوصى بعض القضاة بقوله: إن القضاء جمرة ؛ فاجعل بينك وبينها عودين يقيانك بها . فسئل ما هما العودان اللذان تأخذ بهما الجمرة ؟ فقال: الشاهدان . هما اللذان يقبضان هذه الجمرة ، إذا كنت تريد أن تقضي فكأنك تقطع جمرة من هذا لهذا ، فلا تمسها ولكن دع الذي يمسها غيرك ، وهما هذان الشاهدان ، فإذا كانا كاذبين فإنها هي التي تؤثمهما .
وقد وردت الأدلة في ذم شاهد الزور , حتى روي في بعض السنن:((لا تزول قدم شاهد الزور حتى يستوجب النار .. أو حتى يوجب الله له النار)) أي بمجرد شهادته , كأنه لما اقتطع بهذه الشهادة حقا لمسلم عاقبه الله بهذا العذاب , استحقاقه لعذاب النار وبئس القرار .
تساهل الناس في هذه الأزمنة في شهادة الزور ، فصاروا يشهدون بحمية, يشهد أحدهم حمية لقريبه ، أو تعصبا , أو نحو ذلك ، ويشهد بعضهم لمصلحة كأن يبذل له المشهود مالا حتى يشهد معه ، فيأخذ مالا دنيا دانيا مقابل أن يبيع دينه ، وأن يستوجب عذاب الله . وشر الناس من ظلم الناس للناس , لا ينتفع بهذا ، بل ينفع غيره ، ويضر نفسه , فلو فكر في أنه يوصم بأنه كاذب , يوصم بأنه آثم ، يوصم بأنه مزور ، وصمات كبيرة , هذا بعض ما يستحقه .يشتهر بعد ذلك أنه شاهد زور .
ويجب أن يشهر بأمره إذا علم بأنه شاهد زور . ذهب بعض العلماء إلى أنه يطاف به في الأسواق وفي الطرق , ويشهر , يقال: هذا شاهد الزور ، هذا شاهد الزور ؛ حتى يتجنبه الناس ، ويعرفون كذبه ، وأنه قد تعمَّدَ الكذب , فيرتدع الناس حتى لا يشهدوا مثلما شهادته ؛ مخافة الفضيحة ، وكذلك يعرفونه فلا يقبلونَ قوله ، ولا يقبلون معاملتَه ، فيبوء بعد ذلك بالذل والهوان .
يحب أن يتثبت الإنسان , فلا يشهد إلا بما استيقنه ؛ روي أنه صلى الله عليه وسلم قال لرجل: ((ترى الشمس)) ؟ قال: نعم . قال: ((على مثلها فاشهد أو دع)) . أي لا تشهد على شيء تتيقنه كما تتيقن أن هذه هي الشمس إذا طلعت , فلا تشهد وأنت شاك ، أو متوهم , لا تشهد بما لا تعلم . حكى الله عن إخوة يوسف أنهم قالوا: {وما شهدنا إلا بما علمنا وماكنا للغيب حافظين} , ذكروا أن شهادَتهم إنما هي بما وصلت إليه معرفتهم ، وبما رأوه , دون أن يعلموا حقائق الأمور .الشاهد يشهد بما ظهر له , فإن كان متيقنا أقدم ، وإلا أحجم .