حرّر القول في واحدة من المسألتين التاليتين:
2: المراد بالتوفّي في قوله تعالى: {إني متوفّيك ورافعك إليّ}.
اختلف المفسرون في المراد بالوفاة المذكورة في هذه الآية , ومرد أقوالهم إلى قولين :
القول الأول : إن الوفاة في الآية ليست وفاة موت .
واختلف أصحاب هذا القول بعد ذلك في بيان معنى هذه الوفاة على أقوال:
1: انها وفاة نوم , فيكون المعنى : إني منيمك، ورافعك في نومك. وهو قول الأكثرين.
قاله الربيع , حيث قال في قوله تعالى : {إنّي متوفّيك} قال: يعني وفاة المنام: رفعه اللّه في منامه.
قال الحسن: قال رسول اللّه لليهود: إنّ عيسى لم يمت، وإنّه راجعٌ إليكم قبل يوم القيامة.
رواه الطبري عن المثنى عن حدّثنا إسحاق عن حدّثنا عبد اللّه بن أبي جعفرٍ، عن أبيه، عن الرّبيع.
توجيه القول :
النوم والموت أخوان ويطلق كل منهما على الآخر، لذا كان رسول الله ﷺ يقول إذا قام من النوم: "الحمد لله الذي أحيانا بعدما أماتنا وإليه النشور".
قال القاسمي :
لا مانع من تشبيه سلب تصرفه عليه السلام بأتباعه وانتهاء مدته المقدرة بينهم بسلب الحياة , وهذا الوجه ظاهر جدا، وله نظائر في الكتاب العزيز، قال تعالى: ﴿الله يتوفى الأنفس حين موتها والتي لم تمت في منامها﴾ .
قال الزمخشري: (يريد: ويتوفى الأنفس التي لم تمت في منامها، أي: يتوفاها حين تنام، تشبيها للنائمين بالموتى، ومنه قوله تعالى: ﴿وهو الذي يتوفاكم بالليل﴾ حيث لا يميزون ولا يتصرفون، كما أن الموتى كذلك).
2: إن معنى القبض هنا الاستيفاء :
هناك من قال : مستوف شخصك من الأرض , من توفى المال بمعنى استوفاه وقبضه.
وقيل : مستوف أجلك ومميتك حتف أنفك لا أسلط عليك من يقتلك، فالكلام كناية عن عصمته من الأعداء وما هم بصدده من الفتك به عليه السلام لأنه يلزم من استيفاء الله تعالى أجله وموته حتف أنفه ذلك.
ذكر هذا القول الفراء وهو قول ابن قتيبة .
وهو قول مطر الوراق والحسن وابن جريج وكعب الأحبار وجعفر بن الزبير وابن زيد.
قال مطرٍ الوراق، في قول اللّه: {إنّي متوفّيك} قال: متوفّيك من الدّنيا، وليس بوفاة موتٍ.
أخرجه الطبري وابن ابي حاتم عن الحسن بن يحيى عن عبد الرزاق عن معمر عنه
قال ابن جريجٍ : فرفعه اللّه إليه، توفّيه إيّاه، وتطهيره من الّذين كفروا.
رواه الطبري عن القاسم عن الحسين عن حجّاج عنه.
توجيه القول :
معنى الوفاة لغة : القبض، لما يقال: توفّيت من فلانٍ ما لي عليه، بمعنى: قبضته واستوفيته.
قال صاحب الكشاف : مستوفى أجلك، ومعناه أني عاصمك من أن يقتلك الكفار ومؤخر أجلك إلى أجل كتبته لك ومميتك حتف أنفك لا قتلا بأيديهم، عن مطر الوراق قال متوفيك من الدنيا وليس بوفاة موت.
3: الوفاة هنا بمعنى القبض والرفع .
قال ابن زيدٍ : متوفّيك: قابضك، قال: ومتوفّيك ورافعك واحدٌ، قال: ولم يمت بعد حتّى يقتل الدّجّال، وسيموت، وقرأ قول اللّه عزّ وجلّ: {ويكلّم النّاس في المهد وكهلاً} قال: رفعه اللّه إليه قبل أن يكون كهلاً، قال: وينزل كهلا.
رواه الطبري عن يونس عن ابن وهب عنه.
4: إن معنى "متوفيك" متقبل عملك .
ذكره ابن عطية وقال : ووقع في كتاب مكي عن قوم: وهذا ضعيف من جهة اللفظ.
الخامس : إن المراد بالوفاة موت القوى الشهوانية وحظوظ النفس العائقة عن إيصاله بالملكوت.
قال الراغب : أي : آخذك عن هواك، ورافعك إليَّ عن شهوتك، ولم يكن ذلك رفعا مكانيا، وإنما هو رفعة المحل.
وقاله أبو بكر الواسطي , ذكره الرازي عنه.
وهذا القول ضعيف كسابقه , فالأنبياء عليهم السلام عصموا من اتباع الشهوات واستحكام حظوظ النفس فيهم , أما التمتع بالطيبات التي أحلت لهم , فهذا لا يعد من اتباع الشهوات وحظوظ النفس , قال تعالى : {ولقد أرسلنا رسلا من قبلك وجعلنا لهم أزواجا وذرية} , وقال عليه الصلاة والسلام : (حبِّب إليَّ من دنياكم النساء والطيب).
وأول ثلاثة أقوال لا تعارض بينها , فلا مانع من أن الله أنامه ثم قبضه ورفعه إليه كاملا ببدنه وروحه , وهو مع هذا مستوف أجله الذي قد كتبه له كاملا عندما يحين بعد نزوله إلى الأرض في آخر الزمان وقتله المسيح الدجال.
قال كعب الأحبار : ما كان اللّه عزّ وجلّ ليميت عيسى ابن مريم، إنّما بعثه اللّه داعيًا ومبشّرًا يدعو إليه وحده، فلمّا رأى عيسى قلّة من اتّبعه وكثرة من كذّبه، شكا ذلك إلى اللّه عزّ وجلّ، فأوحى اللّه إليه: {إنّي متوفّيك ورافعك إليّ} وليس من رفعته عندي ميّتًا، وإنّي سأبعثك على الأعور الدّجّال، فتقتله، ثمّ تعيش بعد ذلك أربعًا وعشرين سنة، ثمّ أميتك ميتة الحيّ قال كعب الأحبار: وذلك يصدّق حديث رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم حيث قال: كيف تهلك أمّةٌ أنا في أوّلها، وعيسى في آخرها؟.
رواه الطبري عن المثنى عن عبد اللّه بن صالحٍ عن معاوية بن صالحٍ عنه.
القول الثاني : إن المراد بها وفاة الموت .
وهذا قول ابن عباس حيث قال في قوله تعالى : {إنّي متوفّيك} يقول: إنّي مميتك.
أخرجه البخاري.
ورواه الطبري وابن أبي حاتم عن المثنّى عن عبد اللّه بن صالحٍ عن معاوية، عن علي عنه.
قال ابن عطية معلقا على قول ابن عباس : قول ابن عباس رضي الله عنهما: هي وفاة موت لا بد أن يتم، إما على قول وهب بن منبه، وإما على قول الفراء.
وقد فسر ابن عباس رضي الله عنهما كلامه بما أخرجه إسحاق بن بشر وابن عساكر عنه في هذه الآية وهي قوله: ( رافعك ثم متوفيك في آخر الزمان ).
وأيضا تفسيره لقول الله تعالى : ﴿وَإنْ مِن أهْلِ الكِتابِ إلّا لَيُؤْمِنَنَّ بِهِ قَبْلَ مَوْتِهِ﴾ :
﴿قَبْلَ مَوْتِهِ﴾ أيْ مَوْتِ عِيسى عَلَيْهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ.
وجاء عن بعضهم أن الوفاة كانت مؤقتة:
قال وهب بن منبه: توفّى اللّه عيسى ابن مريم ثلاث ساعاتٍ من النّهار حتّى رفعه إليه.
رواه الطبري وابن أبي حاتم عن ابن حميد عن سلمة، عن ابن إسحاق، عمن لا يتهم، عنه.
وأخرجه ابن عساكر
وعلى هذا القول تكون الوفاة مؤقتة ثم رفع عيسى عليه السلام بعدها , وهذا قريب من قول النصارى الذين يزعمون قتله في الرض ثم رفعه غلى السماء !
لذا أورد الطبري بعد أن ذكر قول ابن المنبه قول ابن إسحاق حيث قال: والنّصارى يزعمون أنّه توفّاه سبع ساعاتٍ من النّهار، ثمّ أحياه اللّه.
رواه الطبري عن ابن حميد عن حدّثنا سلمة، عنه.
ومنهم من قال بأن الوفاة ستكون بعد نزول عيسى عليه السلام إلى الأرض في آخر الزمان , وقالو: هذا من المقدّم الّذي معناه التّأخير، والمؤخّر الّذي معناه التّقديم.
قاله قتادة: هذا من المقدّم والمؤخّر أي رافعك إليّ ومتوفّيك.
رواه ابن ابي حاتم عن ابن محمد، عن سعيد بن بشير، عنه.
ونسبه السيوطي قولا لابن عباس فقال :
أخرج إسحاق بن بشر، وابن عساكر من طريق جوهر عن الضحاك عن ابن عباس في قوله {إني متوفيك ورافعك} يعني رافعك ثم متوفيك في آخر الزمان.
وذكر هذا القول الفراء.
وهذا القول لازمه وحاصله مثل القول الأول الذي ذهب بأن الوفاة هنا ليست وفاة موت , فليزم من هذا القول أن عيسى عليه السلام رفع إلى السماء حيا , أما الوفاة فستكون بعد نزوله إلى الأرض آخر الزمان.
الراجح :
جاءت الكثير من النصوص المحكمة التي بينت بأن عيسى عليه السلام لم يمت :
قال تعالى: ﴿وَما قَتَلُوهُ وما صَلَبُوهُ ولَكِنْ شُبِّهَ لَهُمْ﴾
وقال : ﴿وَإنْ مِن أهْلِ الكِتابِ إلّا لَيُؤْمِنَنَّ بِهِ قَبْلَ مَوْتِهِ﴾
قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : ( وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَيُوشِكَنَّ أَنْ يَنْزِلَ فِيكُمْ ابْنُ مَرْيَمَ حَكَمًا مُقْسِطًا ، فَيَكْسِرَ الصَّلِيبَ ، وَيَقْتُلَ الْخِنْزِيرَ ، وَيَضَعَ الْجِزْيَةَ ، وَيَفِيضَ الْمَالُ حَتَّى لَا يَقْبَلَهُ أَحَدٌ ) . رواه مسلم.
عن جَابِر بْن عَبْدِ اللَّهِ قال : سَمِعْتُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ :
( لَا تَزَالُ طَائِفَةٌ مِنْ أُمَّتِي يُقَاتِلُونَ عَلَى الْحَقِّ ظَاهِرِينَ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ . قَالَ : فَيَنْزِلُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، فَيَقُولُ أَمِيرُهُمْ : تَعَالَ صَلِّ لَنَا . فَيَقُولُ : لَا إِنَّ بَعْضَكُمْ عَلَى بَعْضٍ أُمَرَاءُ ، تَكْرِمَةَ اللَّهِ هَذِهِ الْأُمَّةَ ) . رواه مسلم.
وعن أبي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : ( كَيْفَ أَنْتُمْ إِذَا نَزَلَ ابْنُ مَرْيَمَ فِيكُمْ وَإِمَامُكُمْ مِنْكُمْ ) متفق عليه .
وقد احتاج المفسرون إلى تأويل الوفاة لما سبق من النصوص التي دلت إن الله تعالى رفعه إلى السماء من غير وفاة , ولما صح في الأخبار عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم نزوله وقتله الدجال.
وهو ما رجحه كثير من المفسرين، مثل الطبرى والقرطبي والبغوي وابن كثير وغيرهم .
وهو الصحيح المجمع عليه .
قال الشنقيطي في دفع إيهام الاضطراب عن آيات الكتاب :
والجواب عن هذا ( ما يتوهم من ظاهر قوله {متوفيك} وفاة عيسى عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام وقد جاء في بعض الآيات ما يدل على خلاف ذلك) من ثلاثة أوجه:
الأول: أن قوله تعالى: ﴿متوفيك﴾ لا يدل على تعيين الوقت، ولا يدل على كونه قد مضى وهو متوفيه قطعا يوما ما، ولكن لا دليل على أن ذلك اليوم قد مضى، وأما عطفه: ”ورافعك“ إلى قوله: ”متوفيك“، فلا دليل فيه لإطباق جمهور أهل اللسان العربي على أن الواو لا تقتضي الترتيب ولا الجمع، وإنما تقتضي مطلق التشريك.
الوجه الثاني: أن معنى ”متوفيك“ أي: منيمك ”ورافعك إلي“، أي: في تلك النومة.
وقد جاء في القرآن إطلاق الوفاة على النوم في قوله ﴿وهو الذي يتوفاكم بالليل ويعلم ما جرحتم بالنهار﴾ ، وقوله: ﴿الله يتوفى الأنفس حين موتها والتي لم تمت في منامها﴾ .
الوجه الثالث: إن ”متوفيك“ اسم فاعل توفاه إذا قبضه وحازه إليه، ومنه قولهم: توفى فلان دينه، إذا قبضه إليه، فيكون معنى ”متوفيك“ على هذا قابضك منهم إلي حيا.