وبَعْدَمَا أَتَيْنَا عَلَى ذِكْرِ مَا يَجِبُ ذِكْرُه، فَلْنَأْخُذْ فِي شَرْحِ القَصِيدَةِ بَيْتاً بَيْتاً.
بَـانَتْ سُـعَادُ فَقَـلْبِي الْيَـوْمَ مَتْبـولُ - مُـتَيـَّـمٌ إِثْـرَهَا لَـمْ يـُـفْـدَ مـَكْبـُولُ
بَانَتْ: بَعُدَتْ، والبَيْنُ: البُعَادُ. وسُعَادُ: اسْمُ امْرَأةٍ فَلا يَنْصَرِفُ؛ لاجْتِمَاعِ العَلَمِيَّةِ والتَّأْنِيثِ.
"فَقَلْبِي اليَوْمَ مَتْبُولُ": جُمْلَةٌ خَبَرِيَّةٌ. والفَاءُ: لتَعْقِيبِ المَعْلُولِ عَنِ العِلَّةِ، وعَلَى اللُّزُومِ. والمَتْبُولُ: المَغْلُوبُ حُبًّا، يُقَالُ: تَبَلَهُ الحُبُّ تَبْلاً، إِذَا غَلَبَ عَلَى قَلْبِه. وأَصْلُ التَّبْلِ: العَدَاوَةُ والرَّغْمُ، يُقَالُ: تَبَلَتْهُ فُلانَةٌ كَأَنَّها أَصَابَتْ قَلْبَهُ بتَبْلٍ, أي: ذَحْلٍ. و"اليَوْمَ": يُرِيدُ الوَقْتَ الحَاضِرَ، لا بَيَاضَ النَّهَارِ ولا سَوَادَ اللَّيْلِ. و"مُتَيَّمٌ": مُعبَّدٌ مُذلٌّ، وهو خَبَرٌ بَعْدَ خَبَرٍ.
وعِنْدَها: مُتَعَلِّقٌ بِهِ، وهو ظَرْفٌ عَلَى السَّعَةِ. و"لَمْ يُفْدَ": خَبَرٌ آخَرُ وكَذَلِكَ "مَكْبُولُ". والمَكْبُولُ: المُقَيَّدُ. والكَبْلُ: القَيْدُ. ويُرْوَى: "لَمْ يُفْدَ" مِن الفِدَاءِ, أي: لَمْ يُفَكَّ أَسْرُه مِن حُبِّهَا. وإِنْ شِئْتَ جَعَلْتَ جُمْلَةَ " لَمْ يُفْدَ " صِفَةً لـ "مُتَيَّمٌ" يَصِفُ أَنَّ قَلْبَهُ صَارَ بهَذِهِ الأَحْوَالِ.
وَمَـا سُـعَادُ غَـدَاةَ الْبَيْنِ إِذْ رَحَـلُوا إِلاَّ أَغَـنُّ غَضِــيضُ الـطَّـرْفِ مَـكْحُـولُ
يُرِيدُ "وَ مَا هِيَ" فأَقَامَ المُظْهَرَ مُقَامَ المُضْمَرِ للتَّوْكِيلِ، كَمَا قَالَ الشَّاعِرُ:
" أَرَىَ المَوْتَ لا يَسْبِقُ المَوْتَ شَيْءٌ ". والمَحْفُوظُ: " لا أَرَى المَوْتَ يَسْبِقُ المَوْتَ شَيْءٌ ". وهَذَا إِنَّمَا يَكُونُ عِنْدَ التَّشْبِيبِ بالمَحْبُوبِ وتَكْرِيرِ اسمِه؛ الْتِذَاذاً بذِكْرِه وسَمَاعِه, ويَكُونُ ذَلِكَ أَيْضاً في الأَشْيَاءِ الهَائِلَةِ والأُمُورِ المُعَظَّمَةِ المُفَخَّمَةِ، كقَوْلِه تَعَالَى: {القَارِعَةُ مَا الْقَارِعَةُ}. وأَصْلُه مَا هِيَ. و"غَدَاةَ": ظَرْفٌ يَتَعَلَّقُ بِمَا فِي الكَلامِ مِن مَعْنَى التَّشْبِيهِ.
و"إِذْ": بَدَلٌ مِن "غَدَاةَ"؛ بَدَلُ الخَاصِ مِنَ العَامِّ, والاسْتِثْنَاءُ مُفَرَّغٌ، وهي مَعَ " مَا" للحَصْرِ. وأَغَنُّ: خَبَرُ المُبْتَدَأِ، أو صِفَةٌ لمَوْصُوفٍ مَحْذُوفٍ، أي: ظَبْيٌ أَغَنُّ: في صَوْتِه غُنَّةٌ, وهو صَوْتٌ لَذِيذٌ يَخْرُجُ مِنَ الأَنْفِ تَغْلُبُ عَلَيْهِ غُنَّةُ النُّونِ، وهو يُشْبِهُ صَوْتَ الرِّيحِ في الشَّجَرِ المُلْتَفِّ. يُقَالُ: وَادٍ أَغَنُّ إِذَا كَانَ كَذَلِكَ. ومِثْلُه صَوْتُ الذُّبَابِ فِي الغِيَاضِ.
و"غَضِيضُ الطَّرْفِ": مُنْكَسِرُ الطَّرْفِ ذُلاًّ أو حَيَاءً وخَفَراً. والطَّرْفُ الغَضِيضُ: المَغْضُوضُ الَّذِي لَيْسَ بتَامِّ النَّظَرِ، وغَضُّ الطَّرْفِ: تَنْكِيسُهُ وتَرْكُ الاسْتِفْهَامِ والتَّحْدِيقِ.
وأَمَّا كَفُّ البَصَرِ: فَهُو مَنْعُهُ بالكُلِّيَّةِ. ومِنْهُ قَوْلُه تَعَالَى: {قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ}. أي: يَتْرُكُوا التَّحْدِيقَ.
ولَمْ يُصِبْ مَن جَعَلَ "مَن" صِلَةً؛ لأَنَّ البَصَرَ يُغَضُّ عَنِ المَحَارِمِ، ويُطْلَقُ فِيمَا عَدَا ذَلِكَ، وَلَمْ يُنْهَ عَنْ رُؤْيَةِ الشَّبَحِ، وإِنَّمَا نُهِيَ عَنْ تَلَمُّحِ المَحَاسِنِ، وتَأَمُّلِ التَّثَنِّي والمَعَاطِفِ، والقَلْبُ مُقْبِلٌ والنَّفْسُ صَبَّةٌ، فأَمَّا والقَلْبُ مُعْرِضٌ مَشْغُولٌ بذِكْرِ اللَّهِ سُبْحَانَهُ، والبَصَرُ إِنَّمَا يَقَعُ عَلَى الشَّبَحِ والشَّخْصِ، فَلَيْسَ ذَلِكَ دَاخِلاً في النَّهْيِ. والمَكْحُولُ فِي النَّاسِ: أَكْحَلُ العَيْنَيْنِ بالإِثْمِدِ، والظِّبَاءُ تُوصَفُ بالكُحْلِ، والنِّسَاءُ تُمْدَحُ بذَلِكَ. والكَحَلُ: سَوَادُ الهُدْبِ خِلْقَةً، والظِّبَاءُ كَذَلِكَ. ويُقَالُ: مِن الكَحَلِ عَيْنٌ كَحِيلٌ، ومِنَ الكُحْلِ عَيْنٌ كَحْلَةٌ.
تَجْلُو عـَـوَارِضَ ذِي ظَلْمٍ إِذَا ابْتَسَـمَتْ كَأَنـَّهُ مُـنـْهَلٌ بالــرَّاحِ مَعْــلُـولُ
تَجْلُوا: تَكْشِفُ. والعَوَارِضُ: مَا بَعْدَ الأَنْيَابِ؛ لأَنَّهَا في عَرْضِ الوَجْهِ، أي: تَكْشِفُ عَنْ عَوَارِضِها بالابْتِسَامِ, وهِيَ الضَّوَاحِكُ. ويُرْوَى: غَوَارِبَ, وغَوَارِبُ كُلِّ شَيْءٍ: أَعْلاهُ.
يُرِيدُ أَنَّ ابْتِسَامَهَا بإِمْعَانٍ، وذَلِكَ مِن أَمَارَاتِ الهَشَاشَةِ والسُّرُورِ. والظَّلْمُ: بَرِيقُهَا وصَفَاؤُهَا، وذَلِكَ أَنَّ الأَسْنَانَ الفَلَجَةَ مُنْطَفِئَةٌ بَشِعَةُ المَنْظَرِ كأَسْنَانِ المَرْضَى والمَوْتَى، وقِيلَ: الظَّلْمُ: رِقَّةُ الأَسْنَانِ وشِدَّةُ بَيَاضِهَا.
و"إِذَا ابْتَسَمَتْ". أي: حِينَ ابْتِسَامِهَا، وهو مُتَعَلِّقٌ "بتَجْلُو", ولا يُخْبَرُ عَنْ ذَلِكَ كَمَا يُخْبَرُ عَنْهُ مَن لا حِنْكَةَ عِنْدَهُ. والضَّمِيرُ فِي "كَأَنَّهُ" يَرْجِعُ إِلَى الثَّغْرِ. وقَوْلُه: "مُنْهَلٌ.. مَعْلُولُ": مَعْنَاهُ: سُقِيَ مَرَّةً بَعْدَ أُخْرَى، فيَكُونُ إِطْرَاءً لَهُ, وَأصَفَى لجَوْهَرِه. والنَّهَلُ: الشُّرْبُ الأَوَّلُ. العَلَلُ: الشُّرْبُ الثَّانِي, ومَفْعُولُ " مَعْلُولُ " مَحْذُوفٌ دَلَّ عَلَيْهِ الأَوَّلُ. وجَعَلَ نَهَلَهُ وعَلَلَهُ مِن الرَّاحِ وَهِيَ الخَمْرُ؛ ليَدُلَّ مَعَ حُسْنِ المَنْظَرِ عَلَى طِيبِ النَّكْهَةِ ولَذَاذَةِ طَعْمِ الرِّيقِ جَمِيعاً. والمعنى: أَنَّها تَكْشِفُ بالابْتِسَامِ ثَغْراً هَذِهِ صِفَتُهُ.
شـُجَّتْ بـذِي شَـبَمٍ مِنْ مَــاءِ مَحْنِيَةٍ صَـافٍ بأَبْــطَـحَ أَضْـحَـى وهـو مَشْمُولُ
شُجَّتْ: مُزِجَتْ. وأَصْلُ شَجَّ: قَطَعَ وفَرَّقَ، يُقَالُ: شَجَجْتُ الخَمْرَ، وقَتَلْتُهَا، وشَعْشَعْتُهَا: إِذَا مَزَجْتَهَا، كأَنَّكَ كَسَرْتَ سَوْرَتَهَا بالمِزَاجِ. وقَوْلُه: بذِي شَبَمٍ: أي: ذِي بَرْدٍ، فالشَّبَمُ بفَتْحِ البَاءِ: البَرْدُ، والشَّبِمُ بكَسْرِهَا: البَارِدُ. والمَحْنِيَةُ: مَفْعِلَةٌ مِن حَنَوْتُ أَحْنُو إِذَا عَطَفْتَ، وأَصْلُه مَحْنُوَةٌ, فقُلِبَتِ الوَاوُ يَاءً لتَصِحَّ الكَسْرَةُ، ومَاؤُهَا يَكونُ أَصْفَى وأَرَقَّ.
والأَبْطَحُ: مَسِيلٌ وَاسِعٌ فيه دَقِيقُ الحَصَا، والجَمْعُ الأَبَاطِحُ والبِطَاحُ أَيْضاً عَلَى غَيْرِ قِيَاسٍ. وتَبَطَّحَ السَّيْلُ: اتَّسَعَ فِي البَطْحَاءِ. ومَاءُ الأَبْطَحِ أَفْضَلُ مِياهِ المَطَرِ, ولا سِيَّما إِذَا كَانَ بمَحْنِيَةٍ.
وقَوْلُه: " أَضْحَى وهو مَشْمُولُ. " أي: باكَرَتْهُ الشَّمَالُ، وذَلِكَ أَفْضَلُ لَهُ، فإِنَّ الشَّمَالَ فِي أَوَّلِ النَّهَارِ أَبْرَدُ مَا يَكُونُ، والوَاوُ فِي "وهو" واوُ الحَالِ.
وأَضْحَى: صِفَةُ المَاءِ، ولَيْسَتْ أَضْحَى هذه مِن أَخَواتِ كَانَ, وإِنَّمَا هِيَ فِعْلٌ تَامٌّ بمَعْنَى دَخَلَ وَقْتَ الضُّحَى. والمَعْنَى: " أَنَّ الرَّاحَ التي أَنْهَلَ بِهَا ظَلْمَ هذه المَرْأَةِ وعَلَّ مُـزِجَتْ بماءٍ هَذِهِ صِفَتُهُ ".
تـَنْـفِي الرِّيَاحُ القَذَى عَنْهُ وأَفْرَطَـهُ مِن صَـوْبِ سَــارِيـَةٍ بَيــضٌ يــَعَالِـيلُ
أَخَذَ يَزِيدُ المَاءَ صِفَةً بأَنَّ الرِّيحَ تَنْفِي عَنْهُ الأَخْبَاثَ. والقَذَى: مَا يَعْلُو المَاءَ. وقَوْلُه: " أَفْرَطَهُ مِن صَوْبِ سَارِيَةٍ ". أي: مَلأَهُ مِن صَبِّ سَحَابَةٍ أَتَتْ لَيْلاً. والسُّرَى: سَيْرُ اللَّيْلِ. والتَّأْوِيلُ: سَيْرُ النَّهَارِ. ويُرْوَى: " مِنْ صَوْبِ غَادِيَةٍ"، وَهِيَ الجَائِيَةُ أَوَّلَ النَّهَارِ، ومَطَرُ أَوَّلِ النَّهَارِ أَفْضَلُ مَطَرٍ, وكَذَلِكَ مَطَرُ آخِرِ اللَّيْلِ. والغَادِيَةُ: في مَوْضِعِ الرَّفْعِ؛ لأَنَّهَا فَاعِلُ المَصْدَرِ وهو الصَّوْبُ.
يُقَالُ: صَابَ السَّحَابُ يَصُوبُ صَوْباً، وسُمِّيَ الصَيِّبُ مِن ذَلِكَ. والبَيضُ: جَمْعُ بَيْضَاءَ, وهي فَاعِلُ "أَفْرَطَ". واليَعَالِيلُ: السَّحَائِبُ البِيضُ, واحِدُهَا يَعْلُولٌ, ومَطَرُهَا يَكُونُ أَصْفَى وأَلْطَفَ،وهو يَفَاعِيلُ مِنَ العَلَلِ وهو الشُّرْبُ الثَّانِي.
قَالُوا: واليَعَالِيلُ: سَحَابٌ بِيضٌ رَوِيٌّ. يُقَالُ: ثَوْبٌ يَعْلُولٌ إِذَا عُلَّ بالصِّبْغِ وأُعِيدَ عَلَيْهِ مَرَّةً بَعْدَ أُخْرَى. وأَفْرَطَهُ: يَحْتَمِلُ مَعْنَيَيْنِ: أَحَدُهما: مَلأَهُ, مِن قَوْلِهِم: أَفْرَطْتُ القِرْبَةَ.
[والوَجْهُ الثَّانِي أَنْ يَكُونَ أَفْرَطَهُ بمَعْنَى تَرَكَهُ، يُقَالُ: أَفْرَطْتُ القَوْمَ]. إِذَا تَرَكْتَهُمْ ورَاءَكَ. ومِن: ((أَنَا فَرْطُكُمْ عَلَى الحَوْضِ)). أي: السَّحَائِبُ تَرَكَتِ الأَبْطَحَ مُفْعَماً.