تفسير قوله تعالى: {يُرِيدُ اللّهُ لِيُبَيِّنَ لَكُمْ وَيَهْدِيَكُمْ سُنَنَ الَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ وَيَتُوبَ عَلَيْكُمْ وَاللّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (26)}
علوم الآية :
الوقف :
الوقف في قوله ( ويتوب عليكم ) :
وقف حسن ، ذكره السَّجَاوَنْدِيُّ ، والأشموني .
مناسبة الآية :
الإشارة إلى ما سبق ذكره من آيات الميراث وأحوال النكاح الذي كان فيه البيان والهداية ، وهذا من خلاصة ما ذكره البقاعي .
مقصد الآية :
الإخبار والبيان عن الذي أحله وحرمه لنا من الشرائع ، وهو حاصل ماذكره ابن عطية وابن كثير.
المسائل التفسيرية :
معنى الإرادة :
لغة : المشيئة ، ذكر ذلك الجوهري .
وهو العزم والقصد ، كما ذكر ابن عاشور .
المراد بالإرادة في الآية :
الإرادة الشرعية ، ذكره ابن عاشور وغيره .
دلالة صيغة المضارع في قوله ( يريد ) :
تفيد التجدد والاستمرار ، ذكره ابن عاشور .
وذكر الزجاج أنها تفيد الاستقبال .
متعلق الفعل ( يريد ) :
فيه قولان :
القول الأول : أن متعلق الفعل هو التبيين ، وهو مذهب الكوفيين ، و ذكره أبو حيان.
وعلى هذا القول َاللَّامُ هِيَ النَّاصِبَةُ بِنَفْسِهَا لَا أَنْ مُضْمَرَةٌ بَعْدَهَا.
القول الثاني : أن متعلق الفعل محذوف ، وهو مذهب البصرين ، ذكره أبوحيان .
وقال ابو حيان : وَلَا يَجُوزُ عِنْدَهُمْ أَنْ يَكُونَ مُتَعَلِّقُ الْإِرَادَةِ التَّبْيِينَ، لِأَنَّهُ يُؤَدِّي إِلَى تَعَدِّي الْفِعْلِ إِلَى مَفْعُولِهِ الْمُتَأَخِّرِ بِوَسَاطَةِ اللَّامِ.
الراجح : رجح أبو حيان القول الأول .
نوع اللام في قوله ( ليبين ) :
اختلفوا فيه على أقوال :
القول الأول : أنها لام الجر ، وهو قول ذكره ابن عطية .
وهذا القول ضعفه ابن عطية لأن لام الجر لا تدخل إلا على الأسماء .
القول الثاني : أنها لام زائدة ، ولها معنى لام التعليل ، وقول قول أبو البقاء وذكر ذلك النحاس والزمخشري وغيره .
القول الثالث :أنها لام كي ، وهو قول الفراء وذكره ابن عطية .
وهذا القول ضعفه ابن عطية لأنه يلزمه تقدير أن ، لدخولها على الأسماء .
القول الرابع : اللام بمعنى أن ، وهو قول جماعة من أهل اللغة واختاره ابن جرير ، وضعفه الزجاج وابن عطية .
وهذا القول يعتبرون أن ( أن ) مصدرية ، و يحتجون بالنصوص الأخرى ، كقوله تعالى : (يُرِيدُونَ أَنْ يُطْفِؤُا نُورَ اللَّهِ بِأَفْواهِهِمْ) وقوله : (يُرِيدُونَ لِيُطْفِؤُا نُورَ اللَّهِ بِأَفْواهِهِمْ) .
الراجح:
أن القول الثاني والثالث ، محتملة ، وأما بقية الأقوال ففيها ضعف ، ورجح ابن عاشور أيضا القول الثاني ، وهو قول سيبويه أيضا ، وَمَفْعُولُ الْفِعْلِ الَّذِي قَبْلَهَا مَحْذُوفٌ يُقَدَّرُ بِالْقَرِينَةِ، أَيْ يُرِيدُ اللَّهُ التَّحْلِيلَ وَالتَّحْرِيمَ لِيُبَيِّنَ.
الغرض من زيادة اللام في قوله ( ليبين ) :
للتأكيد على إرادةِ التَّبيينِ، وكذلك لتأكيدِ معنى الاستقبال اللَّازم للإرادة ، وهو حاصل ماذكره الزمخشري والبيضاوي .
المراد بالبيان في الآية :
بيان الحلال والحرام ، ذكره ابن كثير .
معنى الهداية :
الارشاد والدلالة ، وهو حاصل ما ذكره الزجاج و ابن عطية .
هنا في هذه الآية لا يراد بها إلا الارشاد بسبب القرينة هنا وهي قوله ( سنن ) أي الطرق ، وهذا خلاصة ما ذكره ابن عطية .
معنى سنن :
لغة : طرق ، وذكره الزجاج وابن عطية وابن كثير .
قال الراغب الأصفهاني : السنن: جمع السنة أي الطريقة المستقيمة.
وأصلها من سن الماء، وعنه استُعير من سن السيف
لما كان يشبه عند صقله بالماء.
المراد بالسنن في الآية :
الطرائق الحميدة ، والشرائع التي يحبها الله ويرضاه ، ذكره ابن كثير ,
المراد بقوله ( من قبلكم ) :
المؤمنون جميعا من الأنبياء والذين اتبعوهم من قبل ،وهو حاصل ما ذكره الزجاج وابن عطية .
أوجه التماثل في هدايتنا مع الأمم السابقة :
ذكر ابن عطية وجهان :
الوجه الأول : من جهة مخطابتنا في القصص أمرا ونهيا كخطابهم في القصص ، وشرع لنا كما شرع لهم ، وإن اختلفت الأحكام .
الوجه الثاني : في السمع والطاعة فسمعنا وأطعنا كما سمعوا وأطاعوا .
نوع الواو في قوله ( ويتوب ) :
واو عطف ذكره النحاس وغيره .
معنى التوبة :
هي رجوعه به عن المعاصي إلى الطاعات ، ذكره ابن عطية .
المراد بالتوبة :
من الإثم والمحارم ، ذكره ابن كثير .
معنى ( عليم ) :
بموضع السنن و المصالح وبالشرائع ، ذكره ابن عطية .
معنى (حكيم ):
مصيب بالأشياء مواضعها بحسب الحكمة والإتقان ، ذكره ابن عطية .
دلالة استعمال صيغة ( عليم ) ( حكيم ) :
للدلالة على المبالغة والكمال ، وهو حاصل ما ذكره أبو السعود .
مناسبة ختم الآية بقوله ( عليم حكيم ) :
ذكر ابن عطية مناسبتها ببداية الآية فقال :
عليمٌ هنا بحسب ما تقدم من سنن الشرائع وموضع المصالح وحكيمٌ أي مصيب بالأشياء مواضعها بحسب الحكمة والإتقان .
تفسير قوله تعالى: {وَاللّهُ يُرِيدُ أَن يَتُوبَ عَلَيْكُمْ وَيُرِيدُ الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الشَّهَوَاتِ أَن تَمِيلُواْ مَيْلاً عَظِيمًا (27)}
علوم الآية :
الوقف :
الوقف في قوله ( عليكم ) :
وقف حسن ، ذكره السجاوندي والأشموني .
الوقف في قوله ( عظيما ) :
تام ، ذكره الأشموني .
القراءات:
القراءة في قوله ( ميلا ) :
القراءة الأولى :
«ميلا» بسكون الياء، وهي قراءة الجمهور .
وهذه القراءة على أنها ميلا من الميل في اللغة .
القراءة الثانية :
«ميلا» بفتح الياء، وهي قراءة الحسن بن أبي الحسن ، ذكره ابن عطية وغيره .
لم أجد هذه القراءة .
الصواب : هي القراءة الأولى وهي قراءة الجمهور لان القراءة الأخرى لم تثبت .
مناسبة الآية :
هذه الآية تقوي الإخبار الأول ، ذكره ابن عطية
مقصد الآية :
-الدلال على الطاعات التي يكون فيها مغفرة للذنوب ،وهو حاصل ماذكره الزجاج .
-والإخبار واظهار فساد إرادة متبعي الشهوات ، وهو حاصل ما ذكره ابن عطية .
سبب نزول الآية :
كانت اليهود تزعم أن نكاح الأخت من الأب حلال من الله فأنزل الله هذه الآية، وهذا قول مقاتل بن حيان .
وقول مقاتل بن حيان أخرجه ابن أبي حاتم في تفسيره تفسيره من طريق بكير بن معروف عن مقاتل بن حيان .
المسائل التفسيرية :
معنى الواو في قوله ( والله يريد ) :
واو استئنافية ، ذكره النحاس .
الغرض من تقديم إرادة الله :
قدمت إرادة الله توطئة ، مظهرة لفساد إرادة متبعي الشهوات ، ذكره ابن عطية .
الغرض من تكرار الإرادة :
تقوية للإخبار الأول ، وليس المقصد في هذه الآية إلا الإخبار عن إرادة الذين يتبعون الشهوات ،ذكره ابن عطية .
وذكر السمين الحلبي ضعف هذا القول، و بين عدم وجود تكرار في الاية ، لأن الإرادة الأولى متعلقها تختلف عن متعلق الإرادة الثانية .
فقال : لا تكرار في الآية؛ لأنَّ تعلُّقَ الإِرادة بالتوبة في الأولِ على جهة العِلَّيَّة، وفي الثاني على جهةِ المفعولية، فقد اختلف المتعلَّقان.
معنى ( التوبة ) :
سبق ذكره في الآية السابقة .
المراد بقوله ( أن يتوب عليكم) في هذه الآية :
أن يكون سببا للتوبة والمغفرة عن سالف الذنوب .
معنى يتبعون الشهوات :
يتغلب عليهم شهواتهم ، ذكر ذلك ابن عاشور .
معنى الشهوات :
في اللغة جمع شهوة ، وتطلق في اللغة على رغبات النفس وميلولها .
قال الفيومي في المصباح المنير : الشَّهْوَةُ اشْتِيَاقُ النَّفْسِ إلَى الشَّيْءِ وَالْجَمْعُ شَهَوَاتٌ وَاشْتَهَيْتُهُ فَهُوَ مُشْتَهًى وَشَيْءٌ شَهِيٌّ مِثْلُ لَذِيذٍ.
وقال ابن منظور : شَهِيَ الشيءَ وشَهاهُ يَشْهاهُ شَهْوَةً واشْتَهَاهُ وتَشَهَّاهُ: أَحَبَّه ورَغِب فِيهِ.
المراد بالشهوات :
اختلفوا فيه على أقوال :
القول الأول :الزنا ، وهو قول ابن عباس و مجاهد .
وقول ابن عباس عباس أخرجه ابن المنذر في تفسيره (2/657) عن أَبُو مُعَاوِيَةَ عَنْ رَجُلٍ عَنِ الْحَكَمِ عَنْ مُجَاهِدٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ.
والحديث فيها جهالة ، فلم يذكر من الرجل .
وقول مجاهد أخرجه مسلم بن خالد الزنجي في تفسيره وابن جريرفي تفسيره (6/621) وابن أبي حاتم في تفسيره (3/925) وعبد الرحمن الهمذاني في تفسيره من طرق عن ابن أبي نجيحٍ عن مجاهدٍ.
وهذا القول مبني على بعض معانيها اللغوية .فالشهوة هنا يقصد نوع من أنواع الشهوات المحرمة وهو الزنا .
القول الثاني : عموم أنواع الشهوات المذمومة ، وهو ما ذكره ابن جرير .
الراجح : عموم الشهوات المذمومة ، لعدم وجود مخصص في الآية ، ولوجود أل التعريف ، فيعم ، فيشمل الكل ، لقوله تعالى : ( زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِ مِنَ النِّسَاءِ وَالْبَنِينَ وَالْقَنَاطِيرِ الْمُقَنطَرَةِ مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَالْخَيْلِ الْمُسَوَّمَةِ وَالْأَنْعَامِ وَالْحَرْثِ ۗ ذَٰلِكَ مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا ۖ وَاللَّهُ عِندَهُ حُسْنُ الْمَآبِ)، فذكرت الآيات أنواع الشهوات المباحة ، ولكن عندما قال تعالى : ( فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ أَضَاعُوا الصَّلاةَ وَاتَّبَعُوا الشَّهَوَاتِ فَسَوْفَ يَلْقَوْنَ غَيًّا) ، فهنا ذكر في صيغة الذم والوعيد فدل على أنه المقصود هو الشهوات المحرمة ، في الحديث الصحيح الذي وراه مسلم : (وحُفَّت النار بالشهوات) ، فهنا أيضا يقصد الشهوات المذمومة ؛ لأن الآية في سياق الذم ، فقال ( تميلوا ميلا عظيما ) ، أي أنه ليس بالميل العادي بل الميل العظيم عن القصد .
المراد بمتبعي الشهوات :
اختلفوا فيه على أقوال :
الأول : الزناة ، وهو قول ابن عباس ومجاهد .
وقول ابن عباس أخرجه ابن المنذر في تفسيره (2/657) عن أَبُو مُعَاوِيَةَ عَنْ رَجُلٍ عَنِ الْحَكَمِ عَنْ مُجَاهِدٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ.
وقول مجاهد أخرجه مسلم بن خالد الزنجي في تفسيره وابن جريرفي تفسيره (6/621) وابن أبي حاتم في تفسيره (3/925) وعبد الرحمن الهمذاني في تفسيره من طرق عن ابن أبي نجيحٍ عن مجاهدٍ.
والحديث فيها جهالة ، فلم يذكر من الرجل .
وهذا القول مبني على تخصيص ذكر بعض أفراد متبعي الشهوات .
ووجه هذا القول أيضا أن الآيات السابقة تتكلم عن النكاح ، وهو الشهوة المباحة وذكر بعدها الشهوة المحرمة وهو الزنا فيكون على هذا أن متبعي الشهوات هم الزناة .
وأيضا هذا القول مبني على ذكر بعض أنواع متبعي الشهوات وهم الزناة .
الثاني : اليهود والنصارى ، وهو قول السدي .
وأما قول السدي فأخرجه ابن جرير في تفسيره (6/621)وابن أبي حاتم في تفسيره (3/925) عن أسباطٌ، عن السّدّيّ.
والسدي منهم من وثقه ومنهم من ضعفه ،وثّقه الإمام أحمد في رواية أبي طالب والمروذي، والجمهور على أنه صالح الحديث ، وفي التفسير هو من أهل المعرفة . قال العجلي: (ثقة عالم بالتفسير، راوية له)، قال النسائي في الكنى: (صالح)، وقال أبو زرعة: (ليّن)، وقال ابن عدي بعد أن عرض أقوال من وثّقه ومن ضعّفه: (وَهو عندي مستقيم الحديث صدوق لا بأس به).
وأسباط بن نصر مختلف فيه، وثّقه يحيى بن معين، وضعّفه الإمام أحمد، وروايته عن السدي في التفسير أكثرها من كتاب.
ولكن هذا الاسناد صحيح لغيره كما ذكر في النسخ التفسيرية .
وهذا القول مبني على ذكر بعض أفراد متبعي الشهوات .
ووجه هذا القول أيضا وهو سياق الآيات التي بعد ذلك التي تكلمت عن أهل الكتاب ، ففي قوله تعالى : ({أَلَمْ تَرَ إِلَى الذين أُوتُواْ نَصِيباً مِّنَ الكتاب يَشْتَرُونَ الضلالة وَيُرِيدُونَ أَن تَضِلُّواْ السبيل}، فكان هذا مبينا لما كان مجملا في أولها .
الثالث : اليهود خاصة ، وهو قول مقاتل بن حيان .
وقول مقاتل بن حيان أخرجه ابن أبي حاتم في تفسيره من طريق بكير بن معروف عن مقاتل بن حيان .
وبكير بن معروف ثقة ، وقد ذكره ابن حبان في الثقات .
وهذا القول مبني على سبب نزول هذه الآية ، حيث كانت اليهود تزعم أن نكاح الأخت من الأب حلال من الله فأنزل الله هذه الآية.
الرابع : المجوس ، وهو قول ذكره البغوي وغيره .
وهذا القول مبني على ذكر بعض أفراد الذين يتبعون الشهوات، ومبني على سبب نزول الآية التي قيل فيها .
قال البغوي : كانوا يحلون نكاح الأخوات من الأب وبنات الأخ وبنات الأخت، فلما حرمهنّ اللَّه قالوا: فإنكم تحلون بنت الخالة والعمة، والخالة والعمة عليكم حرام، فانكحوا بنات الأخ والأخت، فنزلت.
لم أجد هذا السبب في النزول في المجوس .
الخامس : كل متبع شهوة في دينه ، وهو قول ابن زيد .
وقول ابن زيد أخرجه ابن جرير في تفسيره ( 6/621) عن ابن وهب عن ابن زيد .
ابن زيد ضعيف ، قال عنه الذهبي : لين ، وذكره ضعفه أيضا العقيلي في الضعفاء .
وهذا القول مبني على عموم اللفظ بصيغة الجمع في قوله ( يتبعون ) ، فعم جميع الأفراد ،سواء يهود أو نصارى أو أهل الفسق .
الراجح : الراجح عموم جميع الأقوال دون تخصيص لعدم وجود مخصص لها لفرد دون آخر ، ورجح ها القول ابن جرير وغيره ، وأيضا في قوله ( الشهوات ) : أل التعريف تفيد العموم ، ولم يخصص نوع دون دون من الشهوات فيدل على العموم ، كما قال تعالى : ( زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِ مِنَ النِّسَاءِ وَالْبَنِينَ وَالْقَنَاطِيرِ الْمُقَنطَرَةِ مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَالْخَيْلِ الْمُسَوَّمَةِ وَالْأَنْعَامِ وَالْحَرْثِ ۗ ذَٰلِكَ مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا ۖ وَاللَّهُ عِندَهُ حُسْنُ الْمَآبِ) ، ومنه قوله تعالى : ( ﴿ فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ أَضَاعُوا الصَّلَاةَ وَاتَّبَعُوا الشَّهَوَاتِ فَسَوْفَ يَلْقَوْنَ غَيًّا ﴾ [مريم: 59].
وبقية الأقوال كلها من قبيل الأمثلة على متبعي الشهوات .
دلالة إضافة الاتباع إلى الشهوات :
اتباع الشهوات دليل على اتباعهم الشيطان ، وهو حاصل ما ذكره ابن كثير .
ووجه هذا القول هو دلالة النصوص الأخرى التي تذكر عن أن اتباع الباطل هو اتباع للشيطان وخطواته ، فقال تعالى : (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ ۚ وَمَنْ يَتَّبِعْ خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ فَإِنَّهُ يَأْمُرُ بِالْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ ۚ) ، وقوله تعالى : (الشَّيْطَانُ يَعِدُكُمُ الْفَقْرَ وَيَأْمُرُكُم بِالْفَحْشَاءِ ۖ) ، وقال أيضا : (أَلَم أَعهَد إِلَيكُم يبَنِى ءادَمَ أَن لاَّ تَعبُدُوا الشَّيطَـانَ إِنَّهُ لَكُم عَدُوُّ مٌّبِينٌ وَأَنِ اعبُدُونِى هَـاذَا صِراطٌ مٌّستَقِيمٌ} [يس: 60، 61].
معنى الميل :
العدل عن القصد والحق إلى الباطل ، وهذا حاصل ماذكره الزجاج وابن عطية .
المراد بالميل العظيم :
اختلفوا في المراد على أقوال :
القول الأول : أن تكونوا مثلهم تزنون كما يزنون. ،وهو قول مجاهد .
وقول مجاهد أخرجه مسلم بن خالد الزنجي في تفسيره وابن جريرفي تفسيره (6/621) وابن أبي حاتم في تفسيره (3/925) وعبد الرحمن الهمذاني في تفسيره من طرق عن ابن أبي نجيحٍ عن مجاهدٍ.
والحديث فيه جهالة لعدم ذكر الرجل .
ووجه هذا القول على من قال أن الشهوات هو الزنا فيكون الميل بالوقوع في الباطل بشكل شديد وهو الزنا .
القول الثاني : استحلال نكاح الأخوات ،وهو قول السدي ومقاتل بن حيان .
وأما قول السدي فأخرجه ابن جرير في تفسيره ( 6/621) عن أسباطٌ، عن السّدّيّ.
والسدي منهم من وثقه ومنهم من ضعفه ،وثّقه الإمام أحمد في رواية أبي طالب والمروذي، والجمهور على أنه صالح الحديث ، وفي التفسير هو من أهل المعرفة . قال العجلي: (ثقة عالم بالتفسير، راوية له)، قال النسائي في الكنى: (صالح)، وقال أبو زرعة: (ليّن)، وقال ابن عدي بعد أن عرض أقوال من وثّقه ومن ضعّفه: (وَهو عندي مستقيم الحديث صدوق لا بأس به).
وأسباط بن نصر مختلف فيه، وثّقه يحيى بن معين، وضعّفه الإمام أحمد، وروايته عن السدي في التفسير أكثرها من كتاب.
ولكن هذا الاسناد صحيح لغيره كما ذكر في النسخ التفسيرية .
وأما قول مقاتل بن حيان فأخرجه ابن أبي حاتم في تفسيره (3/926 ) عن عَنْ بُكَيْرِ بْنِ مَعْرُوفٍ، عَنْ مُقَاتِلِ بْنِ حَيَّانَ.
وهذا القول مبني على أن الآية نزلت في نكاح الأخوات .
القول الثالث ، ترك أمر الله وترك الدين ، وهو قول ابن زيد .
وهذا القول مبني على معنى الميل في اللغة هو العدول عن القصد ، والعدل عن الصراط المستقيم بترك بأمر أمر الله أو بترك الدين كله .
الراجح :
أنها تشمل كل الأقوال ، فلا تعارض بينها ، فيمكن حمل الأقوال جميعها ، وأن الميل العظيم هو في أي أنواع المعاصي أو في كل المعاصي أو في ترك الدين كله ، ويؤيد ذلك أيضا قوله تعالى : ( ولن ترضى عنك اليهود ولا النصارى حتى تتبع ملتهم ) .
تفسير قوله تعالى: {يُرِيدُ اللّهُ أَن يُخَفِّفَ عَنكُمْ وَخُلِقَ الإِنسَانُ ضَعِيفًا (28)}
الوقف :
الوقف في قوله ( أن يخفف عنكم ) :
وقف حسن ، ذكره السجاوندي والأشموني .
الوقف في قوله ( عنكم ) :
قولان :
الأول : كاف ، وذكره الأشموني .
ومبني على قراءة ضم الخاء .
الثاني : الوصل ، وذكره الأشموني .
وهذا مبني على قراءة فتح الخاء ( خلق ) ، لأن الكلام واحد .
الصواب أن القراءة الثانية لم تثبت .
الوقف في قوله ( ضعيفا ) :
وقف تام ، ذكره الأشموني .
تام للابتداء بياء النداء .
القراءات :
القراءة في قوله ( خلق الإنسان ) :
القول الأول : (خلق الإنسان ) قراءة الجمهور بالضم .
القول الثاني : قراءة الفتح : أي خلق الله الإنسان ، روي عن ابن عباس ، ذكره مكي وابن عطية وغيرهم .
لم أجد هذا الأثر عن ابن عباس .
مناسبة الآية :
تخفيف الله تعالى ترك نكاح الإماء بإباحة ذلك ، ذكره ابن عطية .
مقصد الآية :
بيان يسر الدين وتيسيره ، ذكره ابن عطية .
المسائل التفسيرية :
الغرض من تكرار الإرادة :
للتأكيد ،وبسط التقرير ،ذكره النحاس .
المراد بالتخفيف :
فيه قولان :
الأول : التيسير في نكاح الأمة ، وهو قول ابن زيد .
وقول ابن زيد أخرجه ابن جرير في تفسيره (6/624) عن ابن وهب عن ابن زيد .
وهذا القول مبني على الآيات السابقة التي تتكلم عن نكاح الأمة .
الثاني : التيسير في نكاح الأمة وفي كل أمر ، وهو قول مجاهد .
وقول مجاهد أخرجه ابن جرير في تفسيره (6/624) وابن المنذر في تفسيره (2/658) وابن أبي حاتم في تفسيره (3/926)وعبد الرحمن الهمذاني في تفسيره (153) عن ابن أبي نجيحٍ، عن مجاهدٍ.
وهو قول مبني على عموم الآية وعلى الايات السابقة ، فلم يذكر في هذه الآية نوع دون نوع فيدل على عموم ذلك .
الراجح :
الراجح هو القول الثاني لشمول يسر هذا الدين ، كقوله تعالى : { يريد الله بكم اليسر ولا يريد بكم العسر } ، وقوله تعالى { وما جعل عليكم في الدين من حرج }، ومن جهة أخرى نجد لفظ ( يخفف ) جاءت بصيغة المضارع فيدل على استمرارية التخفيف في شرائع الدين كلها .
متعلق الجار والمجرور في قوله : ( عنكم ) :
في الشرائع والأوامر والنواهي وما يقدره لنا ، ذكره ابن كثير .
معنى خلق :
قولان :
الأول : بمعنى في أصل بنيته ونفسه ، وهو حاصل ما ذكره ابن عطية وابن كثير .
وهذا القول على أن خلق بالضم فعل لما لم يسم فاعله ، بمعنى : أي وخلق الله الإنسان ضعيفا.
الثاني : بمعنى جعل ، ذكره ابن عطية .
وهذا القول ذكر ابن عادل خطأه .
الراجح :
الراجح هو القول الأول لأن القول الثاني لم يصح في اللغة العربية أن خلق تأتي بمعنى جعل ، ولا تتعدى بمفعولين .
وقال أبو حيان : لَا أَعْلَمُ أَحَدًا مِنَ النَّحْوِيِّينَ ذَهَبَ إِلَى ذَلِكَ، بَلِ الَّذِي ذَكَرَ النَّاسُ أَنَّ مِنْ أَقْسَامِ جَعَلَ أَنْ يَكُونَ بِمَعْنَى خَلَقَ، فَيَتَعَدَّى إِلَى مَفْعُولٍ وَاحِدٍ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى:(وَجَعَلَ الظُّلُماتِ وَالنُّورَ )، أَمَّا الْعَكْسُ فَلَمْ يَذْهَبْ إِلَى ذَلِكَ أَحَدٌ فِيمَا عَلِمْنَاهُ.
دلالة أل التعريف في قوله : ( الإنسان ) :
أل للجنس ، وتفيد الاستغراق ، وهو جميع جنس الإنسان ، وذكره أيوب جرجيس وغيره .
معنى الضعف :
ضد القوة ، ذكر ذلك ابن منظور وغيره من أهل اللغة .
المراد بالضعف :
فيه قولان :
القول الأول : الضعف العام ، في همته وعزيمته ونفسه ،فيستميله هواه وشهوته ، وهو حاصل قول مجاهد وطاوس ذكره البغوي وابن كثير .
ولم يصح نسبة الأقوال إلى مجاهد وطاووس .
وهذا القول مبني على أنه حال للإنسان عموما ، وأن الإنسان لفظ جنس عام .
القول الثاني : الضعف في النساء ، وهو قول طاوس بن كيسان .
وقول طاووس بن كيسان أخرجه عبد الرزاق في تفسيره (1/154)والثوري في تفسيره و مسلم بن خالد الزنجي في تفسيره وابن جرير في تفسيره (6/624) معمر عن ابن طاووس عن أبيه، وأخرجه ابن جرير في تفسيره (6/624) وابن أبي حاتم في تفسيره (3/926)من طرق عن سفيان، عن ابن طاووس، عن أبيه ، بألفاظ متقاربة .
ووجه هذا القول من جهة سياق الآيات السابقة التي تكلمت عن النكاح ، ثم في هذه الآية التخفيف فختمها في بيان سبب التخفيف وهو علمه سبحانه بضعفه في ترك النكاح فهو ضعيف في أمر النكاح ، وهو ضعف في بعض أمور هذا الإنسان .
القول الثالث : ضعف من جهة خلقه من ماء مهين ، وهو قول الحسن ، ذكره البغوي .
ووجه هذا القول من جهة كونه مجمل وجاء تفصيله في نص آخر من القرآن ، فقال تعالى : (اللَّهُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ ضَعْفٍ [الرُّومِ: 54]
الراجح :
أنه يشمل كل الأقوال ، لأن الإنسان هنا جاء معرف بأل ، ويشمل جنس الإنسان ، فيكون الكلام عاما على جنس الإنسان ، ويؤيد هذا الحديث الذي أخرجه الإمام أحمد في مسنده والطبراني في المعجم الكبير وابن حبان في صحيحه من طرق عَنْ خَوْلَةَ بِنْتِ قَيْسِ بْنِ قُهْدٍ عَنْ خَوْلَةَ بِنْتِ قَيْسٍ قَالَتْ: أَتَانَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَرَّبْتُ إِلَيْهِ طَعَامًا فَوَضَعَ يَدَهُ فِيهِ فَوَجَدَهُ حَارًّا فَقَالَ: "حَسِّ" وَقَالَ: "ابْنُ آدَمَ إِنَّ أَصَابَهُ بَرْدٌ, قَالَ: حَسِّ وَإِنَّ أَصَابَهُ حر) واللفظ لابن حبان ، وكلهم بنفس اللفظ مع زيادات .( صححه الألباني ) .
فالإنسان في نشأته وتكوينه ضعيف ، كما قال تعالى : ( هل على الإنسان حين من الدهر لم يكن شيئا مذكورا . إنا خلقنا الإنسان من نطفة أمشاج نبتليه فجعلناه سميعا بصيرا ) ، فبعد ضعفه وعدم قدرته جعل له السمع والأبصار ليبتليه ، ويشهد على ذلك أيضا قوله تعالى : (اللَّهُ الَّذِي خَلَقَكُم مِّن ضَعْفٍ ثُمَّ جَعَلَ مِن بَعْدِ ضَعْفٍ قُوَّةً ثُمَّ جَعَلَ مِن بَعْدِ قُوَّةٍ ضَعْفًا وَشَيْبَةً ۚ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ ۖ وَهُوَ الْعَلِيمُ الْقَدِيرُ)
وأما ضعفه في أمر النساء ، يشهد لذلك في قصة يوسف عليه السلام حينما راودت المرأة يوسف عليه السلام ،فعصمه الله وصرف عنه السوء والفحشاء ، فقال تعالى : (وَرَاوَدَتْهُ الَّتِي هُوَ فِي بَيْتِهَا عَن نَّفْسِهِ وَغَلَّقَتِ الْأَبْوَابَ وَقَالَتْ هَيْتَ لَكَ ۚ قَالَ مَعَاذَ اللَّهِ ۖ إِنَّهُ رَبِّي أَحْسَنَ مَثْوَايَ ۖ إِنَّهُ لَا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ . وَلَقَدْ هَمَّتْ بِهِ ۖ وَهَمَّ بِهَا لَوْلَا أَن رَّأَىٰ بُرْهَانَ رَبِّهِ ۚ كَذَٰلِكَ لِنَصْرِفَ عَنْهُ السُّوءَ وَالْفَحْشَاءَ ۚ إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُخْلَصِينَ).
وقد قال الله تعالى ( زين للناس حب الشهوات من النساء ) ، فهذا دليل على أنه مجبول على هذا الضعف فلا يستطيع تركه .
وفي الحديث الصحيح الذي رواه مسلم قال النبي صلى الله عليه وسلم : فاتقوا الدنيا، واتقوا النساء.
الموضع الإعرابي لقوله تعالى : ( ضعيفا ) :
اختلفوا فيه على أقوال :
الأول :حال ، وهو قول ذكره ابن عطية .
وهذا القول على أن أنه حال من الإنسان وهي حال مؤكدة، أي لا يقوى على مغالبة الشهوات ومدافعة النفس الأمّارة بالسوء.
الثاني : نصب على أنه مفعول ثاني ، وهو قول ذكره ابن عطية .
وهذا القول باعتبار خلق بمعنى جعل وتتعدى لمفعولين .
الراجح : كلا القولين صحيحين عند ابن عطية ، غير أن ابن عادل يرى عدم صحة القول الثاني لأنه لم يرد عن أهل اللغة من ذكر أن خلق بمعنى جعل وتتعدى مفعولين .
فقال ابن عادل : وهذا الذي ذكره غريب لم نرهم نَصُّوا على أن خلق يكون ك «جعل» فيتعدى لاثنين مع حصرهم الأفعال المتعدية للاثنين، ورأيناها يقولون: إن «جَعَلَ» إذا كان بمعنى «خَلَقَ» تعدت لواحد.
مناسبة ختم الآية بقوله ( وخلق الإنسان ضعيفا ) :
لبيان علة التخفيف ، وهو حاصل ماذكره ابن عطية وغيره .
مسألة عقدية :
نوع الإرادة في الآيات السابقة :
ارادة شرعية دينية ،وهو قول أهل السنة والجماعة ، وذكر ذلك الحكمي وغيره من أهل العلم .