تفسير قوله تعالى: ( وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تَذْبَحُوا بَقَرَةً قَالُوا أَتَتَّخِذُنَا هُزُوًا قَالَ أَعُوذُ بِاللَّهِ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْجَاهِلِينَ) [البقرة:67]
(الواو) عاطفة.
(إذ) اسم دال على ما مضى من الزمن في محلّ نصب معطوف على نعمتي الآية السابقة.
(قال) فعل ماض مبني على الفتح.
(موسى) فاعل مرفوع وعلامة رفعه الضمّة المقدّرة على الألف.
والجملة ( قال موسى ) في محل الجر مضاف إليه لإذ.
(لقوم) جارّ ومجرور متعلّق ب (قال) ، و (الهاء) مضاف إليه.
(يا) أداة نداء.
(قوم) منادى مضاف منصوب وعلامة نصبه الفتحة المقدّرة على ما قبل الياء المحذوفة للتخفيف، و (الياء) المحذوفة مضاف إليه.
(إنّ) حرف مشبّه بالفعل للتوكيد.
(اللهَ) اسم إن منصوب وعلامة نصبه الفتحة الظاهرة على آخره.
(يَأْمُرُكُمْ) فعل مضارع مرفوع وعلامة رفعه الضمة الظاهرة على الرا و (الكاف) ضمير مفعول به و (الميم) حرف لجمع الذكور، ، والفاعل ضمير يعود على الله، وجملة (إِنَّ) في محل نصب مقول قال.
(أن) حرف مصدري ونصب.
(تذبحوا) مضارع منصوب وعلامة النصب حذف النون، والواو فاعل (بقرة) مفعول به منصوب.
والجملة الفعلية مع أن المصدرية في تأويل مصدر مجرور بباء محذوفة متعلقة بيأمركم، تقديره: إن الله يأمركم بذبح بقرة.
(قالوا) فعل وفاعل، والجملة مستأنفة استئنافا بيانيا.
(تَتَّخِذُنا) (الهمزة) للاستفهام الإنكاري (تتّخذ) مضارع مرفوع، والفاعل ضمير مستتر تقديره أنت و (نا) ضمير في محلّ نصب مفعول به أول.
(هزوا) مفعول به ثان منصوب.
والجملة الفعلية في محل النصب مقول قالوا.
(قال) فعل ماض والفاعل مستتر تقديره هو والجملة مستأنفة.
(أعوذ) مضارع مرفوع والفاعل ضمير مستتر تقديره أنا.
(بالله) جارّ ومجرور متعلّق ب (أعوذ).
(أن) حرف مصدري ونصب.
(أكون) فعل مضارع ناقص منصوب واسمه ضمير مستتر تقديره أنا.
(من الجاهلين) جارّ ومجرور وعلامة الجرّ الياء، وشبه الجملة في محل نصب خبر أكون.
ذكر الله تعالى فيما سبق بعض قبائح بني إسرائيل، وجرائمهم، من نقض المواثيق، واعتدائهم في السبت، ثم أردفه هنا بذكر نوع آخر من مساوئهم وقبائحهم، ألا وهو مخالفتهم لأنبيائهم وتكذيبهم لهم، وعدم مسارعتهم لامتثال الأوامر التي يوحيها الله إليهم، مع كثرة اللجاج والعناد للرسل وجفائهم في مخاطبة نبيهم موسى عليه السلام.
وأول هذه القصة، قوله سبحانه وتعالى الآتي: {وَإِذْ قَتَلْتُمْ نَفْسًا فَادَّارَأْتُمْ فِيها} وإن كان مؤخرا في التلاوة.
ذكر الخازن في تفسيره :(وجهه أنه لما ذكر سابقا خبائثهم وجناياتهم ووبخوا عليها، ناسب أن يقدم في هذه القصة ما هو من قبائحهم، وهو تعنتهم على موسى، لتتصل قبائحهم بعضها ببعض).
وذكر ابن عاشور قولا آخر في تفسيره حيث قال: (فالذي يظهر لي أنهما قصتان أشارت الأولى وهي المحكية هنا إلى أمر موسى إياهم بذبح بقرة) وهي ( بقرة مشروعة عند كل قتل نفس جهل قاتلها، ثم كان ما حدث من قتل القتيل الذي قتله أبناء عمه وجاءوا مظهرين المطالبة بدمه وكانت تلك النازلة نزلت في يوم ذبح البقرة فأمرهم الله بأن يضربوا القتيل ببعض تلك البقرة التي شأنها أن تذبح عند جهل قاتل نفس)، (وقد أجمل القرآن ذكر القصتين لأن موضع التذكير والعبرة منهما هو ما حدث في خلالهما لا تفصيل الوقائع فكانت القصة الأولى تشريعا سيق ذكره لما قارنه من تلقيهم الأمر بكثرة السؤال الدال على ضعف الفهم للشريعة وعلى تطلب أشياء لا ينبغي أن يظن اهتمام التشريع بها، وكانت القصة الثانية منة عليهم بآية من آيات الله ومعجزة من معجزات رسولهم بينها الله لهم ليزدادوا إيمانا ولذلك ختمت بقوله: ويريكم آياته لعلكم تعقلون).
مقاصد الآية:
من مقاصد هذه الآية الكريمة:
الأول: توبيخ المخاطبين من بني إسرائيل، في نقض أوائلهم الميثاق الذي أخذه الله عليهم بالطاعة لأنبيائه.
الثاني: احتجاج على مشركي العرب لأنهم لم يكونوا مؤمنين بالبعث.
الثالث: دليل على صدق نبوة محمد صلى الله عليه وسلم بإخباره هذا الخبر الذي لا يجوز أن يعلمه إلامن قرأ الكتب أو أوحى إليه، وقد علم المشركون أن النبي صلى الله عليه وسلم أمي وأن أهل الكتاب يعلمون برغم مخالفتهم له أن ما أخبر به من هذه الأقاصيص حق.
(وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تَذْبَحُوا بَقَرَةً)
اليهود المعاصرين للنبي صلى الله عليه وسلم، يقول لهم تعالى واذكروا إذ قال موسى لأسلافكم.
أي: بني إسرائيل.
يطلق على العقلاء خاصّة وقيل: يختصّ بالرجال لأنهم يقومون بالأمور، وهو قول كثير من أهل اللغة مثل الفراهيدي والأنباري وابن فارس والسمين الحلبي وغيرهم، قال تعالى: {لا يَسْخَرْ قَوْمٌ مِنْ قَوْمٍ} وقابله بقوله: {وَلا نِساءٌ مِنْ نِساءٍ} وقال زهير:
وما أدري وسوف إخال أدري ... أقوم آل حصن أم نساء
وقيل: لا يختصّ بالرجال، بل يطلق على الرجال والنساء، قال تعالى: (إِنَّا أَرْسَلْنا نُوحًا إِلى قَوْمِهِ)، والمرسل إليهم يشمل النساء والرجال، ذكره الواحدي في البسيط والقرطبي في تفسيره والسمين الحلبي في الدر المصون.
وأصحاب هذا القول يقصرون التخصيص الوارد في بعض المواضع عليها، فيبطل فيها العموم.
وعلى القول الأول يكون اندراج النساء في القوم على سبيل الاستتباع، وتغليب الرجال على النساء، قال ابن حيان ترجيحا للقول الأول: والمجاز خير من الاشتراك.
وقوم اسم جمع لا واحد له من لفظه، وواحده امرؤ، وقياسه: أن لا يجمع، وشذّ جمعه حيث قالوا: أقوام، وجمع جمعه: أقاوم أو أقاويم.
البقر جنس سميت بذلك لأنهَا تشق الأرض بالحراثة، ذكره السمعاني.
وفي مسند أحمد ، حديث رقم 4184: ( أَن النبي نهى عن التبقر فِي الأهل والمال ) أَي: التَّوَسُّع، قال أحمد شاكر: سنده ظاهره الإنقطاع.
و (بقرةً) قال بعض العلماء: تاؤها للتأنيث وذكرها ثور.
وقال بعض العلماء: هي تاء الواحدة، والبقر يطلق على ذكره وأنثاه.
لأن فيه إظهار لقدرة الله تعالى على إخراج الأشياء من أضدادها، فيحيى القتيل بقتل حي، ذكره سراج الدين بن عادل الحنبلي والقرطبي في تفسيريهما.
نقل القرطبي عن المَاوَرْدَيّ -ولم أجده في تفسيره : (لأنها من جنس ما عبدوه من العِجْل ليُهَوِّن عندهم ما كانوا يرونه من تعظيمه، وليعلم بإجابتهم ما كان في نفوسهم من عبادته).
القول الأول : أي بقرة :
روى هذا القول عبد الرحمن الهمذاني وابن جرير عن مجاهد، ورواه عبد الرزاق وابن جرير عن عكرمة، ورواه الطبري عن ابن عباس وعن عَبيدة وعن عكرمة وعن أبي العالية وابن زيد.
ونقله ابن كثير عن ابن جرير بإسناده عن ابن عباس وقال: (إسناده صحيح وقد رواه غير واحد عن ابن عباس )
ورى عليُّ بنُ أبي بكرٍ بن سُليمَان الهَيْثَميُّ عن بشر بن آدم، ثنا أبو سعيدٍ الحدّاد أحمد بن داود، ثنا سرور بن المغيرة الواسطيّ أبو عامرٍ، عن عبّاد بن منصورٍ، عن الحسن، عن أبي رافعٍ، عن أبي هريرة، عن النّبيّ صلّى اللّه عليه وسلّم، قال: «إنّ بني إسرائيل لو أخذوا أدنى بقرةٍ لأجزأتهم، أو لأجازت عنهم». قال البزّار: لا نعلمه يروى عن أبي هريرة إلا بهذا الإسناد). [كشف الأستار عن زوائد البزار: 3 / 40]
وقال عنه ابن كثير: "هذا حديث غريب من هذا الوجه، وأحسن أحواله أن يكون من كلام أبي هريرة -رضي الله عنه-".
وأخرج الطبري عن قتادة قال: ذكر لنا أن نبي الله -صلى الله عليه وسلم- كان يقول: (إنما أمر القوم بأدنى بقرة، ولكنهم لما شددوا على أنفسهم؛ شدد عليهم، والذي نفس محمد بيده؛ لو لم يستثنوا لما بينت لهم آخر الأبد).
وقتادة؛ غالب روايته عن التابعين
وروى سعيد بن منصور عن عكرمة يبلغ به النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: (لو أن بني إسرائيل أخذوا أدنى بقرة، فذبحوها، أجزأت عنهم، ولكنهم شددوا، ولولا أنهم قالوا: {وَإِنَّا إِنْ شَاءَ اللَّهُ لَمُهْتَدُونَ}، ما وجدوها).
عزاه السيوطي في (الدر المنثور) إلى: الفريابي، وابن المنذر.
وفي الآية دليل على ثبوت العموم؛ لأن تقديرها: أن تذبحوا بقرة ما، كما تقول للغلام: ناولني حصاة، وادع لي رجلا، ذكره الجرجاني في درج الدرر في تفسير الآي والسور.
سبب استفصالهم عن أوصافها وقد أمروا بأي بقرة:
يحتمل ذلك عدة وجوه ذكرها النيسابوري في غرائب القرآن ورغائب الفرقان:
أحدها: أنه لما أخبرهم بشأن البقرة تعجبوا وظنوا أن البقرة التي لها مثل هذه الخاصية لا تكون إلا بقرة معينة، إلا أن القوم كانوا مخطئين في ذلك لأن هذه الآية العجيبة لا تكون خاصية البقرة، بل كانت معجزة يظهرها الله على يد موسى، وضعغه الطبري لأن الله لا يفرض فرضا على العباد إلا ويبنيه لهم.
ثانيها: أن القوم أرادوا قتل أي بقرة كانت إلا أن القاتل خاف من الفضيحة فألقى شبهة في البين وقال:المأمور به بقرة معينة لا مطلق البقرة، فلما وقعت المنازعة رجعوا إلى موسى.
ثالثها: الخطاب وإن أفاد العموم إلا أن القوم أرادوا الاحتياط فسألوا مزيد البيان وإزالة الاحتمال، إلا أن المصلحة تغيرت واقتضت الأمر بذبح البقرة المعينة.
القول الثاني: إن المأمور بذبحه بقرة معينة في نفسها، ولهذا سألوا عن أوصافها:
ذكر الرازي في تفسيره لذلك عدة وجوه:
الأول: أنه إنه يصح أن يقال اذبح بقرة أي : اذبح بقرة معينة من شأنها كيت وكيت، ويصح أيضا أن يقال اذبح بقرة أي بقرة شئت، لأنه لو أفاد العموم لكان قوله: اذبحوا بقرة أي بقرة شئتم تكريرا ولكان قوله: اذبحوا بقرة معينة نقضا، ولما لم يكن كذلك علمنا فساد هذا القول.
الثاني: أن قوله تعالى: فاذبحوا بقرة كالنقيض لقولنا لا تذبحوا بقرة، وقولنا لا تذبحوا بقرة يفيد النفي العام فوجب أن يكون قولنا اذبحوا بقرة يرفع عموم النفي ويكفي في ارتفاع عموم النفي خصوص الثبوت على وجه واحد، فإذن قوله: اذبحوا بقرة يفيد الأمر بذبح بقرة واحدة فقط، أما الإطلاق في ذبح أي بقرة شاءوا فذلك لا حاجة إليه في ارتفاع ذلك النفي فوجب أن لا يكون مستفادا من اللفظ.
الثالث: أن قوله تعالى: بقرة لفظة مفردة منكرة والمفرد المنكر إنما يفيد فردا معينا في نفسه غير معين بحسب القول الدال عليه ولا يجوز أن يفيد فردا أي فرد كان بدليل أنه إذا قال: رأيت رجلا فإنه لا يفيد إلا ما ذكرناه فإذا ثبت أنه في الخبر كذلك وجب أن يكون في الأمر كذلك.
الرابع: قوله تعالى: ادع لنا ربك يبين لنا ما هي وما لونها وقول الله تعالى: إنه يقول إنها بقرة لا فارض، ... إنها بقرة صفراء، ... إنها بقرة لا ذلول تثير الأرض منصرف إلى ما أمروا بذبحه من قبل وهذه الكنايات تدل على أن المأمور به ما كان ذبح بقرة أي بقرة كانت، بل كان المأمور به ذبح بقرة معينة.
سبب تأخير البيان لصفة البقرة إن كانت بقرة معينة:
الذين يجوزون تأخير البيان عن وقت الخطاب قالوا: إنه كان أمرا بذبح بقرة معينة ولكنها ما كانت مبينة.
وقال المانعون منه: سبب ذلك أنه كان أمرا بذبح أي بقرة كانت إلا أن القوم لما سألوا تغير التكليف عند ذلك، وذلك لأن التكليف الأول كان كافيا لو أطاعوا وكان التخيير في جنس البقرة إذ ذاك هو الصلاح، فلما عصوا ولم يمتثلوا ورجعوا بالمسألة لم يمتنع تغير المصلحة وذلك معلوم في المشاهد، لأن المدبر لولده قد يأمره بالسهل اختيارا، فإذا امتنع الولد منه فقد يرى المصلحة في أن يأمره بالصعب فكذا هاهنا.
وقيل: أن عدم تأخير البيان إنما يلزم لو كان الأمر على الفور.
سبب أمر الله تعالى لبني إسرائيل أن يذبحوا بقرة:
روى ابن جرير عن ابن عباس،وروى عبد الرحمن بن الحسن الهمذاني وابن جرير عن مجاهد،
وروى عبد الرزاق وابن جرير وابن أبي حاتم من طريق ابْنِ سِيرِينَ، عن عبيدة السلماني، وروى عبد الرزاق عن قتادة ،وروى ابن جرير عن أبي العالية، وابن زيد، ومحمد بن كعب القرظي، ومحمد بن قيس، وروى ابن جرير وابن أبي حاتم من طريق أسباط عن السدي، ما مجموعه:
أن أخوين من بني إسرائل قتلا ابن عم لهما، فألقياه بين القريتين، فقاسوا ما بين القريتين فكانتا سواء فلما أصبحوا أخذوا أهل القرية فقالوا: والله ما قتلناه ولا علمنا له قاتلا،
وقيل كان رجل عقيم فقتله وليه، وقال بعضهم: بل كانوا جماعة ورثة استبطئوا حياته،
وقيل كان رجل من بني إسرائيل مكثرا من المال، وكانت له ابنة، وكان له ابن أخ محتاج. فخطب إليه ابن أخيه ابنته، فأبي أن يزوجه إياها، فغضب الفتى وقال: والله لأقتلن عمي، ولآخذن ماله، ولأنكحن ابنته، ولآكلن ديته! فأتاه الفتى ثم احتمله فألقاه في سبط غير سبطه،
وقيل كان رجل من بني إسرائيل له مال كثير، ولم يكن له وارث غير أخيه، فطال عليه حياته، فقتله ليرثه، ثم حمله فوضعه على باب المدينة، ثم كمن في مكان هو وأصحابه، فأشرف رئيس المدينة فنظر، فلم ير شيئا ففتح الباب، فلما رأى القتيل رد الباب، فناداه أخو المقتول وأصحابه: هيهات قتلتموه ثم تردون الباب،
فوقع بينهم فيه الشر حتى أخذوا السلاح. وهموا أن يقتلوا، فقالوا أتقتتلون وفيكم نبي الله،فَكَفَّ بَعْضُهُمْ عَنْ بَعْضٍ، ثُمَّ انْطَلَقُوا إِلَى مُوسَى فقالوا: يا موسى، ادع لنا ربك يطلع على القاتل إن كنت نبيا كما تزعم،
في بيان من الذي جاء موسى:
قيل أن الذي جاء موسى هو القاتل، فقال له: إن قريبي قتل وأُتي إلي أمر عظيم، وإني لا أجد أحدا يبين لي من قتله غيرك يا نبي الله،
وقيل أن الذي جاء موسى هم السبط الذين اتهموا فيه ، فقالوا له: يا رسول الله، ادع لنا ربك حتى يبين له من صاحبه، فيؤخذ صاحب الجريمة، فوالله إن ديته علينا لهينة، ولكنا نستحي أن نعير به.
بيان دعاء موسى والأمر بذبح بقرة:
فدعا موسى ربه عز وجل، فأتاه جبريل، عليه السلام، فأمره بذبح بقرة، فقال لهم، موسى: إن الله يأمركم أن تذبحوا بقرة، فتضربوه ببعضها فيحيا، فيخبركم بقاتله، واسم المقتول عاميل، فظنوا أنه يستهزئ بهم، فقالوا: نسألك عن القاتل لتخبرنا به، فتأمرنا بذبح بقرة استهزاء بنا، فذلك قولهم لموسى: (قالوا أتتخذنا هزوا قال أعوذ بالله أن أكون من الجاهلين) يعني من المستهزئين، فعلموا أن عنده علم ذلك.
بيان تشديد بني إسرائيل على أنفسهم:
فسألوا موسى عن صفتها وشددوا فشدد الله عليهم فلم يَجِدُوا هَذِهِ الْبَقَرَةَ إِلَّا عِنْدَ رَجُلٍ وَاحِدٍ، فَبَاعَهَا بِوَزْنِهَا ذَهَبًا، أَوْ بِمِلْءِ مِسْكِهَا ذَهَبً ، وقيل لم يجدوها إلا عند عجوز عندها يتامى، وهي القيمة عليهم. فلما علمت أنهم لا يزكو لهم غيرها، أضعفت عليهم الثمن. فأتوا موسى فأخبروه أنهم لم يجدوا هذا النعت إلا عند فلانة، وأنها سألتهم أضعاف ثمنها. ولو أنهم أخذوا أدنى بقرة لأجزأت عنهم.فَسَأَلُوا وَشَدَّدُوا , فَشَدَّدَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ فقال لهم موسى: إن الله قد كان خفف عليكم، فشددتم على أنفسكم، فأعطوها رضاها وحكمها. ففعلوا، واشتروها فذبحوها.
وقيل كانت عند رجل من بني إسرائيل من أبر الناس بأبيه، وإن رجلا مر به معه لؤلؤ يبيعه، فكان أبوه نائما تحت رأسه المفتاح، فقال له الرجل: تشتري ني هذا اللؤلؤ بسبعين ألفا؟ فقال له الفتى: كما أنت حتى يستيقظ أبي فآخذه بثمانين ألفا. فقال له الآخر: أيقظ أباك وهو لك بستين ألفا. فجعل التاجر يحط له حتى بلغ ثلاثين ألفا، وزاد الآخر على أن ينتظر حتى يستيقظ أبوه، حتى بلغ مائة ألف. فلما أكثر عليه قال: لا والله، لا أشتريه منك بشيء أبدا، وأبى أن يوقظ أباه. فعوضه الله من ذلك اللؤلؤ أن جعل له تلك البقرة. فمرت به بنو إسرائيل يطلبون البقرة، فأبصروا البقرة عنده، فسألوه أن يبيعهم إياها بقرة ببقرة، فأبي، فأعطوه ثنتين فأبي، فزادوه حتى بلغوا عشرا، فأبي، فقالوا: والله لا نتركك حتى نأخذها منك. فانطلقوا به إلى موسى فقالوا: يا نبي الله، إنا وجدنا البقرة عند هذا فأبي أن يعطيناها، وقد أعطيناه ثمنا. فقال له موسى: أعطهم بقرتك. فقال: يا رسول الله، أنا أحق بمالي. فقال: صدقت. وقال للقوم: أرضوا صاحبكم. فأعطوه وزنها ذهبا فأبي، فأضعفوا له مثل ما أعطوه وزنها، حتى أعطوه وزنها عشر مرات، فباعهم إياها وأخذ ثمنها.
بيان الجزء الذي ضرب به القتيل:
فأمرهم موسى أن يأخذوا عظما منها وقيل: فضرب بفخذ البقرة، وقيل ضربوه بالبضعة التي بين الكتفين، فقام حيا، فقال: قتلني فلان، ثم عاد في ميتته، فلم يورث قاتل بعد ذلك.
سياق آخر للقصة حكاه البغوي والخازن بدون سند أن حكمة ذلك: (أنه كان في بني إسرائيل رجل صالح له ابن طفل وله عجلة أتى بها إلى غيضة، وقال: اللهم إني أستودعك هذه العجلة لا بني حتى يكبر ، ومات الرجل فصارت العجلة في الغيضة عوانا، وكانت تهرب من كل من رآها فلما كبر الابن كان بارا بوالدته، وكان يقسم الليل ثلاثة أثلاث يصلي ثلثا وينام ثلثا ويجلس عند رأس أمه ثلثا، فإذا أصبح انطلق فاحتطب على ظهره فيأتي به إلى السوق، فيبيعه بما شاء الله ثم يتصدق بثلثه ويأكل ثلثه ويعطي والدته ثلثه، فقالت له أمه يوما: إن أباك ورثك عجلة استودعها الله في غيضة كذا انطلق وادع إله إبراهيم وإسماعيل وإسحاق أن يردها عليك، وعلامتها أنك إذا نظرت إليها يخيل إليك أن شعاع الشمس يخرج من جلدها، وكانت تلك البقرة تسمى المذهبة لحسنها وصفرتها، فأتى الفتى الغيضة فرآها ترعى فصاح بها، وقال: أعزم عليك بإله إبراهيم وإسماعيل وإسحاق ويعقوب، فأقبلت تسعى حتى قامت بين يديه، فقبض على عنقها يقودها، فتكلمت البقرة بإذن الله تعالى فقالت: أيها الفتى البار بوالدتك اركبني، فإن ذلك أهون عليك، فقال الفتى: إن أمي لم تأمرني بذلك، ولكن قالت: خذ بعنقها، فقالت البقرة: بإله بني إسرائيل لو ركبتني ما كنت تقدر علي أبدا انطلق ، فإنك لو أمرت الجبل أن ينقلع من أصله وينطلق معك لفعل، لبرك بأمك فسار الفتى بها إلى أمه، فقالت له أمه : إنك فقير لا مال لك فيشق عليك الاحتطاب بالنهار والقيام بالليل، فانطلق فبع البقرة، فقال: بكم أبيعها؟ قالت: بثلاثة دنانير، ولا تبع بغير مشورتي، وكان ثمن البقرة ثلاثة دنانير، فانطلق بها إلى السوق.
وبعث الله ملكا ليري خلقه قدرته، وليختبر الفتى كيف بره بأمه وكان الله به خبيرا فقال له الملك:
بكم تبيع هذه البقرة؟ قال: بثلاثة دنانير وأشترط عليك رضا والدتي، فقال الملك: لك ستة دنانير ولا تستأمر والدتك، فقال الفتى: لو أعطيتني وزنها ذهبا لم آخذه إلا برضا أمي، فردها إلى أمه وأخبرها بالثمن، فقالت: ارجع فبعها بستة دنانير على رضى مني، فانطلق بها إلى السوق، وأتى الملك فقال:
استأمرت أمك؟ فقال الفتى: إنها أمرتني أن لا أنقصها عن ستة دنانير على أن أستأمرها، فقال الملك:
فإني أعطيك اثني عشر على أن لا تستأمرها، فأبى الفتى ورجع إلى أمه فأخبرها بذلك، فقالت: إن الذي يأتيك ملك في صورة آدمي ليختبرك فإذا أتاك فقل له: أتأمرنا أن نبيع هذه البقرة أم لا؟ ففعل فقال له الملك: اذهب إلى أمك وقل لها: أمسكي هذه البقرة فإن موسى بن عمران عليه السلام يشتريها منك لقتيل يقتل في بني إسرائيل، فلا تبعها إلا بملء مسكها دنانير فأمسكها، وقدر الله تعالى على بني إسرائيل ذبح تلك البقرة بعينها فما زالوا يستوصفون موسى حتى وصف لهم تلك البقرة بعينها).
الحكم على هذه الإسرائيليات:
وهذه الروايات مما روي عن بني إسرائيل ولم يرد في شرعنا ما يناقضها ولا ما يثبت صحتها، فهي مما أذن فيه النبي صلى الله عليه وسلم من التحديث به بدون أن نصدقه ولا نكذبه حتى لا نقع في القول على الله وأنبياءه بغير علم، ورجح بعض أهل العلم عدم روايتها تفسيرا للقرآن لما فيه من:
1- تحميل الآيات ما لا تحتمله.
2- التفسير بالضعيف المشكوك في صحة نسبه إلى قائله، لما في كتبهم من انقطاع.
قال بن كثير: (وهذه السياقات عن عبيدة وأبي العالية والسدي وغيرهم، فيها اختلاف ما، والظاهر أنها مأخوذة من كتب بني إسرائيل، وهي مما يجوز نقلها، ولكن لا تصدق ولا تكذب، فلهذا لا يعتمد عليها إلا ما وافق الحق عندنا، والله أعلم).
قال السعدي : (واعلم أن كثيرا من المفسرين رحمهم الله، قد أكثروا في حشو تفاسيرهم من قصص بني إسرائيل، ونزلوا عليها الآيات القرآنية، وجعلوها تفسيرا لكتاب الله، محتجين بقوله صلى الله عليه وسلم: "حدثوا عن بني إسرائيل ولا حرج "
والذي أرى أنه وإن جاز نقل أحاديثهم على وجه تكون مفردة غير مقرونة، ولا منزلة على كتاب الله، فإنه لا يجوز جعلها تفسيرا لكتاب الله قطعا إذا لم تصح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وذلك أن مرتبتها كما قال صلى الله عليه وسلم: "لا تصدقوا أهل الكتاب ولا تكذبوهم " فإذا كانت مرتبتها أن تكون مشكوكا فيها، وكان من المعلوم بالضرورة من دين الإسلام أن القرآن يجب الإيمان به والقطع بألفاظه ومعانيه، فلا يجوز أن تجعل تلك القصص المنقولة بالروايات المجهولة، التي يغلب على الظن كذبها أو كذب أكثرها، معاني لكتاب الله، مقطوعا بها ولا يستريب بهذا أحد، ولكن بسبب الغفلة عن هذا حصل ما حصل، والله الموفق).
قال ابن عثيمين رحمه الله: (ولا حاجة بنا إلى أن نعلل لماذا قتل؛ أو لأي غرض؛ هذا ليس من الأمور التي تهمنا؛ لأن القرآن لم يتكلم بها؛ ولكن غاية ما يكون أن نأخذ عن بني إسرائيل ما لا يكون فيه قدح في القرآن، أو تكذيب له).
ومعنى الهزؤ في قوله: {أَتَتَّخِذُنَا هُزُوًا}
نقل الواحدي في التفسير البسيط عن أبي زيد قوله: هَزِئتُ به هُزْءًا وَمهْزَأةً، وهذا لا يخلو من أحد أمرين:
أحدهما: أن يكون المضاف محذوفا؛ لأن الهُزْءَ حَدَثٌ، والمفعول الثاني من هذا الفعل يكون الأول كقوله: {لَا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَاءَ} [الممتحنة: 1] ويكون التقدير: أتتخذنا أصحاب هزء.
الثاني: أن يكون جعل الهُزْءَ المهزوءَ به مثل الخلْق والصيد. وقوله : {لَا تَتَّخِذُوا الَّذِينَ اتَّخَذُوا دِينَكُمْ هُزُوًا وَلَعِبًا} [المائدة: 57] لا يحتاج فيه إلى تقدير محذوف، لأن الدِّين ليس بعين.
والهزؤ: اللعب والسخرية، كما قال الراجز:
قد هزئت مني أم طيسله ... قالت أراه معدما لا شيء له
المراد بقولهم : {أَتَتَّخِذُنَا هُزُوًا}
فيها قولان :
الأول نقله البغوي عن الكلبي: أتستهزئ بنا ؟ نحن نسألك عن أمر القتيل وأنت تأمرنا بذبح بقرة؟ وقالوا ذلك لبعد ما بين الأمرين في الظاهر ولم يعرفوا الحكمة فيه، وهو قول الطبري وعامة المفسرين.
الثاني ذكره السمرقندي والرازي: ما أعجب هذا الجواب كأنك تستهزئ بنا، أي كأنهم لم يحققوا على موسى الاستهزاء.
الغرض من الاستفهام:
استفهام إنكاري.
ما يستلزمه قولهم لموسى أتتخذنا هزوا:
قال النيسابوري: (اختلف العلماء هاهنا فعن بعضهم تكفيرهم بهذا القول لأنهم إن شكوا في قدرة الله تعالى على إحياء الموتى فقد كفروا، وإن شكوا في أن الذي أمرهم به موسى عليه السلام هل هو بأمر الله فقد جوزوا الخيانة على موسى عليه السلام في الوحي، وذلك أيضا كفر.
وعن آخرين أنه لا يوجب الكفر لأن المداعبة على الأنبياء جائزة، فلعلهم ظنوا أنه يداعبهم مداعبة حقة).
وقال الماوردي: إنما يحمل على المجازاة، كقول نوح لقومه: (فَإِنَّا نَسْخَرُ مِنْكُمْ كَمَا تَسْخَرُونَ)، كأَنهم قالوا: أتجازينا بهذا لما مضى منا وسبق من العصيان بك، والخلاف لك؟! لما لم يعلموا أَن هذا الأمر من عند الله.
ومعنى {أَعُوذُ بِاللَّهِ}
قال بن فارس في مقاييس اللغة في مادة عوذ: (يدل على معنى واحد، وهو الالتجاء إلى الشيء، ثم يحمل عليه كل شيء لصق بشيء أو لازمه، قال الخليل: تقول أعوذ بالله - جل ثناؤه - أي ألجأ إليه - تبارك وتعالى -، عوذا أو عياذا. ذكر أيضا أنهم يقولون: فلان عياذ لك، أي ملجأ. وقولهم: معاذ الله، معناه أعوذ بالله).
وذكر قول لبيد:
والعين ساكنة على أطلائها ... عوذ تأجل بالفضاء بهامها
(تأجل: تصير آجالا، أي قطعا. وإنما سميت لما ذكرناه من ملازمة ولدها إياها، أو ملازمتها إياه).
معنى الجهل:
قال بن فارس في مقاييس اللغة:
(جهل) الجيم والهاء واللام أصلان: أحدهما خلاف العلم،والآخر الخفة وخلاف الطمأنينة.
ومعنى قول موسى عليه السلام على الأول : أعوذ بالله من عدم العقل والجواب لا على وفق السؤال، ذكره البغوي.
ومعنى قول موسى عليه السلام على الثاني : أعوذ بالله من المستهزئين بالمؤمنين فأطلق الجهل على الاستهزاء، ذكره الزجاج
وقيل اطلق الجهل هنا على الاستهزاء إطلاقا لاسم السبب على المسبب، أَيْ: أعوذ بالله أن أكون مِنَ الْمُسْتَهْزِئِينَ بالمؤمنين، فإن الاشتغال بالاستهزاء لا يكون إلا بسبب الجهل، ومنصب النبوّة يجل عن ذلك ذكره النيسابوري.
فوائد وعبر:
1-استخدام الأسلوب القصصي للتأثير في القلوب والتعليم هدي قرآني ونبوي.
2- التحذير من اللجاجة والتعنت والتلكؤ في الاستجابة، وتمحل المعاذير، التي يتسم بها بنو إسرائيل.
3 - التنطع في الدين والإلحاف في السؤال، يقتضي التشديد في الأحكام، ومن ثم نهينا عن ذلك بقوله: {يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَسْئَلُوا عَنْ أَشْياءَ إِنْ تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ} وفي قوله صلّى الله عليه وسلّم: «وكره لكم قيل وقال، وإضاعة المال، وكثرة السؤال».
4- التحذير من الاستهزاء بالأنبياء وبالأوامر.
5- قد لا تظهر الحكمة من الشرائع والأوامر في بداية الأمر، لكن على المسلم أن يلتزم الطاعة وإن لم تظهر له الحكمة.
6- الرد الرفيق على على السفاهات بالتعريض والتلميح يعيد المطاول لجادة الأدب الواجب في جانب الخالق جل علاه .