المجموعة الأولى:
س1:بيّن باختصار مراحل التكوين العلمي لطالب العلم:
ج1: مراحل التكوين العلمي التي يمر بها طالب العلم خلال مسيرته العلمية ثلاث هي:
أولا: مرحلة التأسيس العلمي:
هي أولى المراحل وأهمّها، فمن أحسن فيها كان ما بعدها يسيراً عليه، ومن أخلّ بها فهو إما طالب محروم من مواصلة طلب العلم، وإما طالب ظاهر النقص في الأدوات العلمية، وسيظهر أثر نقصه وتفريطه عليه في المراحل التالية، وفي هذه المرحلة يعتني الطالب بتكوين قاعدة متينة في كل علم من العلوم الشرعية وما يعين عليها من العلوم المساعدة ، معتمدا على أصول مختصرة يتقن دراستها، ويضبط مسائلها، تحت إشراف أستاذ. والتأسيس الجيد يعتمد على أربع ركائز:
الركيزة الأولى: أن يدرس كتاباً مختصراً غير مطوّل، حتى يتمكن من الإلمام بمسائل ذلك العلم إلماماً شاملاً بما يناسب المبتدئين فيه في مدّة قصيرة نسبياً.
والركيزة الثانية: أن تكون دراسته دراسة متقنة؛ فلا يجاوز الدرس حتى يضبط مسائله جيداً، وإذا درس عددا من الدروس عاد إلى ما سبقت له دراسته بالمراجعة ليثبّت علمه به حتى لا ينساه.
والركيزة الثالثة: أن تكون دراسته ميسّرة غير شاقة؛ لأنّ الذي يتكلّف طريقة عسرة عليه لا يواصل طلب العلم غالباً، وقد قيل: (المنبتّ لا ظهراً أبقى ولا أرضاً قطع).
والركيزة الرابعة: الإشراف العلمي، وذلك لأن طالب العلم في بداية طلبه للعلم يحتاج إلى من يرشده ويبصّره، ويعرّفه بجوانب الإجادة والإحسان لديه، ومواضع الخلل والتقصير، ويقوّم له دراسته وتحصيله، ويرشده إلى الخطة المنهجية التي تصلح له، ومن فرّط في هذه الركيزة كان على خطر من انحراف المنهج أوكثرة الخطأ والالتباس في تصور المسائل العلمية، والبناء عليها.
:ثانيا: مرحلة البناء العلمي
مرحلة البناء العلمي يكون فيها أكثر التحصيل العلمي المنظّم، وهي المرحلة التي ينتقل بها الطالب من مستوى المبتدئين إلى مستوى المتقدّمين في طلب العلم بإذن الله تعالى. ويحتاج الطالب في هذه المرحلة إلى أمرين مهمّين هما: حسن إدارة الوقت، ومهارة تصنيف المسائل العلمية وفهرستها. والمراد بالبناء العلمي هنا تعلم الطالب لتفاصيل المسائل العلمية تعلما منظما متوازناً شاملاً لأبواب العلم الذي يطلبه، ويتحقق بخمسة أمور:
1: الدراسة المتدرّجة في كتب العلم الذي يطلبه.
2: اتّخاذ أصل جامع في ذلك العلم، يحوي مسائله ويتعاهده بالمراجعة والتهذيب والاستظهار.
3: القراءة المنظّمة في كتب ذلك العلم، ويضيف إلى أصله العلمي ما يستطرفه من الفوائد التي جمعها من الكتب.
4: كثرة مطالعة الكتب التي تعدّ من أصول ذلك العلم، ويحسن أن ينتقى منها كتاباً يدمن قراءته والرجوع إليه.
5: قراءة سير علماء ذلك العلم، ومعرفة طبقاتهم ومراتبهم، والاستفادة من طريقتهم والتأسي بهم.
وتنوّع مسالك العلماء في بناء أصولهم العلمية يفيد الطالب باختيار أقرب الطرق إليه، وأيسرها عليه، وأنفعها له. ومن الخطأ اقتراح طريقة موحدة لجميع الطلاب في بناء الأصل العلمي، وذلك بسبب اختلاف الطلاب في أوجه العناية العلمية، واختلاف ملكاتهم وقدراتهم، وتباين الفرص العلمية المتاحة لهم.
:ثالثا: مرحلة النشر العلمي
والمراد بالنشر العلمي إفادة طلاب العلم من علمهم بعد إحسان التأسيس العلمي، وقطع شوط حسن في البناء العلمي، وهي مرحلة مهمّة لتحسين إفادة الطالب لغيره من علمه، فمن الناس من يحصّل علماً غزيراً لكن لا يُنتفع به كما يؤمّل منه، ولذلك أسباب يرجع قسم منها إلى أنه لم يسلك الطريقة المناسبة لنشر علمه.
والنشر العلمي له أنواع كثيرة يمكن للعالم وطالب العلم تبليغ علمه عن طريقها ومن هذه الطرق:
_ إلقاء الكلمات والدروس والمواعظ والخطب إلقاء صوتياً أو مرئياً
_ التصدر للفتوى وإجابة أسئلة السائلين
_ تأليف الكتب التعليمية المحررة؛ كشروح المتون العلمية وغيرها
_ إعداد البحوث العلمية القيّمة
_ إعداد الفهارس العلمية والكشافات التحليلية
_ إجراء الدراسات العلمية المتخصصة في أبواب من العلم
*_ النهوض ببعض الأعمال الدعوية التي تتطلب قدراً حسناً من التأهّل العلمي
ونبغي أن يختار طالب العلم الطريقة الأوفق له في النشر العلمي، وأن يتدرّب على مهاراتها ويعدّ نفسه لها إعداداً حسناً ولايتكلف مالا يحسنه وإنما يصرف همه لما يحسنه ويتيسر له وهذا أنفع له ولمن يتلقى منه.
س 2: ما هي الطريقة المثلى في البناء العلمي؟
ج2: من الخطأ اقتراح طريقة موحدة لجميع الطلاب في بناء الأصل العلمي، وذلك بسبب اختلاف الطلاب في أوجه العناية العلمية، واختلاف ملكاتهم وقدراتهم، وتباين الفرص العلمية المتاحة لهم،
فبعد أن يتم الطالب مرحلة التأسيس العلمي يكون قد تبيّن له ما يجيده من المهارات وما يبرع فيه؛ فيوجّه عنايته إلى ما يحسن من العلوم، وبالطريقة التي تكون أنفع له وأيسر عليه، فيختار الأنسب مسترشدا بنصح أستاذه، ويشرع في بناء أصل له؛ والأمثلة على الأصول العلمية كثيرة ومتنوّعة، ومن تأمل كثرتها علم أنها من سنن العلماء في بنائهم العلمي وإعدادهم العدة العلمية، وأنّهم بذلوا في سبيل ذلك ما بذلوا ، وأمضوا من الوقت ما أمضوا، وإنما لم ينشروا تلك الأصول لأنّها كانت أصولاً خاصّة لضبط التحصيل العلمي، وليست للنشر، وإنما ينشرون ما ينتقونه منها. ومن هذه الطرق:
النوع الأول: الأصول المبنية من كتب عالم من العلماء واسع المعرفة والاطلاع حسن الفهم كثير التأليف؛ فيقبل الطالب على كتبه ويلخص مسائلها؛ حتى يكون لديه أصل علمي حسن من كتب ذلك الإمام، ومعرفة حسنة بأقواله في المسائل، وبصيرة بمنهجه في ذلك العلم، ويستفيد من طريقته في المسائل التي درسها أصول دراسة نظائر تلك المسائل
مثال: الفقيه الحنبلي ابن مفلح تعهد مسائل الإمام أحمد فكانت له براعة في جمعها وتصنيفها، ومعرفة بمصادرها، وتمييز مراتب الروايات عن الإمام أحمد، حتى قال عنه ابن القيم: (ما تحت قبة الفلك أعلم بمذهب الإمام أحمد من ابن مفلح).
والنوع الثاني: العناية بالكتب الأصول في علم من العلوم؛ كأن يعتني طالب علم التفسير بتفسير مهمّ فيكثر من قراءته حتى يستظهر مسائله؛ ويعرف كوامنه، ويعتني طالب علم الفقه بكتاب جامع في الفقه فيضبط مسائله ويدمن قراءته، وقد سلك هذه الطريقة جماعة من العلماء؛ قال ابن فرحون المالكي: (لازمت تفسير ابن عطية حتى كدت أحفظه)
النوع الثالث: أن يتخذ أصلاً يستفيده من كتب متعددة فيلخّص مسائلها ويجمعها ويصنّفها؛ ولهذا أمثلة:
فقد لخّص الماوردي أقوال المفسّرين من مصادر متعددة في كتابه "النكت والعيون"، وتبعه على ذلك ابن الجوزي في كتابه "زاد المسير في علم التفسير" وزاد عليه كثيرا.ً
النوع الرابع: التأليف لغرض التعلّم، وهذه الطريقة سلكها بعض أهل العلم كالسيوطي رحمه الله فإنّه ألّف التحبير في علم التفسير وهو ابن ثلاث وعشرين سنة، وكرّر التأليف في علوم القرآن على صور مختلفة إلى أن ألّف كتابه الكبير "الإتقان في علوم القرآن" فكان كتاباً حسناً جامعا متقناً ، واعتنى به أهل العلم عناية حسنة، حتى عُدّ من أصول الكتب المؤلّفة في علوم القرآن.
النوع الخامس: الاجتهاد في شرح كتاب من الكتب المختصرة الشاملة لعامّة مسائل العلم الذي يطلبه، فيشرحه شرحاً وافياً حافلاً يعتني بتحريره وتهذيبه حتى يكون أصلاً جامعًا لمسائل ذلك العلم، وقد سلك هذه الطريقة جماعة من أهل العلم رحمهم الله ، ومن ذلك: ما فعله ابن القيّم لمّا شرح كتاب منازل السائرين في كتابه العظيم "مدارج السالكين" فشرحه شرحاً وافياً بديعاً محرراً حتى كان من أهمّ مراجع علم السلوك.
النوع السادس: أن يقسّم العلم الذي يطلبه إلى أبواب كبيرة، ويكون له في كلّ قسم أصل علمي كبير؛ إما أن يؤلّف فيه أو يجعل لنفسه ملخّصاً خاصّا به، وقد سلك هذه الطريقة جماعة من أهل العلم، ومن ذلك ما فعله الخطيب البغدادي في أكثر أبواب علوم الحديث؛ فإنّه قد جعل بذلك لنفسه أصولاً علمية متعددة في علوم الحديث، وقد أحسن في جمعها وتهذيبها حتى عدّت كتبه من أهمّ المراجع لدى العلماء في علوم الحديث، حتى قال الحافظ ابن نقطة: "كل من أنصف عَلِمَ أن المحدثين بعد الخطيب عيال على كتبه."
النوع السابع: الدراسات الجامعة المحررة لمسائل ذلك العلم، وهذا النوع من أصعب هذه الأنواع وأعظمها مشقّة، لكنه من أكثرها فائدة، ومن ذلك ما صنعه الأستاذ محمد عبد الخالق عضيمة في دراساته لأساليب القرآن؛ وأمضى في إعدادها أكثر من ثلاثة وثلاثين عاماً، وقال في كلمة الختام: (فقد أذن الله لهذا البحث أن يكتمل وأن يرى النور بعد أن أمضيت في إعداده وطباعته ما يزيد عن ثلاثة وثلاثين عاماً تابعت فيها الدرس، وواليت البحث من غير كلل ولا ملل، فجاء في أحد عشر جزءاً ضخماً ، ولقد كنت أخشى أن يحول الأجل دون الأمل، فالحمد لله والشكر له على أن مد في عمري وهيأ لي الأسباب التي مكنتني من طباعته).
بيّن عناية العلماء ببناء الأصول العلمية س3:
كان لكثير من العلماء أصولهم العلمية الخاصة بهم، وهي بمثابة العدّة العلمية، يداومون على مطالعتها وتحريرها والإضافة إليها، والإفادة منها، وهذه الأصول وإن كانت غير مشتهرة لدى كثير من طلاب العلم إلا أنّ لها أثراً كبيراً في التحصيل العلمي لدى العلماء.
وسبب عدم شهرة الأصول العلمية للعلماء أنهم لم يكونوا ينشرونها، بل ينتقون منها ما يصلح للنشر، ومن تأمّل سير العلماء المتقدّمين عرف عنايتهم بأصولهم العلمية، وأثرها في بنائهم العلمي وثرائهم المعرفي، والأمثلة على ذلك كثيرة منها:
أ: كان للإمام أحمد أصل انتقى أحاديث مسنده منه ، وقد تضمّن سبعمائة وخمسين ألف حديث.
ب: وقال إسحاق بن راهويه: (كأني أنظر إلى مائة ألف حديث في كتبي).
ج: وقال الإمام مسلم: (صنفت هذا المسند الصحيح من ثلاثمائة ألف حديث مسموعة).
د: وقال أبو داوود: (كتبت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم خمسمائة ألف حديث، انتخبت منها ما ضمّنته كتاب السنن).
هـ: جرى شبه تحدٍّ بين أصحاب الإمام أحمد من يكتب من كتاب الصلاة ما ليس في كتب أبي بكر بن أبي شيبة؛ فوجّه لهم أبو بكر الأثرم ستمائة ورقة على هذا الشرط !! ، وهذا لم يكن ليتأتّى له لولا أنّه كان لديه أصل علمي كبير قد اعتنى بجمعه وتصنيفه.
و: ما أجاب به الدارقطني في كتاب العلل مما يدلّ على سعة معرفته بالروايات وجمعه للطرق وتفطنّه لعلل الأسانيد علم أنّ ذلك لم يكن ليتهيّأ له من غير أصل علمي كبير متقن.
ز: ما ذكره ابن رشيق المغربي عن ابن تيمية رحمه الله أنّه وقف على خمسة وعشرين تفسيراً مسنداً، وأنه كتب نقول السلف مجردًا عن الاستدلال على جميع القرآن.وهذا أصل يعد من أعظم أسباب القوة العلمية لشيخ الإسلام ابن تيمية في التفسير.
س4:كيف يستعدّ طالب العلم لمرحلة النشر العلمي؟
ينبغي لطالب العلم في مرحلة النشر العلمي أن يحرص على أمرين:
الأول: أن يعتني بجوانب الإحسان والإجادة لديه، فيستثمرها وينميها ويجتهد في تحسينها، وقد روي عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه أنه قال: (قيمة كلّ امرئ ما يحسنه).
الثاني: أن يتجنّب تكلّف ما يشقّ عليه، فقد يكون ما زوي عنه فراغاً له ليعتني بما فتح له فيه، وليحذر من الموازنات الجائرة، ومحاكاة من لا يمكنه مقاربتهم فيما فتح لهم فيه. ولا بأس أن يعالج بعض جوانب الضعف لديه في الأمور الأخرى لكن بقدر لا يشقّ عليه، ولا يشغله عما فتح له فيه.
وينبغي أن يختار طالب العلم الطريقة الأوفق له في النشر العلمي، وأن يتدرّب على مهاراتها ويعدّ نفسه لها إعداداً حسناً، فمن كان يجيد الحديث والإلقاء، وله أسلوب مؤثر، ينبغي له أن يعتني بما أنعم الله عليه من هذه النعم، بتحسين سبل الإفادة منها.
ومن لا يفتح له في الإلقاء، لكنّه قد فتح له في الكتابة فله بها أسلوب حسن مؤثر؛ فينبغي له أن يعتني بما فتح الله له.
ومن وهبه الله قدرة عالية على الإدارة وحسن القيادة والأعمال الميدانية؛ فهؤلاء يوصون بالنهوض بالمشروعات العلمية والدعوية، وأن يجتهدوا في ذلك.
ومن امتن الله عليه بأن جمع له عدداً منها فذلك يختار مايشاء وإن إمكنه الجمع فذلك فضل الله يؤتيه من يشاء.