(1) قولُهُ: (والهجرةُ: الانتقالُ مِنْ بَلَدِ الشرْكِ إلَى بَلَدِ الإسلامِ)
الهجرةُ في اللغةِ معناها: الترْكُ والخروجُ مِنْ بَلَدٍ أوْ أَرْضٍ إلَى أُخْرَى.
وشَرْعًا: كما عَرَّفَها الْمُصَنِّفُ رَحِمَهُ اللهُ بأنَّها: الانتقالُ مِنْ بَلَدِ الشرْكِ إلَى بَلَدِ الإسلامِ.
ومُناسَبَةُ ذِكْرِ الهجرةِ معَ الأصولِ الثلاثةِ، لبيانِ أنَّ الهجرةَ مِنْ أَبْرَزِ تَكاليفِ الولاءِ والبَرَاءِ.
وبَلَدُ الشرْكِ: هوَ الذي تُقامُ فيهِ شَعائرُ الكُفْرِ، ولا تُقامُ فيهِ شَعائرُ الإسلامِ علَى وَجْهٍ عامٍّ.
وبلدُ الإسلامِ: هوَ البلَدُ الذي تَظْهَرُ فيهِ الشعائرُ والأحكامُ علَى وجهٍ عامٍّ.
وأهمُّ الشعائرِ: هيَ الصلاةُ:
- فإذا كانت الصلاةُ مَظْهَرًا مِنْ مَظاهِرِ البَلَدِ فهوَ بَلَدٌ إسلاميٌّ.
-أمَّا إذا كانت الصلاةُ يُقيمُها أفرادٌ أوْ جَماعاتٌ وهيَ ليستْ مِنْ مَظاهِرِ البَلَدِ فلا يُحْكَمُ علَى البَلَدِ بأنَّهُ بلدٌ إسلاميٌّ.
مِثل: البلادِ التي فيها أقَلِّيَّاتٌ مُسْلِمَةٌ يُقيمون الصلاةَ ولكن علَى نِطاقٍ ضَيِّقٍ في حُدودِ مُجْتَمَعِهم الذي يَعيشونَ فيهِ، أوْ في حُدودِ بيئتِهم، ولكنَّ البلَدَ الذي يُقيمونَ فيهِ أوْ هم مِنْ أَهْلِهِ لا تُقامُ فيهِ الصلاةُ بوَجْهٍ عامٍّ، بحيث لا تُوجَدُ عندَهم الْمَآذِنُ، ولا يُسْمَعُ الأذانُ في جميعِ الأنحاءِ، فمِثْلُ هذا لا يُعْتَبَرُ بَلَدًا إسلاميًّا؛ لأنَّهُ لا بُدَّ أنْ تكونَ الإقامةُ علَى وجهٍ عامٍّ.
فمَثَلاً:فَرَنْسَا فيها أقَلِّيَّاتٌ مسلِمةٌ وفيها إقامةٌ للصلاةِ مِنْ قِبَلِ هؤلاءِ، ولكنْ لا تُعْتَبَرُ مَظْهَرًا مِنْ مَظاهِرِ البلَدِ بحيثُ تَنْتَشِرُ الْمَآذِنُ ويُسْمَعُ الأذانُ هنا وهناكَ، ويَهْرَعُ الناسُ إلَى المساجِدِ.
فهذا هوَ معنَى قولِنا: إنَّ بلَدَ الإسلامِ هوَ الذي تَنْتَشِرُ فيهِ الشعائرُ والأحكامُ بوَجْهٍ عامٍّ.
أمَّا لوْ كانَ عنْ طريقِ أفرادٍ أوْ أُناسٍ قَليلينَ
فهذا لا يُطْلَقُ عليهِ أنَّهُ بلدٌ إسلاميٌّ بهذا الاعتبارِ.
(2) قولُهُ: (والهجرةُ فَريضةٌ علَى هذه الأُمَّةِ مِنْ بَلَدِ الشرْكِ إلَى بَلَدِ الإسلامِ) بَيَّنَ الْمُصَنِّفُ رَحِمَهُ اللهُ بهذا وُجوبَ الْهِجرةِ وأنَّها فَريضةٌ.
وهذا دَلَّتْ عليهِ النصوصُ مِن الكتابِ والسُّنَّةِ، وأَجْمَعَ المسلمونَ علَى ذلكَ؛ لِمَا فيها مِنْ حِفْظِ الدِّينِ ومُفارَقَةِ المشرِكينَ، فإنَّ المؤمِنَ الذي يَعْبُدُ ربَّهُ ويُخْلِصُ في عِبادتِهِ ويَبْغَضُ الشرْكَ وأهلَهُ، ويُعاديهم ويُقاطعُهم، لن يَتْرُكَهُ أهلُ الكفْرِ علَى دينِهِ معَ القُدرةِ عليهِ، قالَ تعالَى: {وَلاَ يَزَالُونَ يُقَاتِلُونَكُمْ حَتَّى يَرُدُّوكُمْ عَنْ دِينِكُمْ إِنِ اسْتَطَاعُوا}.
(3) قولُهُ: (وهيَ باقيَةٌ إلَى أن تَقومَ الساعةُ) أيْ: أنَّ الهجرةَ - وهيَ الانتقالُ مِنْ بَلَدِ الكُفْرِ والشرْكِ إلَى دارِ الإسلامِ - باقيَةٌ إلَى يومِ القِيامةِ باتِّفاقِ أهلِ الْعِلْمِ.
وقدْ وَرَدَ عنْ عائشةَ رَضِيَ اللهُ عنهُا قالَتْ: (لا هِجرةَ اليومَ، كانَ المؤمِنونَ يَفِرُّ أحدُهم بدينِهِ إلَى اللهِ تعالَى وإلَى رسولِهِ صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ مَخافةَ أن يُفْتَنَ عليهِ، فأمَّا اليومَ فقدْ أَظْهَرَ اللهُ الإسلامَ، واليومَ يَعْبُدُ رَبَّهُ حيث شاءَ، ولكن جِهادٌ ونِيَّةٌ ).
قالَ الحافظُ ابنُ حَجَرٍ: (أشارتْ عائشةُ إلَى بيانِ مَشروعيَّةِ الْهِجرةِ، وأنَّ سببَها خَوفُ الفِتنةِ، والحكْمُ يَدورُ معَ عِلَّتِهِ، فمُقتضاهُ أنَّ مَنْ قَدَرَ علَى عِبادةِ اللهِ في أيِّ مَوْضِعٍ اتَّفقَ لم تَجِبْ عليهِ الهجرةُ مِنه وإلاَّ وَجَبَتْ).
يقولُ شيخُ الإسلامِ ابنُ تَيميَّةَ رَحِمَهُ اللهُ: (أحوالُ البلادِ كأحوالِ العِبادِ، فيكونُ الرجُلُ تَارةً مُسْلِمًا، وتارةً كافرًا، وتارةً مؤمِنًا، وتارةً مُنافِقًا، وتارةً بَرًّا تَقِيًّا، وتارةً فاسقًا، وتارةً فاجرًا شَقِيًّا، وهكذا المساكِنُ بحَسَبِ سُكَّانِها.
فهِجرةُ الإنسانِ مِنْ مكانِ الكفْرِ والمعاصي إلَى مكانِ الإيمانِ والطاعةِ كتَوبتِهِ مِن الكُفْرِ والمعصيَةِ إلَى الإيمانِ والطاعةِ، وهذا أَمْرٌ باقٍ إلَى يومِ القِيامةِ).
وأمَّا قولُ النبيِّ صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ في الحديثِ الصحيحِ: ((لاَ هِجْرَةَ بَعْدَ الْفَتْحِ)).
فالمقصودُ بهِ: لا هِجرةَ مِنْ مَكَّةَ بعدَ فَتْحِها؛ لأنَّها صارَتْ دارَ إسلامٍ، وكلُّ بلدٍ يُفْتَحُ ويكونُ بلَدَ إسلامٍ فإنَّ الهجرةَ لا تَجِبُ مِنه.
(4) قولُهُ: (والدليلُ قولُهُ تعالَى: {إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلاَئِكَةُ ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ قَالُوا فِيمَ كُنْتُمْ قَالُوا كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الأَرْضِ قَالُوا أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللهِ وَاسِعَةً فَتُهَاجِرُوا فِيهَا فَأُولَئِكَ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَسَاءَتْ مَصِيرًا (97) إِلاَّ الْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ وَالْوِلْدَانِ لاَ يَسْتَطِيعُونَ حِيلَةً وَلاَ يَهْتَدُونَ سَبِيلاً (98) فَأُولَئِكَ عَسَى اللهُ أَنْ يَعْفُوَ عَنْهُمْ وَكَانَ اللهُ عَفُوًّا غَفُورًا})
هذه الآياتُ دليلٌ علَى وُجوبِ الهجرةِ.
والمستفادُ مِنْ كلامِ أهلِ الْعِلْمِ
- كـابنِ قُدامةَ رَحِمَهُ اللهُ، وغيرِهِ - أنَّ الهجرةَ مِنْ بَلَدِ الكفرِ ثلاثةُ أَضْرُبٍ، والناسُ ثلاثةُ أصنافٍ:
الصِّنْفُ الأَوَّلُ: تَجِبُ عليهِ الْهِجرةُ، وهوَ القادِرُ عليها معَ عَدَمِ إمكانِ إظهارِ دينِهِ، وهذا يَدُلُّ عليهِ قولُهُ تعالَى: {إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلاَئِكَةُ ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ قَالُوا فِيمَ كُنْتُمْ قَالُوا كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الأَرْضِ قَالُوا أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللهِ وَاسِعَةً فَتُهَاجِرُوا فِيهَا فَأُولَئِكَ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَسَاءَتْ مَصِيرًا}.
ووَجهُ الدَّلالةِ:أنَّ اللهَ جَلَّ وعلا وَصَفَهم بأنَّهُم ظالِمون لأنفسِهم، فمَنْ بَقِيَ في بَلَدِ الشرْكِ وهوَ قادرٌ علَى الهجرةِ ولا يَقْدِرُ علَى إظهارِ دينِهِ فهوَ ظالِمٌ لنفسِهِ، مُرْتَكِبٌ حَرامًا بالإجماعِ.
الصِّنْفُ الثاني: مَنْ لا هِجرةَ عليهِ، وهوَ العاجزُ عن الهجرةِ: إمَّا لِمَرَضٍ، أوْ إكراهٍ علَى الإقامةِ، فلم يَسْتَطِع الخروجَ، أوْ ضَعْفٍ مِن النساءِ والوِلدانِ وشَبَهِهم.
فهؤلاءِ لا هِجرةَ عليهم؛ لأنَّ اللهَ جلَّ وعَلاَ قالَ: {إِلاَّ الْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ وَالْوِلْدَانِ لاَ يَسْتَطِيعُونَ حِيلَةً وَلاَ يَهْتَدُونَ سَبِيلاً}وعليهِ أن يَعتزِلَ الكُفَّارَ ما استطاعَ ويُظْهِرَ دِينَهُ ويَصْبِرَ علَى أَذاهُمْ.
الصِّنْفُ الثالثُ: مَنْ تُسْتَحَبُّ لهُ الهجرةُ، ولا تَجِبُ عليهِ كما تَجِبُ علَى الصِّنْفِ الأَوَّلِ، وهذا في حقِّ مَنْ يَقدِرُ علَى الهجرةِ لكنه مُتَمَكِّنٌ مِنْ إظهارِ دِينِهِ، فهذا تُسْتَحَبُّ لهُ الهجرةُ لأَجْلِ أن يَتَمَكَّنَ مِنْ جِهادِ الكُفَّارِ، وتَكثيرِ المسلمينَ، والتخَلُّصِ مِن الكُفَّارِ ومُخالَطَتِهم.
فهذه ثلاثةُ أصنافٍ هيَ أَصنافُ الناسِ بالنسبةِ للهِجرةِ.
أمَّا الآيَةُ التي ساقَها الْمُصَنِّفُ فمعناها بإيجازٍ:
{إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلاَئِكَةُ} الْمُرَادُ بالملائكةِ إمَّا مَلَكُ الموتِ وأعوانُهُ، وإمَّا مَلَكُ الموتِ وَحْدَهُ؛ لأنَّ العربَ تُخَاطِبُ الواحدَ بلَفْظِ الجمْعِ.
وقولُهُ تعالَى: {ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ} هذا دليلٌ علَى وُجُوبِ الهجرةِ كما تَقَدَّمَ، والمعنى: أنَّهُم ظالمونَ لأنفسِهم بتَرْكِهم الهجرةَ.
{قَالُوا فِيمَ كُنْتُمْ} هذا استفهامُ تَوبيخٍ وتَقريعٍ لهم، والمعنَى: في أيِّ فريقٍ كنتم؟
{قَالُوا كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الأَرْضِ} يعني: عاجزينَ لا نَستطيعُ الخروجَ.
{قَالُوا أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللهِ وَاسِعَةً فَتُهَاجِرُوا فِيهَا}يعني: بإمكانِكم أن تَخْرُجوا إلَى أرضِ اللهِ الواسعةِ، والْمُرَادُ بها في ذلكَ الزمَنِ: المدينةُ.
{فَأُولَئِكَ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَسَاءَتْ مَصِيرًا}وهذا وَعيدٌ يَدُلُّ علَى أنَّ القادرَ علَى الهجرةِ الذي لا يَتَمَكَّنُ مِنْ إظهارِ دِينِهِ ولم يُهاجِرْ أنَّهُ قد ارْتَكَبَ كبيرةً مِنْ كَبائرِ الذنوبِ؛ لأنَّهُ لا يُتَوَعَّدُ بِمِثلِ هذا الوَعيدِ إلاَّ علَى تَرْكِ أَمْرٍ واجبٍ وهوَ الهجرةُ، فتَرْكُها كبيرةٌ مِنْ كبائرِ الذنوبِ.
قالَ تعالَى: {إِلاَّ الْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ وَالْوِلْدَانِ}هؤلاءِ هم الذينَ لا يَستطيعونَ الخروجَ.
{لاَ يَسْتَطِيعُونَ حِيلَةً} يعني: لا يَقْدِرونَ علَى حِيلةٍ، لا علَى خُروجٍ، ولا علَى نَفَقَةٍ، ولا علَى مَنْ يُهَيِّئُ أمرَهم.
{وَلاَ يَهْتَدُونَ سَبِيلاً}يعني: لا يَعرِفون الطريقَ، ولا يَستطيعونَ أن يَسِيرُوا وَحْدَهم.
قالَ تعالَى: {فَأُولَئِكَ عَسَى اللهُ أَنْ يَعْفُوَ عَنْهُمْ وَكَانَ اللهُ عَفُوًّا غَفُورًا}أيْ: عسَى اللهُ أنْ يَتجاوَزَ عنهم وهم الْمَعذورونَ بتَرْكِهم الهجرةَ.
والآيَةُ دليلٌ علَى وُجوبِ الهجرةِ وعلَى آكَدِيَّتِهَا.
يقولُ ابنُ كثيرٍ رَحِمَهُ اللهُ في تفسيرِهِ عندَ هذه الآيَةِ: (نَزَلَتْ هذه الآيَةُ الكريمةُ عامَّةً في كلِّ مَنْ أقامَ بينَ ظَهْرَانَي المشرِكينَ وهوَ قادِرٌ علَى الهجرةِ وليسَ مُتَمَكِّنًا مِنْ إقامةِ الدِّينِ، فهوَ ظالمٌ لنفسِهِ، مُرْتَكِبٌ حرامًا بالإجماعِ، وبنَصِّ هذه الآيَةِ ….).
فلا بُدَّ مِنْ شَرطينِ:
- القدرةُ علَى الهجرةِ.
-وعَدَمُ التَّمَكُّنِ مِنْ إظهارِ الدِّينِ.
فمَنْ لم يَفعلْ فهوَ ظالِمٌ لنفسِهِ.
يقولُ الشوكانيُّ رَحِمَهُ اللهُ: (اسْتُدِلَّ بهذه الآيَةِ علَى أنَّ الهجرةَ وَاجبةٌ علَى مَنْ كانَ بدارِ الشرْكِ أوْ بدارٍ يُعْمَلُ فيها بمعاصِي اللهِ جَهارًا ولم يكنْ مِن الْمُسْتَضْعَفين) ا. هـ
وإذا كانَ الإنسانُ مأمورًا بالهجرةِ مِنْ بلادِ الكُفْرِ،
دَلَّ هذا علَى أنَّ الأَصْلَ تحريمُ السفَرِ إلَى بلادِ الكُفْرِ استنادًا إلَى هذه النصوصِ، لكن لوْ وُجِدَ حاجةٌ تَدْعُو إلَى السفَرِ إلَى بلادِ الكُفْرِ، أو الإقامةِ فيها كطَلَبِ عِلْمٍ لا يُوجَدُ في بَلَدِهِ، أوْ لعلاجٍ، أوْ للدعوةِ، فإنَّ هذا يَجوزُ نَظَرًا للمَصلحةِ الْمُتَرَتِّبَةِ علَى هذه الإقامةِ؛ لأنَّ الأصْلَ هوَ عَدَمُ السفَرِ.
ويُفْهَمُ مِنْ كلامِ الْعُلَمَاءِ أنَّهُ لا يَجوزُ السفَرُ لبلادِ الكُفْرِ إلاَّ بثلاثةِ شُروطٍ:
الشرْطُ الأَوَّلُ: أنْ يكونَ عندَهُ عِلْمٌ يَمْنَعُهُ مِمَّا يَرِدُ عليهِ مِن الشُّبُهاتِ التي قدْ تَعْرِضُ لهُ في تلكَ البلادِ، فإنْ لم يكنْ عندَهُ عِلْمٌ فهوَ علَى خَطَرٍ عظيمٍ، فقدْ يَنْحَرِفُ في عَقيدتِهِ ويَنْخَدِعُ بما هم عليهِ، فلا بُدَّ أنْ يكونَ المسافِرُ علَى عِلْمٍ يَمْنَعُهُ مِمَّا يَرِدُ عليهِ مِن الشُّبُهَاتِ والإشكالاتِ.
الشرْطُ الثاني: أنْ يكونَ عندَهُ دِينٌ يَمْنَعُهُ مَمَّا يَرِدُ عليهِ مِن الشَّهَواتِ؛ لأنَّ تلكَ البلادَ بلادٌ مُغْرِيَةٌ، بلادُ الشهواتِ واللذاتِ التي تَقِفُ علَى قَدَمٍ وساقٍ، دونَ تَفريقٍ بينَ ما أَحَلَّ اللهُ وما حَرَّمَ اللهُ.
والذي لا دِينَ عندَهُ يَمْنَعُهُ مِن الوُقوعِ في هذه الْمُحَرَّمَاتِ يَكونُ عُرضةً للانحرافِ، ومُجاراةِ القومِ فيما هم عليهِ مِن الذنوبِ والمعاصي، غَائِبًا عنْ بَالِهِ عاقبةُ الأمرِ.
ومِنْ وَسائلِ السلامة
ِ - بإذْنِ اللهِ تعالَى -:
-أنْ يكونَ المسافِرُ مُتَزَوِّجًا.
-وأنْ تكونَ زَوجتُهُ معه ليُعِفَّ نفسَهُ ويَتَحَصَّنَ مِن الحرامِ، إذا كانَ يُريدُ الإقامةَ للدعوةِ أوْ للدراسةِ مَثَلاً.
الشرْطُ الثالثُ: أن يَتَمَكَّنَ مِنْ إظهارِ دينِهِ والقيامِ بعِبادةِ رَبِّهِ، كما أَمَرَ اللهُ جَلَّ وعلا، وعليهِ أن يَحْذَرَ كلَّ الْحَذَرِ مِنْ مُوالاةِ المشرِكينَ؛ لأنَّ مُوالاتَهم - كما مَرَّ معنا - تُنَافِي الإيمانَ.
أمَّا السفَرُ لبلادِ الكُفْرِ لِمُجَرَّدِ السياحةِ
فالقولُ بالْمَنْعِ أَظْهَرُ؛ لأنَّ اللهَ تعالَى أَوْجَبَ علَى الإنسانِ العملَ بالتوحيدِ، وفَرَضَ عليهِ عَداوةَ المشرِكينَ، فما كانَ ذَريعةً وسَبَبًا إلَى إسقاطِ ذلكَ فإنَّهُ لا يَجوزُ.
وقدْ وَرَدَ عن النبيِّ صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ أنَّهُ قالَ: ((أَنَا بَرِيءٌ مِمَّنْ يُقِيمُ بَيْنَ أَظْهُرِ الْمُشْرِكِينَ لاَ تَرَاءَى نَارُهُمَا)).
ومعنَى: (لاَ تَرَاءَى نَارُهُمَا) أيْ: لا تَرَى نارُ المسلِمِ نارَ الْمُشْرِكِ، ولا نارُ المشرْكِ نارَ المسلِمِ، وهذا كِنايَةٌ عن القُرْبِ.
والعرَبُ تَسْتَعْمِلُ مِثلَ هذا الأسلوبِ تَقولُ: (دَارِي تَنْظُرُ إلَى دارِهِ، ودَارُهُ تَنْظُرُ إلَى دَارِي) إذا أَرادُوا شِدَّةَ الْقُرْبِ.
فمَنْ سَافَرَ لِمُجَرَّدِ السياحةِ فهوَ علَى خَطَرٍ عظيمٍ مِنْ وُجوهٍ:
أوَّلاً: أنَّهُ خالَفَ النُّصوصَ علَى وُجوبِ الهجرةِ وتحريمِ السفَرِ، ومِنها حديثُ سَمُرَةَ رَضِيَ اللهُ عنهُ، أنَّ النبيَّ صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ قالَ: ((مَنْ جَامَعَ الْمُشْرِكَ وَسَكَنَ مَعَهُ فَإِنَّهُ مِثْلُهُ)).
ثانيًا: فَقْدُ الْغَيْرَةِ عندَهُ، وهذا شيءٌ مُلاَحَظٌ؛ فإنَّ الإنسانَ - وإن كانَ عندَهُ غَيْرَةٌ - إذا أَقامَ في بَلَدٍ تَكْثُرُ فيها الْمَعَاصِي؛ فإنَّ غَيْرَتَهُ تَضْعُفُ أوْ تَموتُ بالكُلِّيَّةِ، ويُصْبِحُ مُجارِيًا لهم فيما هم عليهِ.
وقدْ ذَكَرَ شيخُ الإسلامِ ابنُ تَيميَّةَ: (أنَّ مُشارَكَةَ الكُفَّارِ في الْهَدْيِ الظاهرِ تُوجِبُ الاختلاطَ الظاهِرَ حتَّى يَرتَفِعَ التمييزُ بينَ الْمَهْدِيِّينَ الْمَرْضِيِّينَ وبينَ المغضوبِ عليهم والضالِّينَ).
هذا إذا لم يكنْ ذلكَ الْهَدْيُ الظاهِرُ إلاَّ مُبَاحًا مَحْضًا لوْ تَجَرَّدَ عنْ مُشابَهَتِهم.
فأمَّا إن كانَ مِنْ مُوجِباتِ كُفْرِهم فإنَّهُ يكونُ شُعبةً مِنْ شُعَبِ الكُفْرِ، فمُوافَقَتُهم فيهِ مُوافَقَةٌ في نوعٍ مِنْ أنواعِ ضَلاَلِهم ومَعاصيهم فهذا أَصْلٌ يَنبغِي أن يُتَفَطَّنَ لهُ.
ثالثًا: أنَّ هذه الأسفارَ لا تَسْلَمُ غالبًا مِن الإسرافِ في الْمَصارِيفِ الْمَالِيَّةِ، وهذا فيهِ إنعاشٌ لاقتصادِهم وتَقويَةٌ لهم.
رابعًا: شعورُ الإنسانِ الذي يُقيمُ بأنَّهُ كَفَرْدٍ مِنهم، لهُ ما لهم وعليهِ ما عليهم.
أَضِفْ إلَى هذا أنَّ أهلَهُ مِن النساءِ والأطفالِ - إنْ كانوا معه - يَتَأَثَّرُونَ بأخلاقِ أهلِ تلكَ البلادِ؛ لأنَّ المرأةَ والطفْلَ والشابَّ أسرَعُ تَأَثُّرًا وأَكْثَرُ إِعجابًا بما عليهِ الآخَرُونَ.
(5) (وقولُهُ تعالَى: {يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ أَرْضِي وَاسِعَةٌ فَإِيَّايَ فَاعْبُدُونِ}، قالَ البَغَوِيُّ رَحِمَهُ اللهُ: (سببُ نُزُولِ هذه الآيَةِ في المسلمينَ الذينَ بِمَكَّةَ لم يُهاجِرُوا، ناداهم اللهُ باسمِ الإيمانِ))
هذا دليلٌ علَى أنَّ الذي يَتْرُكُ الهجرةَ ليسَ بكافرٍ؛ لأنَّ اللهَ تعالَى قالَ: {يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ آمَنُوا} ولوْ كانوا كُفَّارًا ما ناداهم باسمِ الإيمانِ.
وقدْ تَقَدَّمَ في كلامِ الْعُلَمَاءِ - كـابنِ كثيرٍ والشوكانيِّ - أنَّ تارِكَ الهجرةِ يُعْتَبَرُ عاصيًا ظالِمًا لنفسِهِ.
وكلامُ البَغَوِيِّ هذا لَخَّصَهُ الشيخُ رَحِمَهُ اللهُ مِمَّا حكاهُ البَغَوِيُّ رَحِمَهُ اللهُ عنْ جماعةٍ مِن السَّلَفِ.
والبَغَوِيُّ: هوَ الإمامُ الحافظُ الفقيهُ أبو مُحَمَّدٍ الْحُسينُ بنُ مَسعودٍ الْفَرَّاءُ الْبَغَوِيُّ، قالَ ابنُ كثيرٍ: (بَرَعَ في العلومِ وكان عَلاَّمَةَ زَمانِهِ فيها، وكان دَيِّنًا وَرِعًا زَاهِدًا عابِدًا صالحًا) ا. هـ
(لهُ مُؤَلَّفَاتٌ مِنها تفسيرُهُ (مَعَالِمُ التَّنزيلِ)، و(شَرْحُ السُّنَّةِ)، وغيرُهما، ماتَ رَحِمَهُ اللهُ سنةَ 516هـ.
وقولُهُ تعالَى: {يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ آمَنُوا} أيْ: بي وبرسولي ولِقائي.
وأَضَافَهم إليهِ بعدَ خِطابِهِ لهم تَشريفًا وتَكريمًا.
{إِنَّ أَرْضِي وَاسِعَةٌ} فإن كُنتمْ في ضِيقٍ مِنْ إظهارِ الإيمانِ، فاخْرُجُوا فإنَّ أَرْضِي واسعةٌ.
{فَإِيَّايَ فَاعْبُدُونِ} لا تَعْبُدُوا معي غَيْرِي، كما يُريدُ مِنكم الْمُشرِكونَ.
ففي الآيَةِ أَمْرٌ مِن اللهِ لعِبادِهِ المؤمِنينَ بالهجرةِ مِن البلَدِ الذي لا يَقْدِرونَ فيهِ علَى إقامةِ الدِّينِ، وأنَّهُ لا عُذْرَ لأَحَدٍ في تَرْكِ عِبادةِ اللهِ وتوحيدِهِ فيها؛ لأنَّهُ إن مُنِعَ مِنها في بَلَدٍ وَجَبَ عليهِ أن يُهاجِرَ إلَى بَلَدٍ آخَرَ.
(6) قولُهُ: (والدَّليلُ علَى الهجرةِ مِن السُّنَّةِ قولُهُ صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ: ((لاَ تَنْقَطِعُ الْهِجْرَةُ حَتَّى تَنْقَطِعَ التَّوْبَةُ، وَلاَ تَنْقَطِعُ التَّوْبَةُ حَتَّى تَطْلُعَ الشَّمْسُ مِنْ مَغْرِبِهَا)) )
معنَى انقطاعِ التوبةِ: عَدَمُ قَبُولِها، وإلاَّ قدْ تُوجَدُ التوبةُ، ولكنها لا تُقْبَلُ إذا طَلَعَت الشمسُ مِنْ مَغْرِبِها؛ لأنَّ هذا أَوانُ قِيامِ الساعةِ، قالَ تعالَى: {يَوْمَ يَأْتِي بَعْضُ آيَاتِ رَبِّكَ لاَ يَنْفَعُ نَفْسًا إِيمَانُهَا لَمْ تَكُنْ آمَنَتْ مِنْ قَبْلُ…}.
والحديثُ الذي ذَكَرَهُ الْمُصَنِّفُ مَرْوِيٌّ عنْ مُعاويَةَ بنِ أبي سُفيانَ رَضِيَ اللهُ عنهُ، وعنْ عبدِ اللهِ بنِ السعديِّ، أنَّ النبيَّ صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ قالَ: ((لاَ تَنْقَطِعُ الْهِجْرَةُ مَا دَامَ الْعَدُوُّ يُقَاتِلُ)).
فقالَ مُعاويَةُ، وعبدُ الرحمَنِ بنُ عَوْفٍ، وعبدُ اللهِ بنُ عمرِو بنِ العاصِ - رَضِيَ اللهُ عنهُم -: إنَّ النبيَّ صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ قالَ: ((إِنَّ الْهِجْرَةَ خَصْلَتَانِ، إِحْدَاهُمَا: أَنْ تَهْجُرَ السَّيِّئَاتِ، وَالأُخْرَى: أَنْ تُهَاجِرَ إِلَى اللهِ وَرَسُولِهِ، وَلاَ تَنْقَطِعُ الْهِجْرَةُ مَا تُقُبِّلَتِ التَّوْبَةُ، وَلاَ تَزَالُ التَّوْبَةُ مَقْبُولَةً حَتَّى تَطْلُعَ الشَّمْسُ مِنْ مَغْرِبِهَا - أوْ مِنَ الْمَغْرِبِ - فإذا طَلَعَتْ طُبِعَ علَى كلِّ قَلْبٍ بما فيهِ، وكُفِيَ الناسُ العملَ))