تقلّب القلوب وتصرّفها:
قلوب العباد بين إصبعين من أصابع الرحمن كقلب واحد، يقلّبها كيف يشاء، ويصرّفها كيف يشاء؛ فإذا شاء أن يقيم قلب عبد من عباده أقامه، وإذا شاء أن يزيغه أزاغه، فَمِنَ الله تعالى مبدأ استقامة القلوب وزيغها، وثباتها وتقلّبها، ولا ثبات للقلب إلا بتثبيت الله تعالى الذي يمسك السماء أن تقع على الأرض، ولولا تثبيت الله للقلوب ما ثبت منها قلبٌ واحد؛ فإذا كان خير القلوب وهو قلب النبي صلى الله عليه وسلم قال الله تعالى فيه: {وَلَوْلَا أَنْ ثَبَّتْنَاكَ لَقَدْ كِدْتَ تَرْكَنُ إِلَيْهِمْ شَيْئًا قَلِيلًا (74) إِذًا لَأَذَقْنَاكَ ضِعْفَ الْحَيَاةِ وَضِعْفَ الْمَمَاتِ ثُمَّ لَا تَجِدُ لَكَ عَلَيْنَا نَصِيرًا (75)} فما الظنّ بقلوب غيره ؟!!
ولذلك كان من أعظم دعوات المؤمنين قولهم: {رَبَّنَا لَا تُزِغْ قُلُوبَنَا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا وَهَبْ لَنَا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ (8)}
وكان أكثر دعاء النبي صلى الله عليه وسلم: (( يا مقلّب القلوب ثبّت قلبي على دينك))
وفي هذه المعاني المتقدّمة أحاديث صحيحة عن النبي صلى الله عليه وسلم وآثار عن الصحابة والتابعين وتابعيهم:
1. قال عبد الله بن عمر بن الخطاب: أكثر ما كان النبي صلى الله عليه وسلم يحلف: «لا ومقلب القلوب» رواه البخاري في صحيحه وأبو داوود والترمذي والنسائي من طريق موسى بن عقبة عن سالم بن عبد الله عن أبيه، وله طرق أخرى وفي بعضها "ومصرف القلوب".
2. وقال عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما أنّه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم، يقول: «إن قلوب بني آدم كلها بين إصبعين من أصابع الرحمن، كقلب واحد، يصرفه حيث يشاء» ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «اللهم مصرف القلوب صرف قلوبنا على طاعتك» رواه مسلم وأحمد والنسائي في الكبرى وغيرهم من طريق حيوة بن شريح قال: أخبرني أبو هانئ أنه سمع أبا عبد الرحمن الحبُلّي أنه سمع عبد الله بن عمرو بن العاص فذكره.
3. وقال شهر بن حوشب: قلت لأمّ سلمة: يا أمَّ المؤمنين ما كان أكثر دعاء رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا كان عندك؟
قالت: كان أكثر دعائه: (( يا مقلّب القلوب ثبّت قلبي على دينك))
قالت: فقلت: يا رسول الله ما لأكثر دعائك يا مقلب القلوب ثبت قلبي على دينك؟
قال: (( يا أمَّ سلمة إنه ليس آدميٌّ إلا وقلبه بين أصبعين من أصابع الله، فمن شاء أقام، ومن شاء أزاغ)). رواه أحمد والترمذي والطبراني من طريق أبي كعب عبد ربه صاحب الحرير، عن شهر به، وله طرق أخرى.
4. وقال أنس بن مالك: كان النبي صلى الله عليه وسلم يكثر أن يقول: (( يا مقلّب القلوب ثبّت قلبي على دينك))
قال: فقلنا يا رسول الله، آمنا بك وبما جئت به، فهل تخاف علينا؟
قال: فقال: ((نعم، إنَّ القلوب بين أصبعين من أصابع الله عز وجل يقلّبها كيف يشاء)). رواه أحمد والترمذي وأبو يعلى والحاكم من طريق الأعمش عن أبي سفيان عن أنس.
5. وقال النواس بن سمعان الكلابي رضي الله عنه: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ((ما من قلب إلا وهو بين أصبعين من أصابع رب العالمين، إن شاء أن يقيمه أقامه، وإن شاء أن يزيغه أزاغه))
وكان يقول: ((يا مقلب القلوب ثبت قلوبنا على دينك، والميزان بيد الرحمن يخفضه ويرفعه)). رواه أحمد والنسائي في الكبرى وابن حبان والحاكم من طريق بسر بن عبيد الله الحضرمي عن أبي إدريس الخولاني عن النواس.
6. وقال المقداد بن الأسود رضي الله عنه: ما آمن على أحد بعد الذي سمعت من رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «لقلب ابن آدم أسرع تقلبا من القدر إذا استجمعت غليانا» رواه ابن أبي عاصم في السنة والطبراني في مسند الشاميين، والبغوي في شرح السنة من طريق عبد الرحمن بن جبير بن نفير عن أبيه، عن المقداد، وحسّنه الحافظ العراقي وصححه الألباني، وروي نحوه من حديث الأعمش عن أبي سفيان عن أنس.
7. وقال أبو موسى الأشعري رضي الله عنه: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «مثل القلب كمثل ريشة بأرض فلاة يقلّبها الريح ظهرا لبطن» رواه ابن أبي عاصم في السنة والبزّار في مسنده من طريق يزيد بن هارون: أنبأنا الجريري، عن غنيم بن قيس، عن أبي موسى.
8. وقال أبو كبشة السدوسي: خطبنا أبو موسى [ الأشعري] فقال: (ألا وإنما سمي القلب من تقلبه، وإن مثل القلب كمثل ريشة بأرض فضاء تطير بها الريح ظهرا لبطن ألا وإن من ورائكم فتن كقطع الليل المظلم يصبح الرجل فيها مؤمنا ويمسي كافرا، والقاعد فيها خير من القائم، والقائم خير من الماشي، والماشي خير من الراكب).
قالوا: فما تأمرنا؟
قال: (كونوا أحلاس البيوت). رواه هنّاد بن السري في الزهد.
وأبو كبشة قال عنه الذهبي: لا يُعرف، وقال ابن حجر في التقريب: مقبول.
9. وذكر بلال بن سعد بن تميم السكوني عن أبي الدرداء قال: كان ابن رواحة يأخذ بيدي ويقول: «تعال نؤمن ساعة، إن القلب أسرع تقلبا من القدر إذا استجمعت غليانا»رواه ابن المبارك في الزهد.
وبلال بن سعد من خيار التابعين بالشام، كان إمام الجامع بدمشق في زمانه، ولأبيه صحبة، وكان من العلماء العبّاد الصالحين الثقات، قال أبو زرعة الدمشقي: (كان بالشام مثل الحسن البصري بالعراق).
وأبو الدرداء هو أخو عبد الله بن رواحة لأمّه.
والمقصود أن حاجة المرء إلى سؤال الله تعالى تثبيت قلبه وهدايته حاجةٌ دائمة متجددة، وقد ذكر بعض أهل العلم من حِكَم الأمر بالدعاء في كلّ ركعة بقولنا: {اهدنا الصراط المستقيم} الإعانة على تثبيت القلوب على الهداية والازدياد منها، وأنّ الحاجة إلى ذلك متكررة متّصلة بالمرء ما اتّصلت به الحياة، وذلك أنّ المؤمن يحتاج إلى البصيرة والإعانة على الطاعة في كلّ أمر من أموره؛ وبهما تحصل الهداية وتكمل.
وأصل الهداية هو دخول المرء في الإسلام، لكنّه يحتاج بعد ذلك إلى هدايات كثيرة متنوّعة، وتعترضه في يومه وليلة فتن كثيرة متنوّعة، ومن لم يهده الله ضلّ بها، ومن لمّ يثبّته الله لم يثبت.
فإنّ مجرّد العلم بالحقّ لا يحصل به الاهتداء إن لم يتبعه التوفيق للعمل.
- قال شيخ الإسلام ابن تيمية في رسالته في "أمراض القلوب وشفائها": (الذين هداهم الله من هذه الأمة حتى صاروا من أولياء الله المتقين كان من أعظم أسباب ذلك دعاؤهم الله بهذا الدعاء في كل صلاة مع علمهم بحاجتهم وفاقتهم إلى الله دائما في أن يهديهم الصراط المستقيم؛ فبدوام هذا الدعاء والافتقار صاروا من أولياء الله المتقين)ا.هـ.
فحاجة المؤمن إلى هذا الدعاء أشدّ الحاجات، والله تعالى يحبّ من عباده أن يدعوه بهذا الدعاء، ولذلك فرضه عليهم فرضاً متكررا دائماً، وأحبّ الأعمال إلى الله ما افترضه على عباده.
والهداية للصراط المستقيم شاملة لكلّ مراتب الهداية من الإرشاد والتوفيق، والعلم والعمل، وإذا حصلت الهداية حصل ما يترتب عليها من النصر والرزق والتوفيق وأنواع الفضائل والبركات، وما تطلبه النفس من أحوال السعادة.
وهذه الهداية المتّصلة وما يترتّب عليها من التثبيت على الإيمان والقول الثابت منّةٌ من الله تعالى، لا يبلغها العبد بمجرّد كسبه وذكائه ومعرفته لولا توفيق الله تعالى وتثبيته، كما قال الله تعالى: {يثبّت الله الذين آمنوا بالقول الثابت} ، وقال: {أولئك كتب في قلوبهم الإيمان وأيّدهم بروح منه} فأسند هذه الأفعال إليه سبحانه.
- قال شيخ الإسلام ابن تيمية في "درء تعارض العقل والنقل": (قد يكون الرجل من أذكياء الناس وأحدهم نظراً ويعميه عن أظهر الأشياء، وقد يكون من أبلد الناس وأضعفهم نظراً ويهديه لما اختلف فيه من الحق بإذنه، فلا حول ولا قوة إلا به؛ فمن اتكل على نظره واستدلاله، أو عقله ومعرفته خُذل، ولهذا كان النبي صلى الله عليه وسلم في الأحاديث الصحيحة كثيراً ما يقول: «يا مقلب القلوب ثبت قلبي على دينك» ويقول في يمينه: «لا ومقلب القلوب»)ا.ه.
وهذا التثبيت له أسباب من أهمّها سؤال الله تعالى التثبيت كما في قول الله تعالى: {ربنا لا تزغ قلوبنا بعد إذ هديتنا وهب لنا من لدنك رحمة إنك أنت الوهاب} وكما تقدّم في الأحاديث التي فيها سؤال التثبيت، وفعل الأسباب التي يثبّت الله بها قلوب عباده المؤمنين، ومن أهمّها اتّباع ما وعظ الله به عباده كما قال الله تعالى: { وَلَوْ أَنَّهُمْ فَعَلُوا مَا يُوعَظُونَ بِهِ لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ وَأَشَدَّ تَثْبِيتًا (66) وَإِذًا لَآتَيْنَاهُمْ مِنْ لَدُنَّا أَجْرًا عَظِيمًا (67) وَلَهَدَيْنَاهُمْ صِرَاطًا مُسْتَقِيمًا (68) وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَأُولَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُولَئِكَ رَفِيقًا (69) ذَلِكَ الْفَضْلُ مِنَ اللَّهِ وَكَفَى بِاللَّهِ عَلِيمًا (70)}
والحذر من زيغ القلوب وتقلّبها يعلّق قلب المؤمن بالله تعالى؛ فيبقى متوكلاً عليه في تثبيت قلبه وأن لا يزيغه، ومن توكّل على الله كفاه.
اللهمّ يا مقلّب القلوب ثبّت قلوبنا على دينك، ولا تزغ قلوبنا بعد إذ هديتنا وهب لنا من لدنك رحمة إنّك أنت الوهاب.