بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمـَنِ الرَّحِيمِ
{يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ وَأَحْصُوا الْعِدَّةَ وَاتَّقُوا اللَّهَ رَبَّكُمْ لاَ تُخْرِجُوهُنَّ مِنْ بُيُوتِهِنَّ وَلاَ يَخْرُجْنَ إِلاَّ أَنْ يَأْتِينَ بِفَاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ وَتِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ وَمَنْ يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ لاَ تَدْرِي لَعَلَّ اللَّهَ يُحْدِثُ بَعْدَ ذَلِكَ أَمْراً * فَإِذَا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ أَوْ فَارِقُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِنْكُمْ وَأَقِيمُوا الشَّهَادَةَ لِلَّهِ ذَلِكُمْ يُوعَظُ بِهِ مَنْ كَانَ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجاً * وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لاَ يَحْتَسِبُ وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ إِنَّ اللَّهَ بَالِغُ أَمْرِهِ قَدْ جَعَلَ اللَّهُ لِكُلِّ شَيْءٍ قَدْراً * وَاللاَّئِي يَئِسْنَ مِنَ الْمَحِيضِ مِنْ نِسَائِكُمْ إِنِ ارْتَبْتُمْ فَعِدَّتُهُنَّ ثَلاَثَةُ أَشْهُرٍ وَاللاَّئِي لَمْ يَحِضْنَ وَأُوْلاَتُ الأَحْمَالِ أَجَلُهُنَّ أَنْ يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مِنْ أَمْرِهِ يُسْراً * ذَلِكَ أَمْرُ اللَّهِ أَنْزَلَهُ إِلَيْكُمْ وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يُكَفِّرْ عَنْهُ سَيِّئَاتِهِ وَيُعْظِمْ لَهُ أَجْراً * أَسْكِنُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ سَكَنْتُمْ مِنْ وُجْدِكُمْ وَلاَ تُضَارُّوهُنَّ لِتُضَيِّقُوا عَلَيْهِنَّ وَإِنْ كُنَّ أُولاَتِ حَمْلٍ فَأَنْفِقُوا عَلَيْهِنَّ حَتَّى يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ فَإِنْ أَرْضَعْنَ لَكُمْ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ وَأْتَمِرُوا بَيْنَكُمْ بِمَعْرُوفٍ وَإِنْ تَعَاسَرْتُمْ فَسَتُرْضِعُ لَهُ أُخْرَى * لِيُنْفِقْ ذُو سَعَةٍ مِنْ سَعَتِهِ وَمَنْ قُدِرَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ فَلْيُنْفِقْ مِمَّا آتَاهُ اللَّهُ لاَ يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إِلاَّ مَا آتَاهَا سَيَجْعَلُ اللَّهُ بَعْدَ عُسْرٍ يُسْراً * وَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ عَتَتْ عَنْ أَمْرِ رَبِّهَا وَرُسُلِهِ فَحَاسَبْنَاهَا حِسَاباً شَدِيداً وَعَذَّبْنَاهَا عَذَاباً نُكْراً * فَذَاقَتْ وَبَالَ أَمْرِهَا وَكَانَ عَاقِبَةُ أَمْرِهَا خُسْراً * أَعَدَّ اللَّهُ لَهُمْ عَذَاباً شَدِيداً, فَاتَّقُوا اللَّهَ يَا أُولِي الأَلْبَابِ الَّذِينَ آمَنُوا قَدْ أَنْزَلَ اللَّهُ إِلَيْكُمْ ذِكْراً * رَسُولاً يَتْلُو عَلَيْكُمْ آيَاتِ اللَّهِ مُبَيِّنَاتٍ لِيُخْرِجَ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ وَيَعْمَلْ صَالِحاً يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَداً قَدْ أَحْسَنَ اللَّهُ لَهُ رِزْقاً * اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ وَمِنَ الأَرْضِ مِثْلَهُنَّ يَتَنَزَّلُ الأَمْرُ بَيْنَهُنَّ لِتَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ وَأَنَّ اللَّهَ قَدْ أَحَاطَ بِكُلِّ شَيْءٍ عِلْماً}.
تفسيرُ سورةِ الطَّلاقِ
وهي مَدنيَّةٌ في قَوْلِ الجميعِ
قولُه تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ}. فإنْ قِيلَ: كيفَ خاطَبَ النبيُّ صَلَّى اللَّهُ عليه وسلَّمَ وَحْدَه في الابتداءِ ثم قالَ: {إِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ}؟
والجوابُ مِن أَوْجُهٍ:
أحَدُها: أنَّ خِطابَ النبيِّ عليه الصلاةُ والسلامُ خطابٌ لأُمَّتِه، مِثلُ خِطابِ الرئيسِ يَكونُ خِطاباً للأَتْبَاعِ, وكأنَّه قالَ: يا أيُّها النبيُّ والمؤمنونَ إذا طَلَّقْتُمُ النساءَ.
والجوابُ الثاني: أنَّ قَوْلَه: {إِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ} على تَحويلِ الْخِطابِ إلى الغيرِ، مِثلُ قولِه تعالى: {حَتَّى إِذَا كُنْتُمْ فِي الْفُلْكِ وَجَرَيْنَ بِهِمْ بِرِيحٍ طَيِّبَةٍ وَفَرِحُوا بِهَا...}.
والجوابُ الثالثُ: أنَّ فيه تقديرَ محذوفٍ، وتَقديرُه: يا أيُّها النبيُّ قُلْ للمُؤْمنِينَ، إذا طَلَّقْتُمُ النساءَ.
ورَوَى قَتادةُ, عن أنَسٍ أنَّ النبيَّ صَلَّى اللَّهُ عليه وسلَّمَ طَلَّقَ حَفْصَةَ؛ فأَنْزَلَ اللَّهُ تعالى هذه الآيةَ، وقالَ له جِبْرِيلُ: يَقولُ لكَ رَبُّكَ: راجِعْها؛ فإِنَّها صَوَّامَةٌ قَوَّامَةٌ، وهي مِن أزواجِكَ في الْجَنَّةِ.
وقولُه: {فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ} معناهُ: لِزَمَنِ عِدَّتِهِنَّ, وهو الطُّهْرُ، وفيه دَليلٌ على أنَّ الأقراءَ التي تَنْقَضِي بها العِدَّةُ هي الأَطهارُ، وهذا قولُ أهْلِ الْحِجازِ.
وأمَّا مَن قالَ: إنَّ الأقراءَ هي الْحِيَضُ قالَ: معنَى قولِه: {لِعِدَّتِهِنَّ}؛ أيْ: لِيَعْتَدِدْنَ, مثلُ
قولِه تعالى: {فَالْتَقَطَهُ آلُ فِرْعَوْنَ لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوًّا وَحَزَناً}. أيْ: لِيَحْزَنُوا. ذكَرَهَ النَّحَّاسُ.
وقَرَأَ في الشاذِّ: (فطَلِّقُوهُنَّ لِقُبُلِ عِدَّتِهِنَّ), وقيلَ: إِنَّها قِراءَةُ النبيِّ صَلَّى اللَّهُ عليه وسلَّمَ، فمَن قالَ: إنَّ الأقْرَاءَ هي الْحِيَضُ استَدَلَّ بهذه القراءَةِ؛ لأنَّ هذه اللَّفْظَةَ تَقتضِي أنْ يَكُونَ زَمانُ الطلاقِ قَبْلَ زَمانِ العِدَّةِ، وأنَّ زَمانَ العِدَّةِ يَتعقَّبُ زَمانَ الطلاقِ.
وأمَّا مَن قالَ بأنَّ الأَقْرَاءَ هُنَّ الأَطْهارُ قالَ: فمَعنى قولِه: (لِقُبُلِ عِدَّتِهِنَّ) أيْ: لوَجْهِ عِدَّتِهِنَّ.
فإنْ قِيلَ: إنَّ قُبُلَ الشيءِ وَجْهُه، والمرادُ في أوَّلِ زمانِ الطُّهْرِ. فإنْ قِيلَ: أوَّلُ زمانِ الطُّهْرِ وآخرُه واحِدٌ في الطلاقِ, فليسَ المعنَى إلاَّ ما ذَكَرْنا.
قُلْنَا: ليسَ كذلك, بلِ الأَوْلَى أنْ يُطَلِّقَ في أوَّلِ زَمانِ الطُّهْرِ إذا أرادَ الطلاقَ؛ لأنَّه إذا أَخَّرَ لم يَأمَنْ أنْ يُجامِعَها ثم يُطَلِّقَ, فيَكُونَ قدْ طلَّقَ طلاقَ البِدْعَةِ.
وقدْ رُوِيَ عن عُمَرَ وابنِ مَسعودٍ وابنِ عبَّاسٍ ومُجاهِدٍ وغيرِه مِن التابعِينَ معنَى قولِه: {لِعِدَّتِهِنَّ}. أيْ: طاهِراً مِن غيرِ جِمَاعٍ.
وقدْ ثَبَتَ هذا اللفْظُ عن النبيِّ صَلَّى اللَّهُ عليه وسلَّمَ بروايةِ نافِعٍ عن ابنِ عُمرَ, أنَّه طَلَّقَ امرأتَه في حالِ الْحَيْضِ، فقالَ له النبيُّ صَلَّى اللَّهُ عليه وسلَّمَ: ((رَاجِعْهَا ثُمَّ أَمْسِكْهَا حَتَّى تَطْهُرَ ثُمَّ تَحِيضَ ثُمَّ تَطْهُرَ، ثُمَّ إِنْ شِئْتَ طَلِّقْهَا طَاهِراً مِنْ غَيْرِ جِمَاعٍ، وَتِلْكَ الْعِدَّةُ الَّتِي أَمَرَ اللَّهُ تَعَالَى أنْ يُطَلَّقَ لَهَا النِّسَاءُ)).
وفي رِوايةٍ: أنَّه قالَ لعُمَرَ: ((مُرْهُ فَلْيُرَاجِعْهَا)).
وفي روايةٍ: ((ثُمَّ إِذَا طَهُرَتْ إِنْ شَاءَ طَلَّقَهَا طَاهِراً مِنْ غَيْرِ جِمَاعٍ)) ولم يَذْكُرْ: ((ثُمَّ تَحِيضَ ثُمَّ تَطْهُرَ)).
وعن أَنَسٍ وابنِ سِيرِينَ أنَّه قالَ لابنِ عُمَرَ: احْتَسَبْتَ بِتِلْكَ الطَّلْقَةِ؟ قالَ: نَعَمْ.
() وفي رِوايةٍ ثالثةٍ: قالَ: نَعَمْ, وإنْ عَجَزْتُ واستَحْمَقْتُ.
وقولُه: {وَأَحْصُوا الْعِدَّةَ} هذا خِطابٌ للأزواجِ، أمَرَهم أنْ يُحْصُوا العِدَّةَ لِيَعْرِفوا زَمانَ الرَّجْعَةِ ومُدَّةَ انقطاعِها. ويُقالُ: ليَعْرِفُوا مُدَّةَ الإنفاقِ عليهنَّ.
وقولُه: {وَاتَّقُوا اللَّهَ رَبَّكُمْ}. يَعنِي: طَلِّقُوا للسُّنَّةِ، ولا تُطَلِّقُوا للبِدْعَةِ.
ويُقالُ: اتَّقُوا رَبَّكُم في تَرْكِ إخراجِهِنَّ مِن البُيوتِ.
وأمَّا صِفةُ طلاقِ السُّنَّةِ، فهو مِن حيثُ الوَقْتُ أنْ يُطَلِّقَها طَاهِراً مِن غيرِ جِماعٍ، وأمَّا مِن حيثُ العِدَّةُ، فمَذهَبُ مالكٍ والثَّوْرِيِّ وأبي حَنيفةَ وكثيرٍ مِن العُلماءِ أنَّه يُكْرَهُ الطلاقُ ثَلاثاً جُملةً.
والسُّنَّةُ أنْ يُطَلِّقَها واحدةً ويَتْرُكَها حتَّى تَنقضِيَ عِدَّتُها، هذا هو الأَوْلَى. قالَه مالِكٌ.
وإنْ أرادَ أنْ يُطَلِّقَ ثلاثاً فَرَّقَ على الأطهارِ، فيُطَلِّقَ لكُلِّ طُهْرٍ طَلقةً.
وأمَّا مَذْهَبُ الشافِعِيِّ رَحِمَه اللَّهُ أنَّه ليسَ في الجَمْعِ والتفريقِ سُنَّةٌ ولا بِدعةٌ.
وقدْ ذَكَرَ الأصحابُ الأَوْلَى أنْ يُطَلِّقَ واحدةً, وإنْ لَمْ يَكْرَهِ الجمْعَ بينَ الثلاثِ, قالوا: وهو الْمَذْهَبُ.
وفي الآيةِ دَليلُ الشافعيِّ على قولِه؛ لأنَّ اللَّهَ تعالى أَباحَ الطلاقَ بقولِه: {فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ}. مُطَلَقاً.
ولم يُفَرِّقْ بينَ أنْ يُطَلِّقَ واحدةً أو أَكثرَ منها؛ ولأنَّ اللَّهَ تعالى بَيَّنَ وَقْتَ الطلاقِ ولم يُبَيِّنْ عَدَدَه، والآيةُ وَرَدَتْ لبيانِ الْمَسْنُونِ مِن الطلاقِ, فلو كانَ في عَدَدِ الطلاقِ سُنَّةٌ لم يُؤَخَّرْ بَيَانُها.
وقولُه: {لاَ تُخْرِجُوهُنَّ مِنْ بُيُوتِهِنَّ}. أيْ: في زَمانِ العِدَّةِ، ونَسَبَ البيوتَ إليهِنَّ لأجْلِ السُّكْنَى.
وقولُه: {وَلاَ يَخْرُجْنَ}. أيْ: لا يَخْرُجْنَ بأنْفُسِهِنَّ.
وقولُه: {إِلاَّ أَنْ يَأْتِينَ بِفَاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ}. اختَلَفَ القولُ في معنَى الفاحشةِ ههنا؛ فأظهَرُ الأقاوِيلِ: أنَّها الزِّنَا، وهذا قولُ ابنِ مَسعودٍ وإِحْدَى الرِّوايتَيْنِ عن ابنِ عبَّاسٍ, وهو قولُ الحَسَنِ والشَّعْبِيِّ وعِكْرِمةَ وحَمَّادِ بنِ أبي سَلَمَةَ واللَّيْثِ, وجماعةٍ كثيرةٍ.
والمرادُ مِن الآيةِ على هذا: إلاَّ أنْ تَزْنِيَ فتَخرُجَ؛ لإقامةِ الْحَدِّ.
والقولُ الثاني: أنَّ الفاحشةَ هي أنْ تَبْذُوَ على أهْلِها. قالَه ابنُ عبَّاسٍ في إِحْدَى الرِّوايتيْنِ.
ويُقالُ في قِراءَةِ أُبَيِّ بنِ كَعْبٍ: (إِلاَّ أنْ يُفْحِشْنَ). وهذه القِرَاءَةُ تُقَوِّي هذا القولَ.
ورُوِيَ عن عائشةَ أنَّها قالَتْ لفاطمةَ بنتِ قَيسٍ: اتَّقِي اللَّهَ؛ فإنَّكِ تَعْلَمِينَ أنَّ الرسولَ صَلَّى اللَّهُ عليه وسلَّمَ أَخْرَجَكِ. يَعني: مِن بيتِ زوجِها، وكانَتْ تَبْذُو بِلِسَانِها.
والقولُ الثالثُ: ما رُوِيَ عن ابنِ عمرَ, أنَّه قالَ: الفاحشةُ نفْسُ الخُروجِ. وهو مَحْكِيٌّ عن إبراهيمَ النَّخَعِيِّ. فعلى هذا تقديرُ الآيةِ, إلاَّ أنْ يَأْتِينَ بفاحشةٍ مُبَيِّنَةٍ بخُرُوجِهِنَّ.
وقالَ بعضُهم: الفاحشةُ ههنا جميعُ المعاصِي، وأَوْلَى الأقاويلِ هو الأوَّلُ؛ لكَثْرَةِ مَن قَالَ به، ولأنَّه مُوافِقٌ لقولِه: {وَاللاَّتِي يَأْتِينَ الْفَاحِشَةَ}, وأَجْمَعوا على أنَّ المرادَ به الزِّنَا.
وقولُه: {وَتِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ}. قالَ السُّدِّيُّ: هي شُروطُ اللَّهِ، ويُقالُ: شرْعُ اللَّهِ. وقيلَ: أمْرُه ونَهْيُه.
وقولُه: {وَمَنْ يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ}. أيْ: أهْلَكَ نفْسَه وأَوْبَقَها.
وقولُه: {لاَ تَدْرِي لَعَلَّ اللَّهَ يُحْدِثُ بَعْدَ ذَلِكَ أَمْراً} القولُ المعروفُ في هذا أنَّه الرَّغبةُ في الْمُراجعةِ، وفيه دَليلٌ على أنَّ المرادَ بقولِه: {فَطَلِّقُوهُنَّ} في ابتداءِ الآيةِ هو الطَّلْقَةُ والطَّلْقَتانِ دُونَ الثلاثةِ.
ويُقالُ: إنَّ المرادَ منه الواحدةُ والثلاثُ جَميعاً.
قالَ في قولِه تعالى: {لاَ تَدْرِي لَعَلَّ اللَّهَ يُحْدِثُ بَعْدَ ذَلِكَ أَمْراً} قالَ: هو النَّسْخُ.
ومعناه: لَعَلَّ اللَّهَ يَنْسَخُ هذا الحُكْمَ ويَرفَعُه.
وقيلَ: هو الرَّغبةُ في ابتداءِ النِّكاحِ بعدَ زَوْجٍ آخَرَ.
وقولُه: {فَإِذَا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ}. أيْ: قارَبْنَ بُلوغَ أجَلِهِنَّ, وهو انْقِضاءُ العِدَّةِ.
وقولُه: {فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ}. أيْ: رَاجِعُوهنَّ بمَعروفٍ, ومعناهُ: على ما أمَرَ اللَّهُ تعالى.
ويُقالُ: المعروفُ ههنا: هو أنْ يُراجِعَها ليُمْسِكَها, لا أنْ يُراجِعَها فيُطَلِّقَها فيُطَوِّلَ العِدَّةَ عليها، على ما كانَ يَفْعَلُه أهْلُ الجاهليَّةِ.
وقولُه: {أَوْ فَارِقُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ}. معناهُ: أنْ يَتْرُكَها لِتَنْقَضِيَ العِدَّةُ فتَقَعَ الفُرقةُ.
والمَعْروفُ: هو ما أَمَرَ اللَّهُ تعالى به مِن إيصالِ حَقِّها إليها مِن السُّكْنَى والنَّفَقَةِ في مَوْضِعِ الوُجوبِ.
ويقالُ: {بِمَعْرُوفٍ}؛ أيْ: مِن غيرِ قَصْدِ مُضَارَّةٍ.
قولُه: {وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِنْكُمْ}. فيه ثلاثةُ أقوالٍ:
أحَدُها: أنَّ الإشهادَ واجِبٌ في الطلاقِ والرَّجْعَةِ بظاهِرِ الآيةِ.
والقولُ الثاني: أنَّ الإشهادَ يَجِبُ في الرَّجْعَةِ ولا يَجِبُ في الْمُفَارَقَةِ, وهو أحَدُ قَوْلَيِ الشافعِيِّ رَضِيَ اللَّهُ عنه, وهو قَولُ طاوُسٍ مِن التابعِينَ.
والقولُ الثاني: أنَّه يُنْدَبُ إلى الإشهادِ في الرَّجْعَةِ، ولا يَجِبُ، وعليهِ أكْثَرُ أهْلِ العلْمِ, وهو قولٌ آخَرُ للشافعيِّ رَحْمَةُ اللَّهِ عليه.
وأمَّا العَدْلُ: هو مُستقيمُ الحالِ في مُعامَلاتِ الشرْعِ وأَوامِرِه.
وقالَ مَنصورٌ: سَألْتُ إبراهيمَ عن العَدْلِ فقالَ: هو الذي لم يَظْهَرْ فيه رِيبةٌ.
وقولُه: {وَأَقِيمُوا الشَّهَادَةَ لِلَّهِ}. هو خِطابٌ للشُّهداءِ بأداءِ الشهاداتِ على وُجُوهِها.
وقولُه: {ذَلِكُمْ يُوعَظُ بِهِ مَنْ كَانَ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ}
وقولُه: {وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجاً}. قالَ ابنُ عَبَّاسٍ: مِن كُلِّ أمْرٍ ضَاقَ على الناسِ.
وعنه قالَ: إذا اتَّقَى اللَّهَ في الطلاقِ على وَجْهِ السُّنَّةِ بأنْ طَلَّقَ واحدةً، جَعَلَ له مَخرَجاً منه في جَوازِ الرَّجْعَةِ.
ورُوِيَ أنَّ رَجُلاً أَتاهُ وقالَ: إنَّ عَمِّي طَلَّقَ امرأتَه ثَلاثاً, فهل له مَخرَجٌ؟ فقالَ: إنَّ عمَّكَ عَصَى اللَّهَ فأَثِمَ، وأطاعَ الشيطانَ فلَمْ يَجْعَلْ له مَخْرَجاً.
وفي بعضِ الأخبارِ بروايةِ ابنِ عَبَّاسٍ: أنَّ النبيَّ صَلَّى اللَّهُ عليه وسلَّمَ قالَ في قولِه: {وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجاً}. قالَ: ((مِنْ غُمُومِ الدُّنْيَا وَغَمَرَاتِ الْمَوْتِ وَشَدَائِدِ الآخِرَةِ)).
وقولُه: {وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لاَ يَحْتَسِبُ}. أيْ: مِن حيثُ لا يَرْجُو ولا يَأمُلُ.
وقِيلَ: يُقَنِّعُه بما رَزَقَه.
وفي التفسيرِ: أنَّ هذهِ الآيةَ نَزَلَتْ في عَوْفِ بنِ مالِكٍ الأَشْجَعِيِّ أُسِرَ ابنُه، فجاءَ إلى النبيِّ صَلَّى اللَّهُ عليهِ وسلَّمَ يَشكُو إليهِ فقالَ: ((اصْبِرْ وَاتَّقِ اللَّهَ)) فرَجَعَ، ثُمَّ إنَّ العدُوَّ غَفَلُوا عن ابنِهِ مَرَّةً فهَرَبَ منهم وساقَ معَ نفْسِه إبِلاً ورَجَعَ إلى أبيهِ وجاءَ بالإبِلِ, فأَتَى النبيَّ صَلَّى اللَّهُ عليه وسلَّمَ وأَخْبَرَه بذلك، وسَأَلَه عمَّا سَاقَه إليه ابنُه هل يَحِلُّ له ذلك؟ فأَنْزَلَ اللَّهُ تعالى هذه الآيةَ.
فالْمَعنِيُّ بقولِه: {وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لاَ يَحْتَسِبُ}. هو ما جاءَ به ابنُ عَوْفِ بنِ مالِكٍ إلى أبيهِ مِن الإِبِلِ.
وقولُه تعالى: {وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ}. أيْ: يَثِقْ باللَّهِ ويُفَوِّضْ أمْرَه إليه.
ويُقالُ: التوَكُّلُ على اللَّهِ هو الرِّضَا بقَضائِه. وفي بعضِ الأخبارِ عن النبيِّ صَلَّى اللَّهُ عليه وسلَّمَ أنَّه قالَ: ((مَنِ انْقَطَعَ إِلَى اللَّهِ كَفَاهُ اللَّهُ كُلَّ مُؤْنَةٍ، وَمَنِ انْقَطَعَ إِلَى الْخَلْقِ وَكَلَهُ إِلَيْهِمْ)).
وقولُه: {إِنَّ اللَّهَ بَالِغُ أَمْرِهِ}. أيْ: كلِّ ما يُريدُه في خَلْقِه.
وقولُه: {قَدْ جَعَلَ اللَّهُ لِكُلِّ شَيْءٍ قَدْراً}؛ أيْ: مِقداراً وأَجَلاً يُنْتَهَى إليه.
قولُه تعالى: {وَاللاَّئِي يَئِسْنَ مِنَ الْمَحِيضِ مِنْ نِسَائِكُمْ}. الآيةَُ مُشكِلَةٌ؛ لقولِه: {إِنِ ارْتَبْتُمْ}, واختَلَفَتِ الأقوالُ في قولِه: {إِنِ ارْتَبْتُمْ}.
أَظْهَرُ الأقاويلِ: أنَّ اللَّهَ تعالى لَمَّا بَيَّنَ عِدَّةَ ذَواتِ الأقْرَاءِ قالَ جَماعةٌ مِن أصحابِ رسولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عليهِ وسلَّمَ: قدْ عَرَفْنَا عِدَّةَ ذَواتِ الأقراءِ، فكيفَ عِدَّةُ الآيِساتِ والصغائِرِ وذَواتِ الأحمالِ؟ فأنْزَلَ اللَّهُ تعالى هذه الآيةَ.
وقولُه: {إِنِ ارْتَبْتُمْ}. خِطابٌ لأولئكَ الجماعةِ؛ أيْ: شَكَكْتُم في عِدَّتِهِنَّ فلَمْ تَعْرِفُوها.
وفي بعضِ التفاسيرِ: أنَّ مُعاذَ بنَ جَبَلٍ سَأَلَ رسولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عليه وسلَّمَ عن ذلك.
وعن بعضِهم: أنَّ أُبَيَّ بنَ كَعْبٍ سَأَلَ رَسولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عليه وسلَّمَ عن ذلك.
والقولُ الثاني: أنَّ قولَه تعالى: {إِنِ ارْتَبْتُمْ}. أيْ: لَمْ تَعْرِفُوا أنَّها تَحِيضُ أو لا تَحِيضُ, وذلكَ في المرأةِ الشابَّةِ إذا ارْتَفَعَ حَيْضُها لعِلَّةٍ.
قالَ عُمَرُ رَضِيَ اللَّهُ عنه: تَنْتَظِرُ سبعةَ أشْهُرٍ، فإنْ لم تَرَ الْحَيْضَ اعْتَدَّتْ بثلاثةِ أشهُرٍ. وهذا قولُ مالِكٍ، وحُكِيَ عن مُجاهِدٍ نحوُ ما ذَكَرْنَا.
والقولُ الثالثُ: أنَّ قولَه: {إِنِ ارْتَبْتُمْ}. راجِعٌ إلى قولِه تعالى: {لاَ تُخْرِجُوهُنَّ مِنْ بُيُوتِهِنَّ وَلاَ يَخْرُجْنَ}.
والمعنَى: إنِ ارْتَبْتُمْ في انقضاءِ عِدَّتِها فلا تُخْرِجُوهُنَّ مِن بُيُوتِهِنَّ ولا يَخْرُجْنَ. ذَكَرَه النَّحَّاسُ.
وأمَّا الآيِسَةُ: فهي التي لا تَرَى أمثالُها الْحَيْضَ, فعِدَّتُها ثلاثةُ أشْهُرٍ.
وعلى مَذْهَبِ أكثَرِ العُلماءِ أنَّ الشابَّةَ وإنِ ارْتَفَعَ حَيْضُها لعِلَّةٍ، لا تَنْقَضِي عِدَّتُها بالشهورِ ما لَمْ تَيْأَسْ, قالوا: ولو شاءَ اللَّهُ لابْتَلاَهَا بأكثَرَ مِن ذلك.
وقولُه: {وَاللاَّئِي لَمْ يَحِضْنِ}. هُنَّ الصغائِرُ.
وقولُه: {وَأُولاَتُ الأَحْمَالِ أَجَلُهُنَّ أَنْ يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ}. هذا الحُكْمُ مُتَّفَقٌ عليهِ في الْمُطَلَّقَاتِ الحَوامِلِ، فأمَّا المُتوَفَّى عنها زَوْجُها اختَلَفَ الصحابةُ في ذلكَ، فقالَ عَلِيٌّ وابنُ عبَّاسٍ: إنَّ عِدَّتَها أبعَدُ الأَجَلَيْنِ.
وقالَ عُمَرُ وابنُ مَسْعودٍ وابنُ عُمَرَ وأبو هُريرةَ: إنَّ عِدَّتَها بوضْعِ الحمْلِ. وهذا هو القولُ المُخْتارُ.
وعن ابنِ مَسعودٍ أنَّه قالَ: نَزَلَتْ سُورةُ النِّساءِ القُصْوَى بعدَ قولِه تعالى: {وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجاً}. فقَدْ نَقَلَ ابنُ مَسعودٍ نَسْخَ تلكَ الآيةِ بهذهِ الآيةِ.
وفي رِوايةٍ عنه أنَّه قالَ: هذهِالآيةُ ناسِخَةٌ لتلكَ الآيةِ.
ورُوِيَ أنَّ أبا هُرَيْرةَ وابنَ عبَّاسٍ اخْتَلَفَا في هذهِ الْمَسألةِ؛ فقالَ ابنُ عبَّاسٍ: تَعْتَدُّ بأبعَدِ الأَجَلَيْنِ. وقالَ أبو هُرَيْرةَ: تَعتَدُّ بوَضْعِ الحَمْلِ.
فبَعَثَ ابنُ عَبَّاسٍ كُرَيْباً مَوْلاهُ إلى أُمِّ سَلَمَةَ يَسْأَلُها عن ذلكَ، فرَوَتْ أنَّ سُبَيْعَةَ الأَسْلَمِيَّةَ تُوُفِّيَ عنها زَوجُها وهي حامِلٌ, فوَضَعَتْ لنِصْفِ شَهْرٍ، فسألَتْ رسولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عليه وسلَّمَ عن ذلكَ فقالَ: ((حَلَلْتِ لِلأَزْوَاجِ)). وهذا خبَرٌ صحيحٌ.
وقولُه: {وَمَن يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجاً}. أيْ: يَتَّقِ اللَّهَ في أمْرِ الطلاقِ فيَطْلُبِ السُّنَّةَ.
وقولُه: {يَجْعَلْ لَهُ مِنْ أَمْرِهِ يُسْراً}. أي: الرَّجْعَةَ.
وقالَ بعضُهم: {وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ}. أيْ: يَحْذَرْ عنِ المعاصي ويَعمَلْ بالطاعاتِ, {يَجْعَلْ لَهُ مِنْ أَمْرِهِ يُسْراً}. أيْ: يُوَفِّقْه ويُسَدِّدْه ويُيَسِّرْ عليهِ الأُمورَ.
قولُه تعالى: {ذَلِكَ أَمْرُ اللَّهِ أَنْزَلَهُ إِلَيْكُمْ}. أيْ: ما تَقَدَّمَ مِن الأمْرِ والنَّهْيِ في الطلاقِ وأحكامِه.
وقولُه: {وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يُكَفِّرْ عَنْهُ سَيِّئَاتِهِ وَيُعْظِمْ لَهُ أَجْراً}. أيْ: في القِيامةِ.
لعل الجملة هذه زائدة.