قالَ عَبْدُ الحَقِّ بنُ غَالِبِ بنِ عَطِيَّةَ الأَنْدَلُسِيُّ (ت:546هـ) : (والمراغم: المتحول والمذهب، كذا قال ابن عباس والضحاك والربيع وغيرهم، ومنه قول النابغة الجعدي: [المتقارب]
كطود يلاذ بأركانه = عزيز المراغم والمذهب
وقول الآخر: [المتقارب]
إلى بلد غير داني المحل = بعيد المراغم والمضطرب
وقال مجاهد: «المراغم» المتزحزح عما يكره. وقال ابن زيد: «المراغم» المهاجر، وقال السدي: «المراغم» المبتغى للمعيشة.
قال القاضي أبو محمد رحمه الله: وهذا كله تفسير بالمعنى، فأما الخاص باللفظة، فإن «المراغم» موضع بالمراغمة، وهو أن يرغم كل واحد من المتنازعين أنف صاحبه بأن يغلبه على مراده، فكفار قريش أرغموا أنوف المحبوسين بمكة، فلو هاجر منهم مهاجر في أرض الله لأرغم أنوف قريش بحصوله في منعة منهم، فتلك المنعة هي موضع المراغمة. وكذلك الطود الذي ذكر النابغة، من صعد فيه أمام طالب له وتوقل فقد أرغم أنف ذلك الطالب. وقرأ نبيح والجراح والحسن بن عمران «مرغما» بفتح الميم وسكون الراء دون ألف. قال أبو الفتح: هذا إنما هو على حذف الزوائد من راغم، والجماعة على «مراغم»، وقال ابن عباس والربيع والضحاك وغيرهم: السّعة هنا هي السعة في الرزق، وقال قتادة: المعنى سعة من الضلالة إلى الهدى ومن العيلة إلى الغنى، وقال مالك: السعة سعة البلاد.
قال القاضي رحمه الله: والمشبه لفصاحة العرب أن يريد سعة الأرض وكثرة المعاقل، وبذلك تكون «السعة» في الرزق واتساع الصدر لهمومه وفكره وغير ذلك من وجوه الفرح، ونحو هذا المعنى قول الشاعر [حطان بن المعلّى].
لكان لي مضطرب واسع = في الأرض ذات الطّول والعرض
ومنه قول الآخر: [الوافر]
وكنت إذا خليل رام قطعي = وجدت وراي منفسحا عريضا
وهذا المعنى ظاهر من قوله تعالى: ألم تكن أرض اللّه واسعةً وقال مالك بن أنس رضي الله عنه:
الآية تعطي أن كل مسلم ينبغي أن يخرج من البلاد التي تغير فيها السنن ويعمل فيها بغير الحق، وقوله تعالى ومن يخرج من بيته الآية: حكم باق في الجهاد والمشي إلى الصلاة والحج ونحوه، أما أنه لا يقال: إن بنفس خروجه ونيته حصل في مرتبة الذي قضى ذلك الفرض أو العبادة في الجملة، ولكن يقال: وقع له بذلك أجر عظيم، وروي: أن هذه الآية نزلت بسبب رجل من كنانة، وقيل: من خزاعة من بني ليث، وقيل: من جندع، لما سمع قول الله عز وجل الذين لا يستطيعون حيلةً ولا يهتدون سبيلًا قال:
إني لذو مال وعبيد- وكان مريضا- فقال: أخرجوني إلى المدينة، فأخرج في سرير فأدركه الموت بالتنعيم، فنزلت الآية بسببه، واختلف في اسمه، فحكى الطبري عن ابن جبير: أنه ضمرة بن العيص، أو العيص بن ضمرة بن زنباع، وحكي عن السدي: أنه ضمرة بن جندب، وحكي عن عكرمة: أنه جندب بن ضمرة الجندعي، وحكي عن ابن جبير أيضا: أنه ضمرة بن بغيض الذي من بني ليث، وحكى أبو عمر بن عبد البر: أنه ضمرة بن العيص، وحكى المهدوي: أنه ضمرة بن نعيم، وقيل: ضمرة بن خزاعة، وقرأت الجماعة «ثم يدركه الموت» بالجزم عطفا على يخرج وقرأ طلحة بن سليمان وإبراهيم النخعي فيما ذكر أبو عمرو «ثم يدركه» برفع الكاف- قال أبو الفتح: هذا رفع على أنه خبر مبتدأ محذوف، أي: ثم هو يدركه الموت فعطف الجملة من المبتدأ والخبر على الفعل المجزوم بفاعله، فهما إذن جملة، فكأنه عطف جملة على جملة، وعلى هذا حمل يونس بن حبيب قول الأعشى: [البسيط]
إن تركبوا فركوب الخيل عادتنا = أو تنزلون فإنّا معشر نزل
المراد وأنتم تنزلون وعليه قول الآخر [رويشد بن كثير الطائي]: [البسيط]
إن تذنبوا ثمّ تأتيني بقيتكم = فما عليّ بذنب عندكم فوت
المعنى: ثم أنتم تأتيني. وهذا أوجه من أن يحمله على قول الآخر: [الوافر]
ألم يأتيك والأنباء تنمى = ... ... ... ...
وقرأ الحسن بن أبي الحسن وقتادة ونبيح والجراح «ثم يدركه» بنصب الكاف وذلك على إضمار «أن» كقول الأعشى: [الطويل]
لنا هضبة لا ينزل الذّلّ وسطها = ويأوي إليها المستجير فيعصما
أراد: فأن يعصم- قال أبو الفتح: وهذا ليس بالسهل وإنما بابه الشعر لا القرآن، وأنشد ابن زيد: [الوافر]
سأترك منزلي لبني تميم = والحق بالحجاز فأستريحا
والآية أقوى من هذا لتقدم الشرط قبل المعطوف.
قال القاضي أبو محمد رحمه الله: ومن هذه الآية رأى بعض العلماء أن من مات من المسلمين وقد خرج غازيا فله سهمه من الغنيمة، قاسوا ذلك على «الأجر»، وقد تقدم معنى الهجرة فيما سلف ووقع عبارة عن الثبوت وقوة اللزوم وكذلك هي- وجب- لأن الوقوع والوجوب نزول في الأجرام بقوة. فشبه لازم المعاني بذلك.
وباقي الآية بيّن). [المحرر الوجيز: 2/643-646]