قال الله تعالى :{ إنا أنزلناه في ليلة مباركة إنا كنا منذرين }[3 الدخان]
استفتح الباري سبحانه وتعالى هذه السورة بالقسم؛ أقسم بالكتاب وهو القران المبين ؛ البين في نفسه المبين لكل ما يُحتاج إليه؛ على أنه أنزل القران. أنزل القران في ليلة كثيرة الخير و البركة.
وسنتناول في تفسير هذه الآية ثلاثة المسائل
المسألة الأولى: المراد بالليلة المباركة
المسألة الثانية: معنى نزول القران في تلك الليلة
المسألة الثالثة: هل جبريل كان يأخذ بالقران كل مرة من بيت العزة أم يسمعه من عند الله عزوجل.
المسألة الأولى: المراد بالليلة المباركة
اختلف أهل العلم في المراد بتلك الليلة المباركة .
فقيل هي ليلة القدر .وهو قول قتادة وابن زيد كما ذكره ابن جرير وعبد الرزاق والسيوطي؛ونقل ذلك أيضا السيوطي عن ابن عباس .
و دليل هذا القول النصوص القرآنية و الأحاديث النبوية.
قال عَزَّ وَجَلَّ:{ إِنَّا أَنْزَلْناهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ} [الْقَدْرِ: 1] وَكَانَ ذلك في شهر رمضان كما قال تبارك وتعالى: {شَهْرُ رَمَضانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ [الْبَقَرَةِ: 185] .
و وروى الْإِمَامُ أَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ، رَحِمَهُ اللَّهُ عَنْ وَاثِلَةَ ابْنَ الْأَسْقَعِأَنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "أُنْزِلَتْ صُحُف إِبْرَاهِيمَ فِي أَوَّلِ لَيْلَةٍ مِنْ رَمَضَانَ. وَأَنْزِلَتِ التَّوْرَاةُ لسِتٍّ مَضَين مِنْ رَمَضَانَ، وَالْإِنْجِيلُ لِثَلَاثَ عَشَرَةَ خَلَتْ مِنْ رَمَضَانَ وَأَنْزَلَ اللَّهُ الْقُرْآنَ لِأَرْبَعٍ وَعِشْرِينَ خَلَتْ مِنْ رَمَضَانَ" (المسند (4/107) .
دل مجموع هذه النصوص دلالة صريحة أن المراد بتلك الليلة هي ليلة من ليالي رمضان وليست من شعبان وهي ليلة القدر؛ هي خير من ألف شهر
وهذا القول هو قول جماهير المفسرين وقد رجحه كل من الطبري والبغوي وابن عطية و ابن كثير والشنقيطي و أفرده السعدي بالذكر
.
*وقيلهي ليلة النصف من شعبان. وهو قول عكرمة.قاله ابن كثير والشنقيطي
ومستند هذا القول ما روي عن الرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أنه قَالَ: «تُقْطَعُ الْآجَالُ مِنْ شَعْبَانَ إِلَى شَعْبَانَ حَتَّى إِنَّ الرَّجُلَ لَيَنْكِحُ وَيُولَدُ لَهُ وَقَدْ أُخْرِجَ اسْمُهُ فِي الْمَوْتَى» ......« رواه الطبراني في تفسيره (25/65) والبيهقي في شعب الإيمان برقم (3839) من طريق الليث عن عقيل به........وقد حكم عليه أهل العلم بالضعف لأنه مرسل.
و قد ضعف هذا القول كل من الطبري وابن كثير و الشنقيطي وغيرهم لأنه لم يثبت في ذلك نص صحيح ؛ وكل ما روي في ذلك من أحاديث فهي من قبيل المرسل أو الضعيف لا تقوى على معارضة النصوص الصحيحة الصريحة .
قال الشنقيطي: وَالْأَحَادِيثُ - الَّتِي يُورِدُهَا بَعْضُهُمْ فِي أَنَّهَا مِنْ شَعْبَانَ - الْمُخَالِفَةُ لِصَرِيحِ الْقُرْآنِ - لَا أَسَاسَ لَهَا ، وَلَا يَصِحُّ سَنَدُ شَيْءٍ مِنْهَا ، كَمَا جَزَمَ بِهِ ابْنُ الْعَرَبِيِّ وَغَيْرُ وَاحِدٍ مِنَ الْمُحَقِّقِينَ .-اهـ
فعلم بذلك أن القول الثاني لا اعتبار له إذ لا يوجد له دليل صريح صحيح يستند إليه .فتعين المصير وترجيح القول الأول.
المسألة الثانية: معنى نزول القران في تلك الليلة
تباينت عبارات المفسرين في المعنى المراد بنزول القران في تلك الليلة على أقوال:
المعنى الأول: أن الله أنزل القرآن كله جملة واحدة في ليلة القدر من أم الكتاب وهو اللوح المحفوظ إلى بيت العزة في السماء الدنيا،ثم أنزل الله القران على نبيه محمد صلى الله وسلم بواسطة جبريل منجما على الليالي والأيام في ثلاث وعشرين سنة حسب الوقائع والأحداث من بعثة النبي صلى الله عليه وسلم إلى وفاته .. ونسب البغوي هذا القول إلى قتادة وابن زيد
ومستند هذا القول ما روى عن ابن عباس أنه قال :أنزل القرآن في ليلة القدر إلى السماء الدنيا جملة واحدة , ثم نزل به جبرائيل في عشرين سنة.رواه أبو جعفر النحاس بسنده ثم قال. وهذا إسناد لا يدفع
وفي رواية عن ابن عباس قال: أنزل القرآن في ليلة القدر في شهر رمضان إلى سماء الدنيا جملة واحدة ثم أنزل نجوما . أخرجه الطبراني.
وفي رواية قال ابن عباس: أنزل القرآن جملة واحدة إلى السماء الدنيا ليلة القدر ثم أنزل بعد ذلك في عشرين سنة ثم قرأ { ولا يأتونك بمثل إلا جئناك بالحق وأحسن تفسيرا } (الفرقان : 33). وقوله { وقرآنا فرقناه لتقرأه على الناس على مكث } (الإسراء : 106).........رواه الحاكم في المستدرك 2/242 رقم 2878، البيهقي 4/306
وهذا الحديث و إن كان موقوف على ابن عباس إلا أنه له حكم الرفع؛ ذلك أن رواية الصحابي فيما لا مجال للعقل فيه إذا كان لا يأخذ عن الإسرائيليات فروايته لها حكم الرفع.
المعنى الثاني : وقيل معنى ذلك أن ابتداء نزوله كان في ليلة القدر؛ ثم تتابع نزوله بعد ذلك منجما حسب الوقائع والأحداث في قرابة ثلاث وعشرين سنة... وقد عزى ابن عطية هذا القول للجمهور...وعلى هذا القول ليس للقران إلا نزول واحد وهو نزوله منجما.
ومستند هذا القول تصريح القران بذلك قال تعالى : { وقرآنا فرقناه لتقرأه على الناس على مكث } (الإسراء:106)؛.....ووقائع نزول يدل على تنجيمه.
المعنى الثالث :قيل أن الله ينزل من القران كل سنة في ليلة القدر مقدار ما ينزل به جبريل على محمد صلى الله عليه وسلم خلال تلك السنة .وهو قول مقاتل ذكره صديق حسن خان.ولم يذكر له دليلا .
الترجيح : من المتقرر في قواعد الترجيح أن الجمع مقدم على الترجيح ؛ ولا يصار إلى الترجيح إلا إذا تعذر الجمع ؛وهنا يمكن الجمع بين القول والأول والقول الثاني إذ لا تعارض بينهما .فيقال أن ليلة القدر اجتمع فيها الأمران ابتداء نزوله . و نزول جمله واحدة إلى بيت العزة فلا مانع من أن يتفقان . والله أعلم.
أما القول الثالث. فلا دليل عليه .لكن ربما قد يحمل على ما يكون من التقدير السنوي في ليلة القدر.
....
المسألة الثالثة: هل جبريل كان يأخذ بالقران كل مرة من بيت العزة أم يسمعه من عند الله عزوجل
ثم هل يقال أن جبريل كان يأخذه من بيت العزة و ينزل به على محمد صلى الله عليه وسلم ؛ أم أن جبريل كان يأخذ الوحي كل مرة مباشرة من عند الله عزوجل . قال بالأول ابن عطية.
والذي يظهر أن الثاني أرجح لما دلت عليه النصوص روى الطبراني عن النواس بن سمعان مرفوعاً إلى النبي صلى الله عليه وسلم قال:(إذا تكلم الله بالوحي أخذت السماء رجفة شديدة من خوف الله، فإذا سمع أهل السماء بذلك صعقوا وخروا سجدا، فيكون أولهم يرفع رأسه جبريل، فيكلمه الله من وحيه بما أراد، فينتهي به على الملائكة، كلما مر بسماء سأله أهله ماذا قال ربنا، قال الحق، فينتهي به حيث أمر..)... ونص الحديث في الوحي وهو شامل للقران وغيره
ولما في ذلك من تعظيم شأن القران ؛ وتكريم للنبي صلى الله عليه وسلم . وتشريف لأمته إذ علا سندها وشرف.
وكانت ليلة القدر مباركة لنزول القرآن فيها ولنزول الرحمة والهداية ؛ ولما يحصل للعباد من الخير الكثير في دينهم ودنياهم ؛ يعظم أجر العابدين فيها ؛ و يستجاب فيها الدعاء؛ ينزل الروح والملائكة فيها ؛ وهى سلام حتى مطلع الفجر.
وقوله تعالى : إِنَّا كُنَّا مُنْذِرِينَ؛ تكلم الله سبحانه عن نفسه بضمير "نا" تعظيما لشأنه سبحانه وتعالى وفيه إرشادا وتعليما لأمته بأن يعظموه ويقدروه حق قدره سبحانه جل وعلا .
ومنذرين جمع منذر من أنذر ينذر
وَالْمُنْذِرُ: الَّذِي يُنْذِرُ، أَيْ يُخْبِرُ بِأَمْرٍ فِيهِ ضُرٍّ لِقَصْدِ أَنْ يَتَّقِيَهُ الْمُخْبَرُ بِهِ.قاله ابن عاشور.
والمعنى أن الله عزوجل من شأنه الإنذار فهو سبحانه أنزل القران وأرسل الرسل لأجل أن يخوف الناس عقابه بأنه ينزل ويحل على من أعرض عنالخضوع لله بالتوحيد والانقياد له بالطاعة.
الله أعلم
المصادر والمراجع
- جامع البيان في تأويل القرآن .لمحمد بن جرير أبو جعفر الطبري ( : 310هـ)
-معاني القرآن للزجاج ( 311 هـ)
-معاني القرآن الكريم لأبي جعفر النَّحَّاس (338هـ)
-معالم التنزيل للبغوي ( 510هـ)
-المحرر الوجيز لابن عطية ( 541 هـ)
- زاد المسير في علوم التفسير لابن الجوزي ( 597 هـ)
- تفسير القرآن العظيم لابن كثير ( 774 هـ)
- فتحُ البيان في مقاصد القرآن لأبي الطيب محمد صديق خان بن حسن لقِنَّوجي ( 1307هـ)
- تيسير الكريم الرحمن في تفسير كلام المنان للسعدي ( 1376 هـ)
- أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن للشنقيطي (: 1393هـ)
- التحرير والتنوير لابن عاشور (1393هـ)
-- نزول القران لمحمد بن عبد الرحمان الشايع .. (معاصر)