المتن:
(ومن ذلك قوله تعالى: { الرحمن على العرش استوى } )
الشرح:
رجع رحمه الله إلى الآيات التي تثبت الصفات،
من الآيات الدالة على إثبات الصفات، هذه الآيات السبع في كتاب الله عز وجل: { الرحمن على العرش استوى } ,{ ثم استوى على العرش الرحمن } وغيرها من الآيات ,كلها تثبت الاستواء لله جل وعلا.
والعرش: هو سقف المخلوقات ,وهو أعظم المخلوقات، فالمخلوقات بالنسبة له صغيرة جداً ,{ وسع كرسيه السماوات والأرض } ,والكرسي غير العرش ,وقد جاء وصفه بأنه كحلقة بالنسبة إلى العرش ,كحلقة ملقاة في أرض فلاة، الكرسي وسع السماوات والأرض ,ومع هذا فنسبته إلى العرش كحلقة في أرض فلاة ,ماذا تستغرق الحلقة من الفلاة؟! أتستغرق شيئاً؛ فالعرش مخلوق عظيم وهو أعلى المخلوقات، وتحته جنة الفردوس؛ لأن جنة الفردوس سقفها عرش الرحمن سبحانه وتعالى.
والعرش في اللغة: السرير الذي يجلس عليه الملك ,ويختص به، هذا بالنسبة للمخلوق ,سريره هو كرسيه، أو سريره الذي يجلس عليه، لكن عرش الله جل وعلا لا يتصور ولا يتخيل، فهو عظيم ,وقد ذكره الله في كثير من الآيات ,ووصفه بالعظمة: { العرش العظيم }، { العرش الكريم }،{ ذو العرش المجيد } ,فدل على عظم هذا المخلوق ,وهو العرش ,هذا معنى العرش.
أما الاستواء معناه - كما فسره السلف – العلو ,استوى على العرش يعني: علا على العرش , استقر ,صعد ,ارتفع، كل هذه تفاسير استوى , قال ابن القيم رحمه الله على هذه الآيات ,آيات الاستواء:
ولهم عليها عبــارات أربع قد حُصِّلت للفـارس الطعان
وهي استقر وقد علا وكذلـك ارتفع الذي ما فيه من نكران
إلى أن قال: وكذلك صعد الذي هو رابع
فهي أربعة تفسيرات: علا ,ارتفع ,صعد، استقر ,هذه تفسيرات السلف للاستواء على العرش.
أما أهل الضلال فيفسرون الاستواء بالاستيلاء ,فيقولون: استوى على العرش يعني: استولى عليه ,وهذا التفسير ليس له وجه في اللغة، ولا هو معروف عند العرب ,أن الاستواء يفسر بالاستيلاء أبداً، إلا بيتاً نسبوه للأخطل الذي يقول:
قد استوى بشر على العراق من غير سيف ودم مهراق
والأخطل مع أنه نصراني لا يحتج بكلامه , النصارى أهل ضلال لكن مع هذا لم يثبت عن الأخطل ,وليس هو في ديوانه المعروف ,فليس في لغة العرب تفسير الاستواء بالاستيلاء أبداً، هذا تفسير محدث ,وهذا البيت منتحل ومكذوب على لغة العرب، هذا من وجه.
الوجه الثاني: يلزم على هذا- والعياذ بالله - لازم باطل، وهو أنه يلزم أنا إذا فسرنا استوى باستولى على العرش، أن العرش في الأول لم يكن لله جل وعلا ,ثم استولى عليه سبحانه ,وغلب عليه ,وأخذه من يد المستولي عليه الأول، وهذا فيه من الكفر والضلال ما فيه، أيضا لو فُسر الاستواء بالاستيلاء ,لم يختص هذا بالعرش ,فالله مستول على كل ملكه سبحانه وتعالى ,على كل مخلوقاته ,هو مستولٍ عليها، فما ميزة العرش؟
يقال: استوى على العرش ,استولى على العرش، الله مستولٍ على كل شيء ,فلا يبقى للعرش ميزة في هذا.
وقد رد شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله هذا التفسير من عشرين وجهاً في مجموع الفتاوى , رد هذا التفسير الباطل ودحضه؛ لأنه هو عمدة هؤلاء المخرفين، فهذا تفسير باطل من عدة وجوه، أيضاً الاستواء اطرد في سبع آيات كله بهذا اللفظ ,استوى على العرش ,وليس فيها لفظة واحدة ,قال: استولى حتى يفسر بعضها ببعض ,فلما اطرد كله بلفظ واحد ؛ دل على أن معناه واحد ,وهو العلو والارتفاع.
والاستواء يقولون: هو من صفات الأفعال , ولذلك عطفه على خلق السماوات والأرض بثم: { خلق السماوات والأرض في ستة أيام ثم استوى على العرش } ,فهو من صفات الأفعال التي يفعلها الله جل وعلا متى شاء وإذا شاء.
أما العلو: فإنه صفة ذات لا ينفك عن الله جل وعلا، فالله لا يزال في العلو سبحانه وتعالى ,أما الاستواء فهو صفة فعل، يفعله سبحانه وتعالى متى شاء، فأهل السنة والجماعة يؤمنون باستوائه على عرشه .
ويقولون: الاستواء يأتي في القرآن على معاني ,يأتي لازما غير متعد.
وذلك كما في قوله عن موسى عليه السلام: { ولما بلغ أشده واستوى } هذا لازم ,ومعناه الكمال والتمام ,لما بلغ أشده واستوى يعني: تكامل نموه وتكاملت هيئته عليه الصلاة والسلام ,تكامل من كل وجه.
وإذا عدي بإلى في: { استوى إلى السماء } ,فمعناه القصد ,أي: قصد إلى خلق السماء سبحانه وتعالى.
وقيل: إنه لا فرق بين استوى إلى ,أو استوى على ,المعنى واحد وهو العلو، لكن من العلماء من فسر { استوى إلى السماء } بمعنى قصد إلى خلقها ,بعد أن خلق الأرض، خلق الأرض أولاً ثم قصد إلى السماء ,خلقها ثم دحا الأرض وأخرج منها ماءها ومرعاها بعد ذلك { والأرض بعد ذلك } أي: بعد خلق السماء { دحاها، أخرج منها ماءها ومرعاها }.
وإن عدي بالواو فمعناه المساواة ,تقول: استوى الماء والخشبة بمعنى تساويا، استوى فلان وفلان بمعنى تساويا في شيء من الأشياء، تقول: أنتم سواء.
وإذا عدي بعلى فمعناه الارتفاع ,كما قال تعالى: { وجعل لكم من الفلك والأنعام ما تركبون، لتستووا على ظهورها } معنى تستووا على ظهورها؟ ترتفعوا عليها ,وتستقروا على ظهورها ,على ظهور الفلك ,وظهور الأنعام للسفر، { لتستووا على ظهورها } يعني: ترتفعوا عليها، وتصعدوا عليها ,وتستقروا على ظهورها، ومنه قوله تعالى: { ثم استوى على العرش } يعني: ارتفع وعلا وصعد سبحانه وتعالى.
فكل هذا على ما يليق بجلاله ,ليس مثل صعود المخلوق، أو علو المخلوق على المخلوق، أو استواء المخلوق على المخلوق،بل مع الفرق بين استواء المخلوق ,واستواء الخالق جل وعلا.