القاعـــدةُ الأُولى
قولُه:
(فصلٌ) وأما الخاتِمةُ الجامعةُ ففيها قواعدُ نافعةٌ، (القاعدةُ الأُولى): أن اللهَ سبحانَه موصوفٌ بالإثباتِ والنفيِ، فالإثباتُ كإخبارِه بأنه بكلِِّّ شيءٍ عليمٌ، وعلى كلِّ شيءٍ قديرٌ، وأنه سميعٌ بصيرٌ، ونحوَ ذلك، والنفيُ كقولِه: لا تأخذُه سِنةٌ ولا نوْمٌ.
الشرْحُ:
تَقدَّمَ الكلامُ في بيانِ الأصلين والمَثَلَيْن، وهذا أوانُ الشروعِ في بيانِ الخاتِمةِ الجامعةِ، القاعدةُ الأُولى من القواعدِ التي تَضمَّنَتْها الخاتِمةُ الجامعةُ: هي أن اللهَ موصوفٌ بالإثباتِ كوصفِه بأنه عليمٌ قديرٌ، سميعٌ بصيرٌ، إلى غيرِ ذلك من الصفاتِ، وموصوفٌ بالنفيِ, كما في قولِه: {لاَ تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلاَ نَوْمٌ} وقولِه: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ} ووصْفُه سبحانَه بالإثباتِ ونفيِ مماثَلَةِ المخلوقاتِ هو محْضُ التوحيدِ، ونفيُ صفاتِه هو محْضُ الشرْكِ والتعطيلِ، فلو لم يكنْ له علْمٌ ولا قدْرَةٌ، ولا سمْعٌ ولا بَصَرٌ، ولم يقُمْ به فعْلٌ لما يُريدُ، ولا يُمكِنُ أن يُشارَ إليه لكان العدَمُ المَحْضُ كُفْؤاً له.
قولُه:
ويَنبغي أن يُعْلَمَ أن النفيَ ليس فيه مدْحٌ ولا كمالٌ, إلا إذا تَضمَّنَ إثباتاً، وإلا فمجرَّدُ النفيِ ليس فيه مدْحٌ ولا كمالٌ؛ لأن النفيَ المَحْضَ عدَمٌ مَحْضٌ، والعدَمُ المَحْضُ ليس بشيءٍ، وما ليس بشيءٍ فهو كما قِيلَ ليس بشيءٍ، فضْلاً عن أن يكونَ مدْحاً أو كمالاً ولأن النفيَ المَحْضَ يُوصَفُ به المعدومُ والممتنِعُ، والمعدومُ والممتنِعُ لا يُوصفُ بمدْحٍ ولا كَمالٍ.
الشرْحُ:
العدَم المَحْضُ هو النفيُ المجرَّدُ الذي لا يَتضمَّنُ إثباتَ مدْحٍ ولا كمالٍ، وليس في النفيِ المجرَّدِ إثباتُ صفةِ كمالٍ، وذلك لسبَبَيْنِ، بيَّنَ المؤلِّفُ السببَ الأوَّلَ بقولِه: (لأن النفيَ المَحْضَ عدَمٌ مَحْضٌ) وبيَّنَ الثانيَ بقولِه: (ولأن النفيَ المَحْضَ يُوصَفُ به المعدومُ والممتنِعُ) ثم بيَّنَ حالَ العدَمِ المَحْضِ, وأنه ليس بشيءٍ، وما ليس بشيءٍ فهو على اسْمِه، فيَبْعُدُ أن يكونَ وصْفَ كمالٍ أو مدْحٍ، فلا يُمْدَحُ به أحدٌ ولا يكونُ كمالاً، بل هو أنقصُ النقْصِ، وبيَّنَ حالَ المعدومِ والممتنِعِ بأنه لا يُوصَفُ بمَدْحٍ ولا كمالٍ، ولذلك يُوصَفُ بالعدَمِ المَحْضِ.
قولُه:
فلهذا كان عامَّةُ ما وَصَفَ اللهُ به نفسَه من النفيِ مُتضمِّناً لإثباتِ المدْحِ، كقولِه: {اللهُ لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ لاَ تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلاَ نَوْمٌ} إلى قولِه: {وَلاَ يَؤُودُهُ حِفْظُهُمَا} فنَفْيُ السِّنَةِ والنومِ يَتَضَمَّنُ كمالَ الحياةِ والقِيامِ، فهو مُبَيِّنٌ لكمالٍ أنه الحيُّ القيُّومُ، وكذلك قولُه: {وَلاَ يَؤُودُهُ حِفْظُهُمَا} أي: لا يَكْرُثُهُ ولا يُثْقِلُه, وذلك مستلزِمٌ لكمالِ قدْرتِه وتَمامِها، بخلافِ المخلوقِ القادرِ, إذا كان يَقْدِرُ على الشيءِ بنوعِ كُلفَةٍ ومَشَقَّةٍ، فإن هذا نقصٌ في قدْرَتِه وعَيبٌ في قوَّتِه وكذلك قولُه: {لاَ يَعْزُبُ عَنْهُ مِثْقَالُ ذَرَّةٍ فِي السَّمَوَاتِ وَلاَ فِي الْأَرْضِ} فإن نفيَ العُزوبِ مستلزِمٌ لعلمِه بكلِِّّ ذرَّةٍ في السمواتِ والأرضِ، وكذلك قولُه: {وَلَقَدْ خَلَقْنَا السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ وَمَا مَسَّنَا مِنْ لُغُوبٍ} فإن نفيَ مسِّ اللغوبِ، الذي هو التعبُ والإعياءُ دَلَّ على كمالِ القدرةِ ونهايةِ القوَّةِ، بخلافِ المخلوقِ الذي يَلْحَقُه من التعبِ والكَلالِ ما يَلْحَقُه. وكذلك قولُه: {لاَ تُدْرِكُهُ الْأَبْصَارُ} إنما نَفَى الإدراكَ الذي هو الإحاطةُ, كما قاله أكثرُ العلْماءِ، ولم يَنفِ مجرَّدَ الرؤيةِ؛ لأن المعدومَ لا يُرَى، وليس في كونِه لا يُرَى مدْحٌ؛ إذ لو كان كذلك لكان المعدومُ ممدوحاً وإنما المدْحُ في كونِه لا يُحاطُ به, وإن رُؤِيَ، كما أنه لا يُحاطُ به وإن عُلِمَ، فكما أنه إذا عُلِمَ لا يُحاطُ به علْماً، فكذلك إذا رُؤِيَ لا يُحَاطُ به رؤيةً، فكان في نفيِ الإدراكِ من إثباتِ عظمتِه ما يكون مدْحاً وصفةَ كمالٍ، وكان ذلك دليلاً على إثباتِ الرؤيةِ لا على نفيِها، لكنه دليلٌ على إثباتِ الرؤيةِ مع عدَمِ الإحاطةِ، هذا هو الحقُّ الذي اتَّفق عليه سلَفُ الأمَّةِ وأئمَّتُها.
الشرْحُ:
يعني: ومن أجْلِ أن النفيَ المجرَّدَ ليس فيه مدْحٌ ولا كمالٌ، نجدُ أن جميعَ ما وَصَفَ اللهُ به نفسَه من النفيِ مُتضمِّناً لإثباتِ أوصافِ الكمالِ، ثم مَثَّلَ المؤلِّفُ لهذا النفيِ الذي وَصفَ اللهُ به نفسَه فقالَ: كقولِه: {لاَ تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلاَ نَوْمٌ} لكمالِ حياتِه وقيُّوميَّتِه, وقولِه: {وَلاَ يَؤُودُهُ حِفْظُهُمَا} لكمالِ قوَّتِه، وقولُه: {وَمَا يَعْزُبُ عَنْ رَبِّكَ مِنْ مِثْقَالِ ذَرَّةٍ فِي الْأَرْضِ وَلاَ فِي السَّمَاءِ} يعني: لكمالِ علْمِه، وقولُه: {وَمَا مَسَّنَا مِنْ لُغُوبٍ} لكمالِ قدرتِه، وقولُه: { لاَ تُدْرِكُهُ الْأَبْصَارُ} يعني: لعظمتِه وإحاطتِه بما سِواه، وقد أَوضحَ المؤلِّفُ تَضَمُّنَ الآياتِ الكريماتِ التي استشْهَدَ بها أوصافَ المدْحِ والكمالِ للهِ، فهو نفيٌ مُتضمِّنٌ للمدْحِ. والقيُّومُ: هو القائمُ بنفسِه, المقيمُ لغيرِه, فجميعُ الموجوداتِ مُفْتَقِرَةٌ إليه, وهو غنيٌّ عنها، ولا قِوامَ لها بدونِ أمرِه, كما قالَ تعالى: {وَمِنْ آيَاتِهَ أَنْ تَقُومَ السَّمَاءُ وَالْأَرْضُ بِأَمْرِهِ} وفي الصحيحين من دعائِه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في صلاةِ الليلِ: (اللَّهُمَّ لَكَ الْحَمْدُ أَنْتَ رَبُّ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ، وَلَكَ الْحَمْدُ أَنْتَ قَيُّوُم السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَنْ فِيهِنَّ، وَلَكَ الْحَمْدُ أَنْتَ نُورُ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ) الحديثَ، ومن أجْلِ أنه لا يَعْتَرِيهِ نَقْصٌ ولا غفْلةٌ ولا ذُهولٌ عن خلقِه أَردفَ اسمَ الحيِّ والقيُّومِ بنفيِ السِّنةِ والنومِ. و (السِّنةُ) الوَسَنُ والنُّعَاسُ، و (النومُ) أَثقلُ من ذلك فهو – سبحانَه – قائمٌ على كلِّ نفسٍ بما كَسَبتْ، شهيدٌ على كلِّ شيءٍ ولا يَغيبُ عنه شيءٌ، وفي الصحيحين عن أبي موسى – رَضِيَ اللهُ عنه – قالَ: قام فينا رسولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بأربعِ كلماتٍ فقالَ: (إِنَّ اللهَ لاَ يَنَامُ, وَلاَ يَنْبَغِي له أن يَنامَ، يَخْفِضُ القِسْطَ وَيَرْفَعُهُ، يُرْفَعُ إِلَيْهِ عَمَلُ اللَّيْلِ قَبْلَ عَمَلِ النَّهَارِ، وَعَمَلُ النَّهَارِ قَبْلَ عَمَلِ اللَّيْلِ، حِجَابُهُ النُّورُ لَوْ كَشَفَهُ لاَحْرَقَتْ سُبُحَاتُ وَجْهِهِ مَا انْتَهَى إِلَيْهِ بَصَرُهُ مِنْ خَلْقِهِ). والكَلالُ مصدرُ كَلَّ يَكِلُّ كَلاّ, وهو التَّعَبُ,
قالَ الأعشى:
فآلَيْتُ لا أَرْثِي لها من كَلاَلَةٍ ولا من وَجًى حتى تُلاقي مُحَمَّداً
فمادَّة ((كَلَّ)) تدُلُّ على الضَّعْفِ والإعياءِ، يُقالُ: كَلَّ الرجلُ يَكِلُّ كَلاَّ وكَلاَلَةً إذا أَعْيا وذَهَبتْ قوَّتُه، وقولُه: (وكذلك {لاَ تُدْرِكُهُ الْأَبْصَارُ} إنما نَفَى الإدراكَ الذي هو الإحاطةُ, كما قاله أكثرُ العلْماءِ، ولم يَنفِ مجرَّدَ الرؤيةِ) معناه أن جمهورَ العلْماءِ فسَّرُوا الإدراكَ هنا بالإحاطةِ، فالمنفيُّ هو الإحاطةُ دونَ الرؤيةِ,فلا تَحتاجُ الآيةُ إلى تخصيصٍ, ولا خروجٍ عن الظاهرِ، فلا نقولُ معناها أنَّا لا نراه في الدنيا، أو نقولُ: لا تُدْرِكُه الأبصارُ, بل المُبْصِرون، أو لا تُدْرِكُه كلُّها، بل بعضُها ونحوَ ذلك من الأقوالِ التي فيها تَكلُّفٌ، فالآيةُ واضحةٌ في نفيِ إحاطةِ الأبصارِ به سبحانَه، فإن نفيَ الرؤيةِ ليس بصفةِ كمالٍ، وإنما الكمالُ فى إثباتِ الرؤيةِ ونفيِ إدراكِ الرائي له إدراكَ إحاطةٍ كما فى العلْمِ؛فإن نفيَ العِلْمِ به ليس بكمالٍ، وإنما الكمالُ في إثباتِ العلْمِ ونفيِ الإحاطةِ به علْماً، فهو سبحانَه لا يُحَاطُ به رؤيةً, كما لا يُحَاطُ به علْماً، فقد دلَّ القرآنُ الكريمُ على رؤيةِ المؤمنين ربَّهم يومَ القيامةِ، والأحاديثُ بها متواترةٌ عن النبيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عندَ أهلِ العلْمِ بالسنَّةِ، وأما احتجاجُ النُّفاةِ بهذه الآيةِ، فالآيةُ حجَّةٌ عليهم لا لهم، ولكن ليس كلُّ من رأَى شيئاً يُقالُ: أَحاطَ به رؤيةً، كما سُئِلَ ابنُ عبَّاسٍ رَضِيَ اللهُ عنهما، عن ذلك فقالَ: ألستَ تَرى السماءَ؟ قالَ: بلى، قالَ: هل تُحيطُ بها؟ قالَ: لا. ومن رأَى جوانبَ الجيشِ أو الجبلِ أو البستانِ أو المدينةِ لا يُقالُ إنه أَدركَها، وإنما يُقالُ: أَدْرَكَهَا، إذا أحاطَ بها رؤيةً، فبيْنَ لفظِ الرؤيةِ ولفظِ الإدراكِ عمومٌ وخصوصٌ من وجهٍ, قالَ تعالى: {فَلَمَّا تَرَاءَى الْجَمْعَانِ قالَ أَصْحَابُ مُوسَى إِنَّا لَمُدْرَكُونَ قَالَ كَلاَّ إِنَّ مَعِيَ رَبِّي سَيَهْدِينِ} فنَفى موسى الإدراكَ مع إثباتِ التَّرَائيِ, فعُلِمَ أنه قد يكونُ رؤيةٌ بلا إدراكٍ، ومما يُبَيِّنُ ما سَبَقَ أن اللهَ تعالى ذكَرَ هذه الآيةَ يَمْدَحُ بها نفسَه – سبحانَه وتعالى – ومعلومٌ أن كونَ الشيءِ لا يُرَى ليس ذلك صفةَ مدْحٍ له؛ لأن المعدومَ لا يُرَى، والمعدومُ لا يُمْدَحُ, فعُلِمَ أن مجرَّدَ نفيِ الرؤيةِ لا مَدْحَ فيه. وقولُه: (وهذا هو الحقُّ الذى اتَّفقَ عليه سلَفُ الأمَّةِ وأئمَّتُها) يعني: أن إثباتَ الرؤيةِ مع نفيِ الإحاطةِ هو القولُ الصوابُ، الذي دَلَّ عليه الكتابُ والسنَّةُ، واتَّفقَ عليه الصحابةُ والتابعون، وأئمَّةُ الإسلامِ المَعرُوفون بالإمامةِ في الدِّينِ، كمالِكٍ، والثوريِّ، والأوزاعيِّ، والليثِ بنِ سعدٍ، والشافعيِّ، وأحمدَ، وإسحقَ، وأبى حنيفةَ، وأبي يوسُفَ، وأمثالِ هؤلاءِ وسائرِ أهلِ السنَّةِ، وكذلك الطوائفُ المنتسِبون إلى السنَّةِ والجماعةِ، كالكُلاَّبِيَّةِ، والكَرَّامِيَّةِ، والأشعريَّةِ والسالِمِيَّةِ، كلُّهم متِّفقون على إثباتِ الرؤيةِللهِتعالى في الآخرةِ، ولم يُنكِرْ رؤيةَ المؤمنين لربِّهم في دارِ الخلودِ إلا الجَهْميَّةُ والمعتزلِةُ والخوارجُ ونحوَهم من طوائفِ الضلالِ, وما أَحْرَاهُمْ بأن يكونوا ممن قالَ اللهُ فيهم: {كَلاَّ إِنَّهُمْ عَنْ رَبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَمَحْجُوبُونَ} نَسألُ اللهَ السلامةَ والعافيةَ، كما نَسألُه سبحانَه لذَّةَ النظرِ إلى وجهِه الكريمِ.
قولُه:
وإذا تَأمَّلْتَ ذلك وجدْتَ كلَّ نفيٍ لا يَستلزِمُ ثُبوتاً هو مما لم يَصِفِ اللهُ به نفسَه، فالذين لا يَصِفونه إلا بالسُّلُوبِ لم يُثبِتوا في الحقيقةِ إِلهاً محموداً، بل ولا موجوداً، وكذلك من شارَكَهم في بعضِ ذلك كالذين قالوا لا يَتَكلَّمُ، أو لا يَرى، أو ليس فوقَ العالَمِ، أو لم يَسْتَوِ على العرْشِ، ويقولون ليس بداخلِ العالَمِ ولا خارجِه، ولا مُبَايِنٍ للعالَمِ ولا مُجانِبٍ له؛ إذ هذه الصفاتُ يُمكِنُ أن يُوصَفَ بها المعدومُ، وليست هي صفةً مستلزِمةً صفةَ ثبوتٍ.
الشرْحُ:
بعدَ أن مَثَّلَ المؤلِّفُ بعدَّةِ آياتٍ فيها وَصْفُ اللهِ بالنفيِ المُتضمِّنِ لإثباتِ صفاتِ الكمالِ قالَ بعدَ ذلك: إذا تَتَبَّعْتَ القرآنَ, ونظَرْتَ فيه نَظَرَ متأمِّلٍ وجَدْتَ كلَّ نفيٍ وَصَفَ اللهُ به نفسَه هو من هذا القبيلِ، وذلك كنفيِ الظلْمِ الدالِّ على إثباتِ العدْلِ، ونفيِ الشريكِ والظهيرِ الدالِّ على إثباتِ الوحدانيَّةِ وتَمامِ المُلْكِ، ونفيِ الكفؤِ والمثيلِ الدالِّ على الكمالِ المُطلَقِ. فالوجودُ كمالٌ كلُّه، والعدَمُ نقْصٌ كلُّه، فإن العدَمَ كاسمِه لا شيءَ, وهو سبحانَه قد وَصفَ نفسَه بأنه لم يكنْ له كُفُواً أَحَدٌ، بعد وَصْفِ نفسِه بأنه (الصَّمَدُ) السيِّدُ الذي كَمُلَ في سُؤْدَدِهِ, وهذا هو المعقولُ في فِطَرِ الناسِ، فإذا قالوا: فلانٌ عديمُ المَثَلِ، أو قد أَصبحَ, ولا مِثلَ له في الناسِ، وما له شبيهٌ, ولا من يُكَافِيهِ، فإنما يريدون بذلك أنه تَفَرَّدَ من الصفاتِ والأفعالِ والمجْدِ بما لا يَلْحَقُه فيه غيرُه، فصارَ واحداً في الجنسِ لا مثيلَ له، ولو أَطلَقوا ذلك عليه باعتبارِ نفيِ صفاتِه وأفعالِه ومجْدِه، لكان ذلك عندَهم غايةَ الذمِّ والنقصِ له، فإذا أَطلَقُوا ذلك في سياق المدْحِ والثناءِ لم يَشُكَّ عاقلٌ في أنهم إنما أرادوا كثرةَ أوصافِه وأفعالِه وأسمائِه الحميدةِ التي لها حقائقُ تُحْمَلُ عليها، فهل يقولُ عاقلٌ لمن لا قُدرةَ له ولا علْمَ ولا بَصَرَ ولا يَتصرَّفُ بنفسِه ولا يَفعلُ شيئاً ولا يَتكلَّمُ ولا له وجهٌ ولا يدٌ ولا قوَّةٌ ولا فضيلةٌ من الفضائلِ: إنه لا شَبَهَ له, ولا مثيلَ له, وإنه وحيدُ دهرِه وفريدُ عصرِه ونسيجُ وَحْدِه؟ وهل فَطَرَ اللهُ الأممَ, وأَطلَقَ ألسنتَهم ولغاتِهم إلا على ضِدِّ ذلك؟ فمن نَفَى صفاتِ اللهِ فقد وَصفَه بغايةِ العدَمِ، فالذين لا يَصِفونه إلا بالسُّلُوبِ الذي هو النفيُ لم يُثْبِتوا في واقعِ الأمرِ إلهاً يُحْمَدُ ويُثْنَى عليه؛ لما له من حقائقِ الأسماءِ والصفاتِ، بل لم يُثْبِتوا في الحقيقةِ إلهاً موجوداً؛ فإن من تُسْلَبُ عنه جميعُ الصفاتِ الثُّبوتيَّةِ ما هو إلا معدومٌ. والذين لا يَصِفُونه إلا بالسُّلُوبِ هم طوائفُ الفلاسفةِ كما سَبقَ بيانُه ويُشارِكُهم في هذا النفيِ المعطِّلَةُ من الجَهْميَّةِ والمعتزلِة ونحوِهم، فإنهم يُعطِّلُون صفاتِ اللهِ تعطيلاً يَستلزِمُ نفيَ الذاتِ, وهذا معنى قولِ المؤلِّفِ: (وكذلك من شارَكَهم) فإن الجميعَ يَصِفون الباريَ تعالى بصفاتِ العدَمِ المَحْضِ الذي ليس هو بشيءٍ البتَّةَ، وهذا هو الذي صرَّحَ به غُلاةُ الجَهْميَّةِ, وقد كان قدماؤُهم يَتَحَاشَوْنَ عنه, ويَتستَّرُون منه، وكان السلَفُ من الأئمَّةِ مثلَ عبدِ العزيزِ بنِ الْمَاجِشُونِ، وعبدِ اللهِ بنِ المبارَكِ، وحمَّادِ بنِ زيدٍ ومحمدِ بنِ الحسنِ، وأحمدَ بنِ حَنْبَلٍ، وغيرِ هؤلاءِ، يَتَفَرَّسُون فيهم ذلك. فمذهبُهم يَرجِعُ إلى مذهَبِ الدهريَّةِ الطبائعيَّةِ في المعنى، وهذا السلْبُ بالإضافةِ إلى أنه لا يَنطبِقُ إلا على المعدومِ فهو أيضاً لا يَتضمَّنُ إثباتَ صفةٍ يُمدحُ بها الموصوفُ، وهذا معنى قولِ المؤلِّفِ: (إذ هذه الصفاتُ يُمكِنُ أن يُوصَفَ بها المعدومُ, وليس هي صفةً مستلزِمةً صفةَ ثبوتٍ).
قولُه:
ولهذا قالَ محمودُ بن سُبُكْتُكِينَ لمن ادَّعَى ذلك في الخالِقِ: ميِّزْ لنا بينَ هذا الربِّ الذي تُثْبِتُه وبينَ المعدومِ.
الشرْحُ:
يعني: ومن أجْلِ أن هذه الصفاتِ السلبيَّةَ لا تَنطبقُ إلا على المعدومِ قالَ محمودٌ لمن يَنفي صفاتِ اللهِ مُتحدِّياً له: إذا كنت تُثْبِتُ إلهاً, ولا تَصِفُه بصفاتٍ ثُبوتيَّةٍ فما الفرْقُ بينَه وبينَ الشيءِ المعدومِ؟ (ومحمودُ بنُ سُبُكْتُكِينَ) هو الملقَّبُ بيمينِ الدولةِ، وكان مولدُه سنةَ ثلاثمِائةٍ وإحدى وستينَ، ووفاتُه سنةَ أربعِمائةٍ وإحدى وعشرين هجريَّةً, وكان يَخْطُبُ في سائرِ مملكتِه للخليفةِ العباسيِّ القادرِ باللهِ، وكان يُحِبُّ العلماءَ والمحدِّثين, ويُكرِمُهم ويُجالِسُهم، وكان على مذهبِ الكَرَّامِيَّةِ في الاعتقادِ، وكان من جملةِ من يُجالِسُه منهم محمدُ بن الهَيْصَمِ، وقد جَرَى بينَه وبينَ أبى بكرِ بنِ فُوركٍ مناظرةٌ بينَ يَدَي السلطانِ محمودٍ في مسألةِ العرْشِ فنَقَمَ على ابنِ فُوركٍ كلامَه، وأَمَرَ بطردِه وإخراجِه من مجلسِه لموافقتِه لرأيِ الجَهْميَّةِ. ولعلَّ هذه القصَّةَ هي التي قالَ فيها محمودٌ: مَيِّزْ لنا بينَ هذا الربِّ الذي تُثبِتُ, وبينَ المعدومِ.
قولُه:
وكذلك كونُه لا يَتكلَّمُ، أو لا يَنْزِلُ ليس في ذلك صفةُ مدْحٍ ولا كمالٍ، بل هذه الصفاتُ فيها تشبيهٌ له بالمنقوصاتِ أو المعدوماتِ، فهذه الصفاتُ، منها ما لا يَتَّصِفُ به إلا المعدومُ، ومنها لا يَتَّصِفُ به إلا الجماداتُ والناقصاتُ.
الشرْحُ:
يعني: أن نفْيَ صفةِ الكلامِ عن اللهِ ليس فيه مدْحٌ ولا كمالٌ، فمن يَتكلَّمُ أكمَلُ ممن لا يَتكلَّمُ، وكذلك كونُه لا يَنزلُ ليس في ذلك وصفُ كمالٍ فلو قدَّرْنَا موجودَيْن؛ أحدُهما يَقْدِرُ على التصرُّفِ بنفسِه فيأتي ويَجِيءُ، ويَنْزِلُ ويَصعَدُ، ونحوَ ذلك من أنواعِ الأفعالِ، والآخرُ يَمتنِعُ ذلك منه لكان هذا القادرُ على الأفعالِ التي تَصْدُرُ عنه أكمَلَ ممن يَمتنِعُ صدورُها عنه. فالكلامُ، والنزولُ، والحياةُ، والعلْمُ، والقدرَةُ، والسمْعُ، والبصرُ، ونحوَ ذلك أوصافُ كمالٍ, لا نقْصَ فيها، وإنما النقْصُ في انتفائِها لا في ثبوتِها، فمن تُسلَبُ عنه هذه الصفاتُ فهو شبيهٌ بالجمادِ والمعدومِ والممتنِعِ، وحينئذ فسلْبُها عن اللهِ تشبيهٌ له بأعظمِ الناقصاتِ.
قولُه:
فمَن قالَ: لا هو مبايِنٌ للعالَمِ, ولا مُداخِلٌ للعالَمِ فهو بمنزلةِ مَن قالَ: لا هو قائمٌ بنفسِه, ولا بغيرِه، ولا قديمٌ ولا محدَثٌ، ولا متقدِّمٌ على العالَمِ, ولا مقارِنٌ له.
الشرْحُ:
يعني: أن هؤلاءِ النُّفاةَ بسَلْبِهِم الصفاتِ عن اللهِ قد شبَّهُوه بالمعدومِ، فمَقالةُ مَن وَصفَ اللهَ بأنه لا هو مُبايِنٌ للعالَمِ ولا مُداخِلٌ للعالَمِ هي بمنزلةِ مقالةِ مَن قالَ: إن اللهَ لا قائمٌ بنفسِه, ولا قائمٌ بغيرِه، ووجهُ كونِ هذه المقالةِ بمنزلةِ تلك المقالةِ أن كلاّ منهما لا يَنطبقُ إلا على المعدومِ, فالحاصلُ أن قولَهم: لا داخلَ العالَمِ, ولا خارجَه، ولا مبايِنٌ له, ولا مداخلٌ له خلافُ المعلومِ بالضرورةِ؛ فإن العقلَ لا يُثْبِتُ شيئين موجودَيْن إلا أن يكونَ أحدُهما مبايِناً للآخرِ أو داخلاً فيه، أما إثباتُ موجودٍ قائمٍ بنفسِه لا يُشارُ إليه, ولا يكونُ داخلَ العالَمِ, ولا خارجَه، فهذا مما يَعْلَمُ العقلُ استحالتَه وبُطلانَه بالضرورةِ؛ فإن هذا سلْبٌ للنقيضين. وسلْبُ النقيضين أمرٌ ممتنِعٌ، وهكذا القولُ في بقيَةِ الأمثلَةِ التي ذكَرَها المؤلِّفُ.
قولُه:
ومَن قالَ: إنه ليس بحيٍّ، ولا سميعٍ، ولا بصيرٍ، ولا متكلِّمٍ، لزِمَه أن يكونَ ميِّتاً، أَصمَّ، أعمى، أبكمَ، فإن قالَ: العَمَى عدَمُ البصرِ عما من شأنِه أن يَقْبَلَ البصرَ، وما لم يَقبل البصرَ كالحائطِ لا يُقالُ له: أَعمى ولا بصيرٌ.
الشرْحُ:
يَقولُ المؤلِّفُ: سلْبُ هذه الصفاتِ عن اللهِ يَلزَمُ منه أن يكونَ متَّصِفاً بنقيضِها، واللهُ منزَّهٌ عن ذلك، ثم بيَّنَ اعتذارَ النُّفاةِ إذا قيلَ لهم هذا القولُ.
وحاصلُ اعتذارِهم أنهم يقولون: لا يَلْزَمُ من سلْبِ الصفةِ عن الموصوفِ اتِّصافُه بنقيضِها إلا إذا كان قابِلاً للاتِّصافِ بالصِّفةِ، أما إذا كان غيرَ قابلٍ للاتِّصافِ بها فلا يَلْزَمُ من سلبِها عنه اتِّصافُه بنقيضِها، ويَضربون لذلك مثَلاً بالجمادِ، وقد أَجابَهم المؤلِّفُ على هذه المقالةِ بأربعةِ أجوبةٍ.
قولُه:
قيلَ له: هذا اصطلاحٌ اصْطَلَحْتُمُوه، وإلا فما يُوصَفُ بعدَمِ الحياةِ والسمْعِ والبصَرِ والكلامِ يُمكِنُ وصْفُه بالموتِ والعَمَى والخرَسِ والعُجْمَةِ، وأيضاً فكلُّ موجودٍ يَقبلُ الاتِّصافَ بهذه الأمورِ ونقائضِها، فإن اللهَ قادرٌ على جعْلِ الجمادِ حيًّا, كما جَعلَ عصا موسى حيَّةً ابتَلَعَت الحبالَ والعِصِيَّ، وأيضاً فالذي لا يَقبلُ الاتِّصافَ بهذه الصفاتِ أعظَمُ نقْصاً مما يَقبلُ الاتِّصافَ بها مع اتِّصافِه بنقائضِها، فالجمادُ الذي لا يُوصَفُ بالبصرِ ولا العَمَى، ولا الكلامِ ولا الخرَسِ، أعظَمُ نقْصاً من الحيِّ الأعمى الأخْرَسِ، فإن قيلَ: إن الباريَ لا يُمكِنُ اتِّصافُه بذلك كان في ذلك من وَصفِه بالنقصِ أعظمُ مما إذا وُصِفَ بالخَرَسِ والعَمَى والصَّمَمِ ونحوَ ذلك، مع أنه إذا جُعِلَ غيرَ قابلٍ لها كان تشبيهاً له بالجمادِ الذي لا يَقبلُ الاتِّصافَ بواحدٍ منها، وهذا تشبيهٌ بالجماداتِ، لا بالحيواناتِ فكيف (يُنْكِرُ) من قالَ ذلك على غيرِه ما يَزعُمُ أنه تشبيهٌ بالحيِّ، وأيضاً فنفْسُ نفيِ هذه الصفاتِ نَقْصٌ، كما أن إثباتَها كمالٌ، فالحياةُ من حيث هى – مع قطْعِ النظرِ عن تعيينِ الموصوفِ بها – صفةُ كمالٍ، وكذلك العلْمُ والقدرةُ، والسمْعُ والبصرُ، والكلامُ والفعْلُ ونحوَ ذلك، وما كان صفةَ كمالٍ، فهو سبحانَه أَحقُّ أن يَتَّصِفَ به من المخلوقاتِ، فلو لم يَتَّصِفْ به مع اتِّصافِ المخلوقِ به، لكان المخلوقُ أكمَلَ منه.
الشرْحُ:
هذا شروعٌ في بيانِ الأجوِبَةِ الأربعةِ التي رَدَّ بها المؤلِّفُ على النُّفاةِ.
وقد بيَّنَ الأَوَّلَ بقولِه: (قيلَ له هذا اصطلاحٌ اصْطَلَحْتُمُوهُ) إلخ. يَعني هذا مجرَّدُ اصطلاحٍ منكم, وإلا فما لا يَتَّصِفُ بالصفةِ يُمكِن وصفُه وتسميتُه بنقيضِها، كما هو معروفٌ في لغةِ العربِ، وقد سَبَقَ بيانُ ذلك.
وذكَرَ الثانيَ بقولِه: (وأيضاً فكلُّ موجودٍ يَقْبَلُ الاتِّصافَ بهذه الأمورِ ونقائضِها) إلخ. يعني: فالقدرةُ الإلهيَّةُ شاملةٌ لذلك، والقابليَّةُ موجودةٌ في المخلوقِ. وقد جَعلَ اللهُ الجمادَ الأصمَّ حيًّا، يَسْمَعُ ويُبْصِرُ, كما في قصَّةِ عصا موسى.
وبيَّنَ الثالثَ بقولِه: (وأيضاً فالذي لا يَقبلُ الاتِّصافَ بهذه الصفاتِ أعظَمُ نقْصاً مما يَقبلُ الاتِّصافَ بها، مع اتِّصافِه بنقائضِها) وضرَبَ لذلك مثلاً بالجمادِ والحيوانِ الأعمى الأخرَسِ، فالحيوانُ الناقصُ وإن كان فاقداً للصفَةِ فهو أكمَلُ من الجمادِ؛ لأنه قابلٌ للاتِّصافِ بها، أما الجمادُ فهو غيرُ قابلٍ لها أصلاً. وهذا من المؤلِّفِ على سبيلِ الفرْضِ والتَّنَزُّلِ معهم، وإلا فكلُّ موجودٍ فهو قابلٌ للاتِّصافِ بالصفاتِ، كما تَقدَّمَ، ومعلومٌ أن القابلَ للاتِّصافِ بصفاتِ الكمالِ أكملُ من غيرِ القابلِ لذلك، وحينئذٍ فالربُّ إن لم يَقبَل الاتِّصافَ بصفاتِ الكمالِ لزِمَ اتِّصافُه بنقيضِها، فيكونُ القابلُ لها, وهو الحيوانُ الأعمى الأخرَسُ، الذي يَقبَلُ البصرَ والكلامَ, أكملَ منه، وعلى هذا فالنُّفاةُ قد شبَّهُوا اللهَ بالجمادِ الذي هو أَنقصُ من الحيوانِ الفاقدِ صفةَ الكمالِ, فلو سَلَبوا عن اللهِ صفةَ الكمالِ, ولم يَنْفُوا قَبولَه لها لكان ذلك أسهلَ. ونفيُ قَبولِ صفةِ النقصِ تشبيهٌ بالجمادِ، وإذا كان نفيُ قَبولِ صفةِ النقصِ تشبيهاً بالجمادِ لا بالحيوانِ فكيف من قالَ ذلك على غيرِه مما يَزْعُمُ أنه تشبيهٌ بالحيِّ.
والمقصودُ أنه إذا كان من نَفَى قَبولَ صفةِ النقصِ مشبِّهاًللهِبالجمادِ فكيفَ من نَفَى عن اللهِ قَبولَ صفةِ الكمالِ زاعماً أن إثباتَها يَلزَمُ منه تشبيهُ اللهِ بالحيِّ المخلوقِ، فالإشارةُ في قولِه (ذلك) راجعةٌ إلى نفيِ القَبولِ. والضميرُ في قولِه: (على غيرِه) راجعٌ إلى نفيِ قَبولِ صفةِ النقْصِ.
وبيَّنَ الرابعَ بقولِه: (وأيضاً فنفْسُ نفيِ هذه الصفاتِ نقْصٌ كما أن إثباتَها كمالٌ) إلخ. يعني: أن مجرَّدَ نفْيِ هذه الصفاتِ نقصٌ، كما أن مجرَّدَ إثباتِها كمالٌ. وما كان صفةَ كمالٍ فاللهُ أَوْلَى به. فلو لم يَتَّصِفْ به مع أن المخلوقَ مُتَّصِفٌ به لكان الخالقُ أنقصَ من المخلوقِ. ومن المعلومِ أنللهِالمثَلَ الأعلى؛ فما كان وصْفَ كمالٍ لا نقْصَ فيه بوجهٍ من الوجوهِ فاللهُ أَوْلى به. فإذا قُدِّرَ اثنان أحدُهما موصوفٌ بصفاتِ الكمالِ كالعلْمِ والقدرةِ، والفعلِ والبَطْشِ، والآخرُ يَمتنِعُ أن يتَّصِفَ بهذه الصفاتِ لكان الأوَّلُ أكمَلَ من الثاني. وسائرُ الصفاتِ على هذا المنْهَجِ. وكذلك من تُنْفَى عنه أوصافُ النقْصِ أكْمَلُ ممن يتَّصِفُ بها فالحيُّ اليَقْظانُ أكمَلُ من النائمِ الوَسْنَانِ، واللهُ: {لاَ تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلاَ نَوْمٌ} وكذلك من يَحْفَظُ بلا اكتراثٍ أكملُ ممن يَلزَمُ فيه ذلك، واللهُ تعالى: {وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضَ وَلاَ يَؤُودُهُ حِفْظُهُمَا} وكذلك من يَفعلُ ولا يَتْعَبُ أكمَلُ ممَّن يَتْعَبُ، واللهُ تعالى: {خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ} وما مَسَّهُ من لُغُوبٍ.
والعقلُ من حيث هو مصدَرُ عَقَلَ يَعْقِلُ عَقْلاً، وهو في لغةِ الرسولِ وأصحابِه عَرَضٌ من الأعراضِ، كما في قولِه سبحانَه: {لَعَلَّهُمْ يَعْقِلُونَ}، {وَلَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ}، {وَلَهُمْ قُلُوبٌ لاَ يَعْقِلُونَ بِهَا} ونحوَ ذلك، وقد يُرادُ به الغَريزةُ التي في الإنسانِ. قالَ أحمدُ بنُ حنبلٍ، والحارثُ المحاسِبِيُّ، وغيرُهما: (إن العقلَ غريزةٌ). فالعقلُ ما به تَحْصُلُ معرفةُ الأمورِ وإدراكُها، ولا ريْبَ أن اللهَ سبحانَه متَّصِفٌ من ذلك بما يَعجِزُ العقلُ البشريُّ عن تَصوُّرِه وإدراكِه، ولكنَّ لفْظَ العقلِ مما لم يَرِدْ وصْفُ اللهِ به في الكتابِ أو السنَّةِ. والظاهرُ أن أصْلَ قولِ المؤلِّفِ: (والفعْلُ) كما في بعض النسَخِ؛ لأن الفعْلَ مما وَردَ وصْفُ اللهِ به دونَ لفظِ العقلِ، ولكن بما أن أكثَرَ النسخِ التي بأَيدِينا متَّفِقةٌ على لفظِ العقلِ شرَحْناه على هذا المعنى.
وقولُه: ونحوَ ذلك, يعني: كصفةِ الوجهِ؛ فإن الوجهَ وصفُ كمالٍ, لا وصْفُ نقْصٍ. ووجْهُ كلِّ شيءٍ بحسَبِه, وهو ممدوحٌ به, لا مذمومٌ، كوجهِ النهارِ ووجهِ الثوبِ، ووجهِ القومِ. فوجْهُ اللهِ سبحانَه هو كما يَليقُ به, ويُناسِبُ ذاتَه المقدَّسَةَ, فهو بحسْبِ المضافِ إليه, وسائرُ الصفاتِ على هذا النهْجِ، فللهِ الأسماءُ الحسنى، والصفاتُ الكاملةُ العُليا.
قولُه:
واعلَمْ أن الجَهْميَّةَ المَحْضةَ كالقَرامطةِ ومن ضاهاهم يَنْفُونَ عنه تعالى اتِّصافَه بالنقيضَيْن، حتى يقولوا: ليس بموجودٍ, ولا ليس بموجودٍ، ولا حيٍّ, ولا ليس بحيٍّ، ومعلومٌ أن الْخُلُوَّ عن النقيضين مُمتنِعٌ في بَدَاءَةِ العقولِ, كالجمْعِ بينَ النقيضَيْن.
الشرْحُ:
سَبقَ بيانُ هذا عند قولِ المؤلِّفِ في المقدِّمةِ: (فغُلاتُهم يَسْلُبون عنه النقيضَيْن) ولكن كرَّرَ المؤلِّفُ ذلك بمناسبةِ كلامِه على النفيِ الذي لا يَتضمَّنُ إثباتَ صفةِ كمالٍ, وإنما هو تشبيهٌ بالناقصاتِ من جماداتٍ أو معدوماتٍ، أو ممتنِعاتٍ. وسَلْبُ هؤلاءِ الغُلاةِ من جَهْميَّةٍ وقَرامطةٍ, ومن شابَهَهُم كالفلاسفةِ إنما هو تشبيهٌ للهِبالممتنِعاتِ؛ فإنه يَلزَمُهم أن يكونَ الوجودُ الواجبُ الذي لا يَقبلُ العدَمَ هو الممتنِعَ الذي لا يُتَصَوَّرُ وجودُه في الخارجِ, وإنما يُقدِّرُه الذِّهْنُ تقديراً، كما يُقدِّرُ كونَ الشيءِ موجوداً معدوماً, أو لا موجوداً, ولا معدوماً، فلزِمَهم الجمْعُ بينَ النقيضين، والْخُلُوُّ عن النقيضين وهذا من أعظمِ الممتنِعاتِ باتِّفاقِ العقلاءِ.
قولُه:
وآخرون وَصَفُوه بالنفيِ فقط، فقالَوا: ليس بحيٍّ، ولا سميعٍ، ولا بصيرٍ, وهؤلاءِ أعظمُ كفْراً من أولئك من وجهٍ.
الشرْحُ:
معناه أن مقالةَ النُّفاةِ العادِيِّينَ أشنعُ في الكفْرِ من مقالةِ النُّفاةِ المَحْضةِ؛ لأنه يَلزَمُ من نفيِهم صفةَ الكمالِ عن اللهِ وصفُهم له بنقيضِها، أما النُّفاةُ المَحْضةُ فقد صرَّحوا بنفيِ صفةِ النقصِ، كما صرَّحُوا بنفيِ صفةِ الكمالِ، فهم أقربُ إلى التنزيهِ من جهةِ تصريحِهم بنفيِ صفةِ النقصِ، ومقالةُ الفريقين تُشبِهُ مقالةَ طائفتين من الفلاسفةِ؛ إحداهما تَصِفُ اللهَ بسلْبِ الأمورِ الثبوتيَّةِ والسلبيَّةِ, والأخرى تَصِفُ اللهَ بسَلْبِ الأمورِ الثبوتيَّة فقط. والأُولَى أقربُ إلى الصوابِ من الثانيةِ؛ لأنه إذا وُصِفَ بسَلْبِ الأمورِ الثبوتيَّةِ دونَ العدَميَّةِ، فهو أسوأُ حالاً من الموصوفِ بسَلْبِ الأمورِ الثبوتيَّةِ والعدَميَّةِ؛ حيث يُشارِكُ سائرَ الموجوداتِ في مُسمَّى الوجودِ، وتَمتازُ عنه بأمورٍ وجوديَّةٍ, وهو يَمتازُ عنها بأمورٍ عدميَّةٍ، وأما إذا وُصِفَ بسَلْبِ الأمورِ الثبوتيَّةِ والعدَميَّةِ معاً؛ كان أقربَ إلى الوجودِ، وإن كان هذا ممتنِعاً فذاك ممتنِعٌ, وهو أقربُ إلى العدَمِ.
قولُه:
فإذا قيلَ لهؤلاءِ:هذا مستلزِمٌ وصْفَه بنقيضِ ذلك، كالموتِ والصَّمَمِ والبَكَمِ، قالوا: إنما يَلزَمُ ذلك لو كان قابلاً لذلك، وهذا الاعتذارُ يَزيدُ قولَهم فساداً.
الشرْحُ:
يعني أن النُّفاةَ غيرُ المَحْضةِ إذا قيلَ لهم: سلْبُكم لهذه الصفاتِ يَلزمُ منه اتِّصافُ اللهِ بنقيضِها؛ فنفيُ العلْمِ عنه سبحانَه يَلزمُ منه اتِّصافُه بالجهْلِ، ونفيُ الكلامِ يَلزمُ منه اتِّصافُه بالبَكَمِ، ونفيُ القدرةِ يَلزمُ منه اتِّصافُه بالعجْزِ، وهكذا سائرُ الصفاتِ. إذا قيل لهم هذا القولُ قالوا معتذِرِين: إنما يَلزَمُ من نفيِ الصفاتِ عن اللهِ اتِّصافُه بأضدادِها لو كان قابلاً لتلك الصفاتِ، أما إذا كان غيرَ قابلٍ لها فإنه لا يَلْزَمُ من نفيِها عندَ اتِّصافِه بضدِّها، فالإشارةُ في قولِه: (إنما يَلزَمُ ذلك) راجعةٌ إلى اتِّصافِه بنقائضِ تلك الصفاتِ كالجهْلِ والعجْزِ والبَكَمِ.
والإشارةُ في قولِه: (لو كان قابلاً لذلك) راجعةٌ إلى صفاتِ الكمالِ. ولا شكَّ أن اعتذارَهم هذا يَزيدُ قولَهم سُوءاً إلى سُوءٍ؛ لأن نفيَ قَبولِ الصفةِ أفظعُ من مجرَّدِ نفيِ الصفةِ, كما تَقدَّمَ إيضاحُه.
قولُه:
وكذلكَ من ضَاهَى هؤلاءِ وهم الذين يقولون: ليس بداخلِ العالَمِ ولا خارجِه، إذا قيل هذا ممتنِعٌ في ضرورةِ العقلِ، كما إذا قيلَ: ليس بقديمٍ ولا محدَثٍ ولا واجبٍ ولا ممكِنٍ، ولا قائمٍ بنفسِه، ولا قائمٍ بغيرِه، قالوا: هذا إنما يكونُ إذا كان قابلاً لذلك، والقَبولُ إنما يكونُ من المتحيِّزِ، فإذا انتفى التحيُّزُ انْتَفى قَبولُ هذَيْن المتناقضَيْن.
الشرْحُ:
يعني: ومثلَ مقالةِ النُّفاةِ السابقةِ, واعتذارُهم عنها قولُ من يقولُ: إن اللهَ لا داخلَ العالَمِ ولا خارجَه، فهؤلاءِ قالوا: إنما يَلزَمُ من سلْبِ الدخولِ والخروجِ عنه وصفُه بالممتنِعِ لو كان قابلاً للدخولِ والخروجِ، والقَبولُ إنما يكونُ من المتحيِّزِ, وما دامَ أن اللهَ غيرُ متحيِّزٍ، فهو غيرُ قابلٍ للدخولِ والخروجِ.
ومن ثَمَّ لا يكونُ سلْبُهما عنه أمراً ممتنِعاً، وأولئك قالوا: إنما يَلزَمُ من سَلْبِ الصفةِ عنه اتِّصافُه بنقيضِها لو كان قابلاً لها، فالجميعُ نَفَوْا عنه قَبولَ الصفاتِ، ومن المعلومِ أن نفيَ القَبولِ أشنَعُ من نفيِ الصفةِ. وقولُه: كما إذا قيلَ ليس بواجبٍ ولا ممكِنٍ) يعني أن هذه المقالةَ بمنزلَةِ هذه المقالةِ في أن الجميعَ معلومُ الامتناعِ بالضرورةِ.
قولُه:
فيُقالُ لهم: عِلْمُ الخلْقِ بامتناعِ الخُلُوِّ من هذين النقيضَيْن هو علْمٌ مُطلَقٌ لا يُستَثْنَى منه موجودٌ. والتحيُّزُ المذكورُ إن أُريدَ به كوْنُ الأحيازِ الموجودةِ تُحيطُ به فهذا هو الداخلُ في العالَمِ، وإن أُريدَ به أنه مُنحازٌ عن المخلوقاتِ؛ أي: مبايِنٌ لها متميِّزٌ عنها فهذا هو الخروجُ، فالمتحيِّزُ يُرادُ به تارةً ما هو داخلُ العالَمِ، وتارةً ما هو خارجُ العالَمِ، فإذا قيلَ: ليس بمتحيِّزٍ كان معناه ليس بداخلِ العالَمِ ولا خارجِه، فهم غَيَّرُوا العبارةَ ليُوهِموا مَن لا يَفْهَمُ حقيقةَ قولِهم أن هذا معنًى آخرُ, وهو المعنى الذي عُلِمَ فسادُه بضرورةِ العقلِ , كما فَعَلَ أولئك بقولِهم: ليس بحيٍّ ولا ميِّتٍ، ولا موجودٍ ولا معدومٍ، ولا عالِمٍ ولا جاهِلٍ.
الشرْحُ:
هذا شروعٌ في بيانِ الجوابِ على المقالةِ السابقةِ واعتذارِ أصحابِها, فإنه يُقالُ لهم: قولُكم: (لا داخلَ العالَمِ ولا خارجَه) سلْبٌ للنقيضين. والنقيضان لا يُمكِنُ الخُلُوُّ منهما؛ بل ذلك ممتنِعٌ, وامتناعُ الخُلُوِّ من النقيضين عامٌّ لا يُسْتَثْنَى منه أيُّ شيءٍ. والخلْقُ جميعاً يَعْلَمون أن النقيضين كما لا يُمكِنُ اجتماعُهما في آنٍ واحدٍ كذلك لا يُمكِنُ ارتفاعُهما, فقولُكم: (لا داخلَ ولا خارجَ العالَمِ) ممتنِعٌ؛ لأن كلَّ موجودٍ فهو إما أن يكونَ مُخالِطاً للعالَمِ، مُمْتَزِجاً به، وإما أن يكونَ منفصِلاً عن العالَمِ، مُبايِناً له، وقولُكم: (قَبولُ الدخولِ والخروجِ إنما يكونُ من المتحيِّزِ, واللهُ ليس بمتحيِّزٍ، فإذا انْتَفى التحيُّزُ انْتَفى قَبولُ هذين النقيضَيْن) يُقالُ لكم: قولُكم ليس بمتحيِّزٍ هو معنى قولِكم: لا داخلَ العالَمِ ولا خارجَه، ولكن غَيَّرْتُم العبارةَ مغالطةً لتُوهِمُوا مَن لا يُدرِكُ معنى كلامِكم أنكم أَتَيْتُمْ بمعنًى جديدٍ، وهو نفسُ كلامِكم الذي رُدَّ عليكم بأنه أمْرٌ ممتنِعٌ في ضرورةِ العقلِ, وبيانُ هذا أنهم إن أرادوا بالتحيُّزِ أن الْأَحْيَازَ الموجودةَ كالسمواتِ والعرشِ تُحيطُ به فهذا هو الداخلُ في العالَمِ، وإن أرادوا به أنه مُنْحازٌ عن المخلوقاتِ، أي: مبايِنٌ لها متميِّزٌ عنها، فهذا هو الخروجُ، فإذا المتحيِّزُ يُرادُ به تارةً ما هو داخِلُ العالَمِ, وتارةً ما هو خارجُ العالَمِ، فإذا قيلَ: ليس بمتحيِّزٍ. كان معناه ليس بداخلِ العالَمِ ولا خارجِه. وقولُه: (كما فَعلَ أولئك) يعني: الجَهْميَّةُ المَحْضةُ الذين يَسْلُبون عنه تعالى اتِّصافَه بالنقيضين، فهؤلاءِ الذين يقولون لا داخلَ العالَمِ ولا خارجَه من غُلاةِ الجَهْميَّةِ مُشَبَّهون بالقَرامطةِ في سلْبِهم النقيضَيْن, وفي اعتذارِهم الذي يَزيدُ قولَهم فساداً.
ونَخْتِمُ الكلامَ على هذه القاعدةِ بآيتين كريمتين تَدُلُّ كلٌّ منهما على أنه سبحانَه متَّصِفٌ بالنفيِ والإثباتِ بأوضحِ عبارةٍ وأَصرَحِ دَلالةٍ, وتَدْمَغُ النُّفاةَ المُعَطِّلين، والمفْتَرِين على اللهِ وعلى رسولِه بنفيِ صفاتِ اللهِ ونُعوتِ جلالِه بغيرِ دليلٍ من كتابٍ أو سنَّةٍ أو عقلٍ سليمٍ أو فِطْرةٍ مستقيمةٍ. قالَ تعالى: {رَبُّ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا فَاعْبُدْهُ وَاصْطَبِرْ لِعِبَادَتِهِ هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيًّا} أَخبرَ أنه لا سَمِيَّ له، عَقِبَ قولِ العارِفِين به: {وَمَا نَتَنَزَّلُ إِلاَّ بِأَمْرِ رَبِّكَ لَهُ مَا بَيْنَ أَيْدِينَا وَمَا خَلْفَنَا وَمَا بَيْنَ ذَلِكَ وَمَا كَانَ رَبُّكَ نَسِيًّا رَبُّ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا فَاعْبُدْهُ وَاصْطَبِرْ لِعِبَادَتِهِ} فهذا الربُّ الذي له هذا الجُنْدُ العظيمُ ولا يَتَنزلُون إلا بأمرِه, وهو المالِكُ لما بينَ أيديهم وما خلفَهم وما بينَ ذلك، وهو الذي كمُلَتْ قدرتُه وسلطانُه وملْكُه، وكَمُلَ علْمُه فلا يَنْسَى شيئاً أبداً، وهو القائمُ بتدبيرِ السمواتِ والأرضِ وما بينَهما؛ كما هو الخالقُ لذلك كلِّه، وهو ربُّه ومَلِيكُه, هذا الربُّ هو الذي لا سَمِيَّ له؛ لتفرُّدِه بكمالِ الصفاتِ والأفعالِ، فأمَّا من لا صفةَ له ولا فِعلَ ولا حقائقَ لأسمائِه، إن هي إلا ألفاظٌ فارغةٌ من المعانى, فالعدَمُ سَمِيٌّ له. وقالَ تعالى:{لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ} ذكَرَ سبحانَه هذا النفيَ بعدَ ذكْرِ أوصافِه ونعوتِ كمالِه فقالَ: {حم عسق كَذَلِكَ يُوحِي إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ اللهُ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ لَهُ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ} إلى قولِه: {فَاطِرُ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ جَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجاً وَمِنَ الْأَنْعَامِ أَزْوَاجاً يَذْرَؤُكُمْ فِيهِ لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ} فهذا الموصوفُ بهذه الصفاتِ والأفعالِ، والعُلُوِّ، والعظَمَةِ، والحفْظِ، والعزَّةِ، والحكمةِ، والمُلْكِ، والحمْدِ، والمغفرةِ، والرحمةِ، والكلامِ، والمشيئةِ، والوَلايةِ، والحياةِ، والقدرةِ التامَّةِ الشاملةِ، والحكْمِ بينَ عبادِه وكونِه: {فَاطِرُ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ} هذا هو الذي (ليس كمثلِه شيءٌ) لكثرةِ نعوتِه وأوصافِه وأسمائِه وأفعالِه وثبوتِها على وجهِ الكمالِ؛ فلا يُمَاثلُه فيها شيءٌ,وقد سَبقَت الإشارةُ إلى ذلك عندَ الكلامِ على الأصلِ الثاني.