بسم الله الرحمن الرحيم
التطبيقات:
1-قول ابن عباس في قوله عز وجل: {ولله المثل الأعلى} قال: (يقول: ليس كمثله شيء).
التخريج:
روى الطبري في تفسيره قال :حدثني عليّ، قال: ثنا أبو صالح، قال: ثني معاوية، عن عليّ، عن ابن عباس قوله: (وَلَهُ المَثَلُ الأعْلَى فِي السَّمَوَاتِ) يقول: ليس كمثله شيء.( جامع البيان 20 /96)
التوجيه:
يقول الطبري:
في تفسير قوله تعالى: ( ولله المثل الأعلى): ولله المثل الأعلى في السماوات والأرض ، وهو أنه لا إله إلا هو وحده لا شريك له ، ليس كمثله شيء ، فذلك المثل الأعلى ، تعالى ربنا وتقدس .
محمل هذا القول مبنى على معنى المثل في الآية ؛فإن المثل يأتي في القرآن على ثلاثة معان هي : 1- الوصف ومنه قول الله تعالى"مثل الجنة التي وعد المتقون " أي وصفها.
والثانى الأنموذج والمثال ومنه قول الله تعالى : (ضرب الله مثلا قرية كانت آمنة مطمئنة) والثالث ما يضرب من أمثال للعبرة والعظة كقوله تعالى: (وتلك الأمثال نضربها للناس) ، ( ومثلهم كمثل الذي استوقد نارا) ، ولاشك أن المعنى المراد الذي يليق بجلال الله وكماله هو المعنى الأول كما قال النحاس :وحقيقته في اللغة :" وله الوصف الأعلى " ، والمعنى أي له الصفات العليا ؛ فله من كل صفة أعلاها ومنتهاها ، لذلك وصفت صفاته بأنها حسنى أي التي بلغت من الحسن منتهاه.
الخلاصة أن هذا القول محمول على التفسير بلازم المعنى ، فطالما أن الله عز وجل له صفات الجلال والكمال العليا فيلزم من ذلك أنه ليس كمثله شيء سبحانه وتعالى.
-----
2- قول ابن عباس في تفسير قول الله تعالى: {وادّكر بعد أمه} قال: بعد نسيان.
التخريج:
رواه ابن أبي حاتم وابن جرير الطبري عن طريق : همّامٌ، عن قتادة، عن عكرمة، عن ابن عبّاسٍ، أنّه كان يقرؤها: بعد أمَهٍ ويفسّرها: بعد نسيانٍ.
التوجيه:
قال بن جرير:وقد روي عن جماعةٍ من المتقدّمين أنّهم قرءوا ذلك: بعد أمّةٍ بفتح الألف، وتخفيف الميم، وفتحها بمعنى بعد نسيانٍ. وذكر بعضهم .
فالعرب تقول من ذلك: أمه الرّجل يأمه أمهًا: إذا نسي. وكذلك تأوّله من قرأ ذلك كذلك.
وتوجيه هذا القول مبنى على اختلاف القراءات فقراءة أمة بفتح الألف وتخفيف الميم بمعنى نسيان وأن ذلك تعرفه العرب
وليس بين معنى أمة أي حقبة من الزمن ، وأمه أي نسيان تضاد ؛ بل ربما يكون بينهما علاقة تعليلية ،إذ أن التذكر بعد حين أو مدة من الزمن -كما جاء في بعض أقوال السلف الأخرى كعكرمة وقتادة- يقتضي نسيانا وإلا فما فائدة قوله : "وادكر"، والتذكر يكون غالبا بعد نسيان.
-------
3- قول سالم الأفطس في قوله تعالى: {إنما ذلكم الشيطان يخوف أولياءه} قال: (يخوفكم بأوليائه).
التخريج:
روى بن جريرالطبري في تفسيره :قال: حدّثني يونس، قال: أخبرنا عليّ بن معبدٍ، عن عتّاب بن بشيرٍ، مولى قريشٍ، عن سالمٍ الأفطس، في قوله: {إنّما ذلكم الشّيطان يخوّف أولياءه} قال: يخوّفكم بأوليائه ( الجامع لأحكام القرآن 7 /416)
التوجيه:
قال بن عطية :
يُخَوِّفُ فعل يتعدى إلى مفعولين، لكن يجوز الاقتصار على أحدهما إذ الآخر مفهوم من بنية هذا الفعل، لأنك إذا قلت: خوفت زيدا، فمعلوم ضرورة أنك خوفته شيئا حقه أن يخاف، وقرأ جمهور الناس يُخَوِّفُ أَوْلِياءَهُ فقال قوم المعنى: يخوفكم أيها المؤمنون أولياءه الذين هم كفار قريش، فحذف المفعول الأول .
وقرأ ابن عباس فيما حكى أبو عمرو الداني «يخوفكم أولياءه» المعنى يخوفكم قريش ومن معهم، وذلك بإضلال الشيطان لهم وذلك كله مضمحل، وبذلك قرأ النخعي وحكى أبو الفتح بن جني عن ابن عباس أنه قرأ «يخوفكم أولياءه» فهذه قراءة ظهر فيها المفعولان،وفسرت قراءة الجماعة «يخوف أولياءه» قراءة أبي بن كعب «يخوفكم بأوليائه»
قال بن عاشور:
وَقَوْلُهُ: يُخَوِّفُ أَوْلِياءَهُ تَقْدِيرُهُ يُخَوِّفُكُمْ أَوْلِيَاءَهُ، فَحَذَفَ الْمَفْعُول الأول لفعل (يُخَوِّفُ) بِقَرِينَةِ قَوْلِهِ بَعْدَهُ: فَلا تَخافُوهُمْ فَإِنَّ خَوَّفَ يَتَعَدَّى إِلَى مَفْعُولَيْنِ إِذْ هُوَ مُضَاعَفُ خَافَ الْمُجَرَّدِ، وَخَافَ يَتَعَدَّى إِلَى مَفْعُولٍ وَاحِدٍ فَصَارَ بِالتَّضْعِيفِ مُتَعَدِّيًا إِلَى مَفْعُولَيْنِ مِنْ بَابِ كَسَا كَمَا قَالَ تَعَالَى: وَيُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ [آل عمرَان: 28] .
وَضَمِيرُ فَلا تَخافُوهُمْ عَلَى هَذَا يَعُودُ إِلَى أَوْلِياءَهُ.
الخلاصة:
توجيه هذا القول يرجع إلى اختلاف القراءات وإلى لغة العرب وما تتضمنه من الحذف والاختصار في الكلام ، وهذا من البلاغة ، وأيضا مايدل عليه سياق الآية فإن الخطاب للمؤمنين ودليل ذلك قوله {فلاتخافوهم وخافون إن كنتم مؤمنين} ، ومن المعلوم أن الشيطان لا يخوف أولياءه من الكفار والمنافقين بل يدفعهم دفعاً لقتال المؤمنين والبطش بهم ،وإنما يخوف المؤمنين ويثبطهم عن قتال الكفاربأن يجعل لأولياءه هالة وعظمة فيحسب المؤمنون لهم حساباً.
-------
4-قول سعيد بن جبير في قول الله تعالى: {يحفظونه من أمر اللّه}: (الملائكة: الحفظة، وحفظهم إيّاه من أمر اللّه)
التخريج:
روى بن جرير في تفسيره قال:حدّثنا ابن حميدٍ، قال: حدّثنا جريرٌ، عن عطاء بن السّائب، عن سعيد بن جبيرٍ: {يحفظونه من أمر اللّه} قال: الملائكة: الحفظة، وحفظهم إيّاه من أمر اللّه.
التوجيه:
قال بن جرير:
الّذين يحفظونه هم الملائكة ووجه قوله: ( بأمر اللّه ) إلى معنى أنّ حفظها إيّاه من أمر اللّه.
قال ابن عطية:
و " المعقبات " - على هذا الملائكة الحفظة على العباد أعمالهم، والحفظة لهم أيضاً - قاله الحسن، وروى فيه عثمان بن عفان حديثاً عن النبي صلى الله عليه وسلم وهو قول مجاهد والنخعي.... ،{ من أمر الله } يحتمل أن يكون صفة لـ { معقبات } ويحتمل أن يكون المعنى: يحفظونه من كل ما جرى القدر باندفاعه، فإذا جاء المقدور الواقع أسلم المرء إليه.
قال مكي بن أبي طالب:
واختار النحاس القول الأول، وهو أن يكون (المعقبات): (الملائكة) على ما تقدم ذكره، واحتج فيه (بما) رواه أبو هريرة من حديث مالك بن أنس رضي الله عنهـ أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " لله ملائكة يتعاقبون فيكم بالليل والنهار "متفق عليه.
قال السمين الحلبي:
قوله { يَحْفَظُونَهُ } يجوز أن يكونَ صفةً لـ " مُعَقِّبات " ، ويجوز أن يكونَ حالاً من الضميرِ المستكنِّ في الجارِّ الواقعِ خبراً. و { مِنْ أَمْرِ ٱللَّهِ } متعلقٌ به، و " مِنْ ": إمَّا للسبب، أي: بسبب أمرِ الله، -ويدلُّ له قراءة علي بن أبي طالب وابن عباس وزيد بن علي وعكرمة " بأَمْرِ الله ". وقيل: المعنى على هذا: يحفظون عملَه بإذن الله، فحذف المضافَ- وإمَّا أن تكونَ على بابها. قال أبو البقاء: " مِنْ أَمْرِ الله، أي: من الجنِّ والإِنس، فتكون " مِنْ " على بابها ". يعني أَنْ يُرادَ بأمر الله نفسُ ما يُحْفَظُ منه كَمَرَدة الإِنس والجنِّ، فتكون " مِنْ " لابتداء الغاية.
ومن جعل (المعقبات) ملائكة كان قوله من أمر الله على وجهين:
أحدهما: أن تكون "من " بمعنى الباء، أي: يحفظونه بأمر الله لهم أن يحفظوه حتى يأتيه ما قدر عليه، فلا ينفع حفظهم إياه من قدر الله (سبحانه) إذا جاءهم (وهو توجيه قول ابن جبير).
وقال الحسن: المعنى: يحفظونه عن أمر الله، " فمن " بمعنى " عن "،والمعنى: حفظهم إياه عن أمر الله، كان، لا من عند أنفسهم.
وخلاصة القول :أن محمل تفسير سعيد بن جبير الحفظة: بالملائكة هو ماوردت به النصوص الصحيحة من كون الملائكة توصف بالتعاقب كما جاء في حديث أبي هريرة وتوصف بالحفظ كما ورد في القرآن {وإن عليكم لحافظين كراما كاتبين}وقوله {ويرسل عليكم حفظة}
وأما وجه تفسير قوله تعالى {من أمر الله} حفظهم إياه من أمر الله أمران :
أحدهما :أن القراءة الشاذة " بأمر الله" تعضده وهى قراءة مفسرة للمعنى.
الثاني:أن {من}بمعنى الباء أي السببية أي قيامهم بحفظه كان بأمر الله لهم وبإذنه لهم.
-------
5- قول ابن عباس رضي الله عنهما في الكوثر: (هو الخير الكثير الذي أعطاه الله إياه).
التخريج
قال محمدُ بنُ إسماعيلَ بن إبراهيم البخاريُّ (ت: 256هـ) : (حدّثنا يعقوب بن إبراهيم، حدّثنا هشيمٌ، حدّثنا أبو بشرٍ، عن سعيد بن جبيرٍ، عن ابن عبّاسٍ -رضي اللّه عنهما-، أنّه قال: «في الكوثر: هو الخير الّذي أعطاه اللّه إيّاه» ، قال أبو بشرٍ: قلت لسعيد بن جبيرٍ: فإنّ النّاس يزعمون أنّه نهرٌ في الجنّة، فقال سعيدٌ: النّهر الّذي في الجنّة من الخير الّذي أعطاه اللّه إيّاه). [صحيح البخاري: 6 / 178]
كما رواه الطبري في تفسيره عن طريقي أبي بشر وعطاء بن السائب، عن سعيد بن جُبير، عن ابن عباس .
التوجيه
قال ابن عاشور في التحرير والتنوير:
{ الكوثر } اسم في اللغة للخير الكثير صيغ على زِنة فوْعل، وهي من صيغ الأسماء الجامدة غالباً نحو الكوكب، والجورب، والحوشب والدوسر، ولا تدل في الجوامد على غير مسماها، ولما وقع هنا فيها مادة الكَثْر كانت صيغته مفيدة شدة ما اشتقت منه بناء على أن زيادة المبنى تؤذن بزيادة المعنى، ولذلك فسره الزمخشري بالمفرط في الكثرة، وهو أحسن ما فُسر به وأضبطُه، ونظيره جَوْهر، بمعنى الشجاع كأنه يجاهر عدوّه، والصومعة لاشتقاقها من وصف أصمع وهو دقيق الأعضاء لأن الصومعة دقيقة لأن طولها أفرط من غلظها. ويوصفُ الرجل صاحب الخير الكثير بكَوثر من باب الوصف بالمصدر كما في قول لبيد في رثاء عوف بن الأحوص الأسدي
وصاحب ملحوب فُجعنا بفقده وعند الرّداع بيتُ آخر كوثر
ملحوب والرداع كلاهما ماء لبني أسد بن خزيمة، فوصف البيت بكوثر ولاحظ الكميت هذا في قوله في مدح عبد الملك بن مروان
وأنتَ كثيرٌ يا ابنَ مروان طيبٌ وكان أبوك ابنُ العقايل كَوْثرا
وسمي نهر الجنة كوثراً كما في حديث مسلم عن أنس بن مالك قال:بَيْنَمَا نَحْنُ عِندَ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَليَهِ وسَلَّمَ إِذْ غَفَا إِغْفَاءَةً ثُمَّ رَفَعَ رَأْسَهُ مُتَبَسِّمًا فقُلْنَا: مَا أَضْحَكَكَ يَا رَسُولَ اللهِ؟ قَالَ: «نَزَلَتْ عَلَيَّ سُورَةٌ» فَقَرَأَ بِسْمِ اللهِ الرَّحمنِ الرَّحَيم {إِنَّا أَعْطَيْنَاكَ الْكَوْثَرَ} إِلَى آخِرِهَا، ثم قَالَ: «أَتَدْرُونَ مَا الكَوْثَرُ؟» قُلْنَا: اللهُ ورَسُولُهُ أَعْلَمُ. قَالَ: «فَإِنَّهُ نَهَرٌ وَعَدَنِيهِ رَبِّي عَلَيْهِ خَيْرٌ كَثِيرٌ، وهُو حَوْضٌ تَرِدُ عَلَيْهِ أُمَّتِي يَوْمَ القِيَامَةِ» الحديثَ. ، وقد فسر السلف الكوثر في هذه الآية بتفاسير أعمها أنه الخير الكثير، وروي عن ابن عباس، قال سعيد بن جبير فقلت لابن عباس إن ناساً يقولون هو نهر في الجنة، فقال هو من الخير الكثير. وعن عكرمة الكوثر هنا النبوءة والكتاب، وعن الحسن هو القرآن، وعن المغيرة أنه الإِسلام، وعن أبي بكر بن عَيَّاش هو كثرة الأمة، وحكى الماوردي أنه رفعة الذكر، وأنه نور القلب، وأنه الشفاعة، وكلام النبي صلى الله عليه وسلم المروي في حديث أنس لا يقتضي حصر معاني اللفظ فيما ذكره. وأريد من هذا الخبر بشارة النبي صلى الله عليه وسلم وإزالةُ ما عسى أن يكون في خاطره من قول من قال فيه هو أبتر، فقوبل معنى الأبتر بمعنى الكوثر، إبطالاً لقولهم.
الخلاصة:
أن حاصل قول سعيد بن جبير أن قول ابن عباس في الكوثر أنه الخير الكثير لا يخالف قول غيره : إن المراد به نهر في الجنة ؛ لأن النهر فرد من أفراد الخير الكثير، بل قال ابن حجر العسقلاني :" والكَوْثَرُ فَوْعَلٌ مِنَ الكَثْرَةِ، سُمِّيَ بِهَا النَّهَرُ؛ لِكَثْرَةِ مَائِهِ وآنِيَتِهِ وعِظَمِ قَدْرِهِ وخَيْرِهِ " .
وتأويل ابن عباس تشهد له لغة العرب كما أنه أعم في المعنى.
---------