المجموعة الثانية:
1: حرر القول في المسائل التالية:
أ. المراد بالملكين.
جاء في قراءة الملكين روايتين بكسر اللام وفتحها وبحسب الرواية يتغير المعنى، ويندرج تحت كل قراءة أكثر من معنى:
القراءة الأولى: أنهما ملكين بفتح اللام، من الملائكة، وجاء في معنى الآية على هذا التفسير عدة أقوال:
[ وعلى هذا القول قيل بأن الملكين هما هاروت وماروت ، أو جبريل وميكال ]
- أن المعنى: أنهما يعلمان نبأ السحر ويعرفان بمبادئه تعريفا يسيرا, ويأمران باجتنابه،
[ ويكون الكفر هنا بالعمل به ] ذكره الزجاج وابن عطية، ونقله ابن كثير عن ابن جرير.
- أن المعنى: : أن يكون اللّه عزّ وجلّ امتحن بالملكين الناس في ذلك الوقت، وجعل المحنة في الكفر والإيمان أن يقبل القابل تعلم السحر، فيكون بتعلّمه كافراً, وبترك تعلمه مؤمناً، والملكين مطيعان بهذا التعليم لأنهما ينفذان ما أمرا به، ذكره الزجاج وابن عطية، وقيل أنه نزل عليهما ما يفرق به بين المرء وزوجه وهو دون السحر وهو قول مجاهد ذكره عنه ابن عطية.
- أن ما هنا نافية، أي لم ينزل على الملكين، وقيل أن الملكين على هذا القول هما جبريل وميكائيل، ذكره الزجاج وابن عطية ونقله ابن كثير عن القرطبي ورواه ابن جرير عن ابن عباس والربيع بن أنس وأبو العالية وذكره ابن كثير وروى ابن أبي حاتم عن عطية مثل هذا المعنى.
وقد أورد المفسرون روايات فيها غرابة، وقصص تبرر كون الملكين مع عصمة الملائكة يعلمان السحر، بعض القصص تشبه واقع هذين الملكين بواقع، وقيل بأنهما ملكين أنزلا إلى الأرض وامتحنا بما امتحن به البشر من الفتن.
القراءة الثانية: أنهما الملكين بكسر اللام، ويوجه على هذه القراءة الإنزال بأنه بمعنى الخلق، وهي قراءة ابن عباس والحسن والضحاك وابن أبزى، وأبو الأسود الدؤلي.
وقيل في المعنى على هذه القراءة:
- هما داود وسليمان وما هنا نافية، قاله ابن أبزى وذكره ابن عطية ونقله ابن كثير عن القرطبي.
- هما علجان كانا ببابل ملكين وقيل هما هاروت وماروت، وما هنا ليست نافية، قاله الحسن، والضحاك وذكره ابن عطية وابن كثير
الترجيح:
قال الزجاج عن قراءة الملكين بالفتح أنها أثبت قراءة وتفسيرا ورجح المعنى الأول والثاني المندرج تحت هذه القراءة
ورجح القرطبي القول الثالث المندرج تحت قراءة الفتح وهو أن ما نافية وقال: وهذا أولى ما حملت عليه الآية وأصحّ ولا يلتفت إلى ما سواه.
ورد ابن جرير القول بأن ما نافية ورجح بأنهما ملكين وكل إليهما تعليم السحر فهما مطيعان بذلك ورد هذا القول ابن كثير ووصفه بالغرابة.
والله أعلم بالصواب.
ب. المراد بما سئل موسى من قبل.
قال تعالى: {يسألك أهل الكتاب أن تنزل عليهم كتابًا من السّماء فقد سألوا موسى أكبر من ذلك فقالوا أرنا اللّه جهرةً فأخذتهم الصّاعقة بظلمهم}[النّساء: 153].
فقد سأل قوم موسى نبيهم أن يريهم الله جهرة، قاله مجاهد، وذكره ابن عطية، وابن كثير
وقد أنكر الله على المؤمنين في هذه الآية عن أن يسألوا النبي محمد صلى الله عليه وسلم، ما لا خير لهم في السؤال عنه وما يكفّرهم، بعد وضوح البراهين لهم، وجاء في تحديد السبب الذي أنزلت لأجله الآية عدة أقوال منها أنهم تمنوا أن ذنوبهم جرت مجرى ذنوب بني إسرائيل ، ومنها أنهم سألوه أن يفجر لهم العيون، أو يريهم الله جهرة، أو يأتيهم بالله والملائكة قبيلا ، أو يقلب لهم الصفا ذهبا، أو غير ذلك مما هو على وجه التعنّت والاقتراح، كما سألت بنو إسرائيل موسى، عليه السّلام، تعنّتًا وتكذيبًا وعنادًا.
[ والراجح عموم ما سأله بنو إسرائيل ]
2: فصّل القول في تفسير قول الله تعالى:
{وَدَّ كَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَوْ يَرُدُّونَكُمْ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِكُمْ كُفَّارًا حَسَدًا مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِهِمْ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الْحَقُّ}.
هذه الآية تابعة في المعنى لما تقدم من نهي الله عن متابعة أقوال اليهود، وأنهم لا يودون أن ينزل خير، ويودون أن يردوا المؤمنين كفارا.
وقد جاء في سبب نزولها:
- إن حذيفة بن اليمان وعمار بن ياسر أتيا بيت المدارس
[ المِدْراس ؛ كذا جاءت في الأصل ] ، فأراد اليهود صرفهم عن دينهم، فثبتا عليه ونزلت الآية.
- عن ابن عباس، قال: كان حييّ بن أخطب وأبو ياسر بن أخطب من أشدّ يهود للعرب حسدًا، إذ خصهم اللّه برسوله صلّى اللّه عليه وسلّم وكانا جاهدين في ردّ النّاس عن الإسلام ما استطاعا، فأنزل اللّه فيهما: {ودّ كثيرٌ من أهل الكتاب لو يردّونكم} الآية.
- عن عبد الرّحمن بن عبد اللّه بن كعب بن مالكٍ، عن أبيه: أنّ كعب بن الأشرف اليهوديّ كان شاعرًا، وكان يهجو النّبيّ صلّى اللّه عليه وسلّم. وفيه أنزل اللّه: {ودّ كثيرٌ من أهل الكتاب لو يردّونكم} إلى قوله: {فاعفوا واصفحوا}
{ود كثير من أهل الكتاب}
المعني بأهل الكتاب هنا اليهود وكتابهم التوراة، ومع ما جاء في تحديد سبب النزول لبعض اليهود إلا أن المعنى يتضمن الأتباع كما قال ابن عطية.
{لَوْ يَرُدُّونَكُمْ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِكُمْ كُفَّارًا حَسَدًا}
جحدوا ما جاء به محمد صلى الله عليه وسلم ، كفرًا وحسدًا وبغيًا.
{مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِهِمْ}
المعنى أنهم لم يجدوا ذلك في كتاب ولا أمروا به فهو من تلقائهم، قال تعالى:
- يقولون بأفواههم [آل عمران: 167].
- ويكتبون الكتاب بأيديهم [البقرة: 79].
[ وورد في متعلق الجار والمجرور هنا ثلاثة أقوال يقتضي طلب التفصيل أعلاه في رأس السؤال ذكرها ]
{من بعد ما تبين لهم الحقّ}
من بعد ما أضاء لهم الحقّ لم يجهلوا منه شيئًا، والمراد به في هذه الآية نبوة محمد صلى الله عليه وسلم يجدونها مكتوبًة عندهم في التّوراة والإنجيل ، وصحة ما المسلمون عليه.
وهذه الآية من الظواهر في صحة الكفر عنادا، يحذّر تعالى فيها عباده المؤمنين عن سلوك طرائق الكفّار من أهل الكتاب، ويعلمهم بعداوتهم لهم في الباطن والظّاهر وما هم مشتملون عليه من الحسد للمؤمنين، مع علمهم بفضلهم وفضل نبيّهم.
التزمت بتفسير القدر المطلوب في السؤال ولا أدري إن كان المطلوب تفسير كامل الآية؟
[ بل تفسير القدر المطلوب لكن بتفصيل جميع الأقوال الواردة ]
3: أجب عما يلي:
أ: ما المراد بملك سليمان في قوله تعالى: {واتبعوا ما تتلو الشياطين على ملك سليمان}؟
فيه أقوال:
1- على عهد ملك سليمان عليهم، وقد كان السحر موجودا قبل ذلك وإنما اتبع في عهد سليمان، قاله السدي والحسن وذكره الزجاج وابن عطية وابن كثير
2- في ملك سليمان بمعنى في قصصه وصفاته وأخباره، أي: ما ترويه وتخبر به وتحدثه الشّياطين على ملك سليمان وتضمن تتلوا هنا معنى تكذب، أي تكذب الشياطين في ملك سليمان، محصلة ما فهمته من كلام ابن جرير وابن عطية. ورجحه ابن كثير.
3- على شرعه ونبوته وحاله، فيكون معنى اتبعوا هنا: فضلوا، أي فضلوا ما تتلوه الشياطين على شرع سليمان، محصلة ما فهمته مما قاله الطبري، وذكره ابن عطية، وابن كثير
ب: بيّن أثر اختلاف القراءات على المعنى في قوله تعالى: {ما ننسخ من آية أو ننسها}.
جاء في قراءة ننسها عدد من القراءات لا تخلو من أن يكون مرجعها إلى:
- النسيان الذي هو ضد الذكر.
- أو النسيان الذي هو الترك.
- أو النسء الذي هو الـتأخير.
وفيما يلي أحاول شرح ذلك ملخصا مما ذكر في التفاسير الثلاثة المقررة وبالله التوفيق:
• أولا: النسيان الذي هو ضد الذكر، ومما ذكره المفسرون من القراءات التي ترجع لهذا المعنى:
- قرأ نافع وحمزة والكسائي وعاصم وابن عامر وجمهور من الناس { نُنْسِهَا} بضم النون الأولى وسكون الثانية وكسر السين وترك الهمزة، وهذه من أنسى المنقول من نسي
- وقرأ سعد بن أبي وقاص «أو تنسها» على مخاطبة النبي صلى الله عليه وسلم ونون بعدها ساكنة وفتح السين، من النسيان
- وقرأ الضحاك بن مزاحم وأبو رجاء «ننسّها» بضم النون الأولى وفتح الثانية وسين مكسورة مشددة، وهذه أيضا من النسيان
- وقرأ أبي بن كعب «أو ننسك» بضم النون الأولى وسكون الثانية وسين مكسورة وكاف مخاطبة
- وفي مصحف سالم مولى أبي حذيفة «أو ننسكها» مثل قراءة أبيّ إلا أنه زاد ضمير الآية
- وقرأ الأعمش «ما ننسك من آية أو ننسخها نجيء بمثلها»، وهكذا ثبتت في مصحف عبد الله بن مسعود.
فيكون معنى الآية: ما ننسخ من آية أو نقدر نسيانك لها فتنساها حتى ترتفع جملة وتذهب فإنا نأتي بما هو خير منها لكم أو مثله في المنفعة.محصلة ما فهمته مما روي عن عمر بن الخطاب وما رواه ابن جرير عن الحسن وعن سعد بن أبي وقاص ورواه ابن أبي حاتم عن ابن عباس، وقاله محمد بن كعب وقتادة وعكرمة وعبيد بن عمير، وذكره ابن عطية وابن كثير.
وقد رد الزجاج هذا المعنى وقال بعدم جوازه بدليل قوله تعالى:
- {ولئن شئنا لنذهبنّ بالّذي أوحينا إليك}فالمعنى لا يشاء ، وفسر قوله {فلا تنسى} بأحد المعنيين: إما لست تترك إلا ما شاء الله، أو إلا ما شاء الله مما يلحق بالبشرية ثم تذكر بعد ذلك. ليس أنه على طريق السلب للنبي صلى الله عليه وسلم شيئاً أوتيه من الحكمة.
ورد القائلون بجواز ذلك ومنهم أبو علي ورجحه ابن عطية بقوله تعالى:
- { سنقرئك فلا تنسى } فالمعنى أن الله لو شاء لأنسى رسوله
- أن معنى {لئن شئنا لنذهبن..} الآية، لم نذهب بالجميع.
- أن نسيان النبي صلى الله عليه وسلم لما أراد الله تعالى أن ينساه ولم يرد أن يثبت قرآنا جائز.
- أن النبي صلى الله عليه وسلم معصوم من النسيان الذي هو آفة في البشر قبل التبليغ وبعد التبليغ ما لم يحفظه أحد من أصحابه، وأما بعد أن يحفظ فجائز عليه ما يجوز على البشر لأنه قد بلغ وأدى الأمانة، ومنه الحديث حين أسقط آية، فلما فرغ من الصلاة قال: أفي القوم أبيّ؟ قال: نعم يا رسول الله، قال: فلم لم تذكرني؟ قال: حسبت أنها رفعت، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: لم ترفع ولكني نسيتها.
• ثانيا: النسيان الذي هو بمعنى الترك، ومما ذكره المفسرون من القراءات التي ترجع لهذا المعنى:
- قراءة «أو ننسها» بفتح النون الأولى وسكون الثانية وفتح السين، وهذه بمعنى الترك
فتحمل الآية على معان:
- أحدها: ما ننسخ على وجوه النسخ أو نترك غير منزل عليك فإنا لا بد أن ننزل رفقا بكم خيرا من ذلك أو مثله حتى لا ينقص الدين عن حد كماله.
- الثاني: أو نترك تلاوته وإن رفعنا حكمه فيجيء النسخ على هذا رفع التلاوة والحكم.
- الثالث: أو نترك حكمه وإن رفعنا تلاوته فالنسخ أيضا على هذا رفع التلاوة والحكم.
- الرابع: أو نتركها غير منسوخة الحكم ولا التلاوة، فالنسخ على هذا المعنى هو على جميع وجوهه، ويجيء الضميران في منها أو مثلها عائدين على المنسوخة فقط، وكان الكلام إن نسخنا أو أبقينا فإنا نأتي بخير من المنسوخة أو مثلها.
الخامس: أي نأمر بتركها، فيكون المعنى ترك العمل بما جاءت به الآية دون إبداله بحكم جاء في آية أخرى كما هو الحال في النسخ، قاله الزجاج، ووجه المعنى على الأمر بالترك دون وجود بديل كما أمر المسلمون بامتحان المسلمات المهاجرات ثم أمروا بترك المحنة.
قال الزجاج: إن القراءة «أو ننسها» بضم النون وسكون الثانية وكسر السين لا يتوجه فيها معنى الترك لأنه لا يقال أنسأ بمعنى ترك، وقال أبو علي وغيره: ذلك متجه لأنه بمعنى نجعلك تتركها.
• ثالثا: النسء بمعنى التأخير، يقال:
- نسأ اللّه في أجله, وأنسأ اللّه أجله, أي: أخر أجله.
- نسأت الإبل عن الحوض أنسؤها نسأ أي أخرتها، وكذلك يقال: أنسأ الإبل إذا زاد في ظمئها يوما أو يومين أو أكثر من ذلك بمعنى أخرها عن الورد،
- أنسأت الدين وغيره أنسؤه إنساء إذا أخرته
ومما ذكره المفسرون من القراءات التي ترجع لهذا المعنى.
- قرأ عمر بن الخطاب رضي الله عنه وابن عباس وإبراهيم النخعي وعطاء بن أبي رباح ومجاهد وعبيد ابن عمير وابن كثير وأبو عمرو «ننسأها» بنون مفتوحة وأخرى بعدها ساكنة وسين مفتوحة وألف بعدها مهموزة، وهذه من التأخير.
- قُرأت { نَنْسَؤُها } الهمز بعد السين، فهذه بمعنى التأخير.
- قرأت فرقة مثل هذه القراءة إلا أنها بتاء مفتوحة أولا على مخاطبة النبي صلى الله عليه وسلم وإسناد الفعل إليه.
- وقرأ أبو حيوة مثل ذلك إلا أنه ضم التاء أولا.
فتحمل الآية على أربعة معان.
- أولها: ما ننسخ أو نؤخر إنزاله، قاله أبو العالية وذكره ابن عطية وابن كثير.
- والثاني: ما ننسخ النسخ الأكمل، أو نؤخر حكمه وإن أبقينا خطه وتلاوته، قاله مجاهد وذكره ابن عطية وابن كثير.
- والثالث: ما ننسخ النسخ الأكمل، أو نؤخر تلاوته وإن أبقينا حكمه
- والرابع: ما ننسخ أو نؤخره مثبتا لا ننسخه، ويعود الضميران كما ذكر في الترك، قاله ابن عباس ، وعبيد بن عميرٍ، ومجاهدٌ، وعطاءٌ و عطيّة العوفيّ والسدي والربيع بن أنس وذكره ابن عطية وابن كثير.
قال ابن عطية:
"وبعض هذه المعاني أقوى من بعض، لكن ذكرنا جميعها لأنها تحتمل، وقد قال «جميعها» العلماء إما نصا وإما إشارة فكملناها."
ثانيا: القراءات في قوله {ننسخ}:
ذكر ابن عطية أن فيها قراءتان
القراءة الأولى: قرأ الجمهور: ما ننسخ بفتح النون من نسخ.
القراءة الثانية: قرأ أبو عامر: ما ننسخ بضم النون، من أنسخ.
وبعد التفصيل خلص إلى أن القراءتان متفقتان في المعنى.
ج: بيّن حكم الساحر.
قيل: يكفر بدلالة قوله تعالى:{ ولو أنّهم آمنوا واتّقوا} وهو رواية عن الإمام أحمد وطائفة من السلف
وقيل: بل لا يكفر.
ولكن حده ضرب عنقه، لما روي عن عمر بن الخطّاب، رضي اللّه عنه، أن اقتلوا كلّ ساحرٍ وساحرةٍ. قال: فقتلنا ثلاث سواحر. وقد أخرجه البخاريّ في صحيحه أيضًا. وهكذا صحّ أنّ حفصة أمّ المؤمنين سحرتها جاريةٌ لها، فأمرت بها فقتلت. قال أحمد بن حنبلٍ: صحّ من أصحاب النّبيّ صلّى اللّه عليه وسلّم أذنوا في قتل السّاحر.
وعن جندبٍ الأزديّ أنّه قال: قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم: «حدّ السّاحر ضربه بالسّيف». رواه الترمذي.
وحمل الشّافعيّ -رحمه اللّه- قصّة عمر وحفصة على سحر يكون شركًا. واللّه أعلم.
4: فسّر بإيجاز قول الله تعالى:
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا تَقُولُوا رَاعِنَا وَقُولُوا انْظُرْنَا وَاسْمَعُوا وَلِلْكَافِرِينَ عَذَابٌ أَلِيمٌ (104)}.
{ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا تَقُولُوا رَاعِنَا}
أتى رجل عبد اللّه بن مسعودٍ، فقال: اعهد إليّ. فقال:
«إذا سمعت اللّه يقول{يا أيّها الّذين آمنوا} فأرعها سمعك، فإنّه خيرٌ يأمر به أو شرٌّ ينهى عنه».
رواه ابن أبي حاتم.
وقد نهى اللّه تعالى المؤمنين أن يتشبّهوا بالكافرين في أقوالهم وأفعالهم، كما جاء في الحديث الذي رواه الإمام أحمد: ( من تشبه بقوم فهو منهم ) ففيه دلالةٌ على النّهي الشّديد والتّهديد والوعيد، على التّشبّه بالكفّار في أقوالهم وأفعالهم، ولباسهم وأعيادهم، وعباداتهم وغير ذلك من أمورهم التي لم تشرع لنا ولا نقرر عليها.
وقد كان اليهود يورون في الكلام ويقصدون التنقيص -عليهم لعائن اللّه- فإذا أرادوا أن يقولوا: اسمع لنا يقولون: راعنا. يورون بالرّعونة، كما قال تعالى: {من الّذين هادوا يحرّفون الكلم عن مواضعه ويقولون سمعنا وعصينا واسمع غير مسمعٍ وراعنا ليًّا بألسنتهم وطعنًا في الدّين ولو أنّهم قالوا سمعنا وأطعنا واسمع وانظرنا لكان خيرًا لهم وأقوم ولكن لعنهم اللّه بكفرهم فلا يؤمنون إلا قليلا}[النّساء: 46]
وكذلك جاءت الأحاديث بالإخبار عنهم، بأنّهم كانوا إذا سلّموا إنّما يقولون: السام عليكم. والسّام هو: الموت. ولهذا أمرنا أن نردّ عليهم بـ "وعليكم". وإنّما يستجاب لنا فيهم، ولا يستجاب لهم فينا
وفي هذه الآية نهى سبحانه وتعالى المؤمنين عن قول {راعنا } وقد جاء في معناها ثلاثة أقوال:
- أنها بمعنى: أرعنا سمعك،
قال أبو صخر: كان رسول اللّه -صلّى اللّه عليه وسلّم-، إذا أدبر ناداه من كانت له حاجةٌ من المؤمنين، فيقول: أرعنا سمعك. فأعظم اللّه رسوله -صلّى اللّه عليه وسلّم- أن يقال ذلك له».
وقيل: كان المسلمون يقولون للنبي -صلى الله عليه وسلم-: راعنا، وكانت اليهود تتسابّ بينها بهذه الكلمة، وكانوا يسبون النبي -صلى الله عليه وسلم- في نفوسهم، فلما سمعوا هذه الكلمة اغتنموا أن يظهروا سبّه بلفظ يسمع ولا يلحقهم به في ظاهره شيء، فهي لغة عند العرب من المراعاة. فكانت اليهود تصرفها إلى الرعونة، يظهرون أنهم يريدون المراعاة ويبطنون أنهم يريدون الرعونة التي هي الجهل، فأظهر اللّه النبي -صلى الله عليه وسلم-, والمسلمين على ذلك, ونهى عن هذه الكلمة.
- أنها بمعنى فاعلنا، أي: أرعنا نرعك، من المراعاة والمكافأة أي: كافنا في المقال، كما يقول بعضهم لبعض، وفي هذا جفاء أن يخاطب به أحد نبيه، فأمروا أن يخاطبوا النبي -صلى الله عليه وسلم- بالتقدير, والتوقير، وقد حض الله تعالى على خفض الصوت عنده وتعزيره وتوقيره، ولا مدخل لليهود في هذه الآية على هذا التأويل، بل هو نهي عن كل مخاطبة فيها استواء مع النبي صلى الله عليه وسلم. ذكره الزجاج وابن عطية.
- أنها كلمة تجري على الهزء والسخرية، فنهي المسلمون أن يتلفظوا بها بحضرة النبي -صلى الله عليه وسلم- ,
- وقد جاء في هذه اللفظة قراءة للحسن وابن أبي ليلى وابن محيصن وأبو حيوة: (راعنًا) من الجهل فالمعنى فيه: لا تقولوا حمقاً من الرعونة وهو محمول على أن اليهود كانت تقوله فنهى الله تعالى المؤمنين عن القول المباح سد ذريعة لئلا يتطرق منه اليهود إلى المحظور، إذ المؤمنون إنما كانوا يقولون «راعنا» دون تنوين.
- وفي مصحف ابن مسعود «راعونا»، وهي شاذة، ووجهها أنهم كانوا يخاطبون النبي -صلى الله عليه وسلم- كما تخاطب الجماعة، يظهرون بذلك إكباره وهم يريدون في الباطن فاعولا من الرعونة.
قال ابن جريرٍ: والصّواب من القول في ذلك عندنا: أنّ اللّه نهى المؤمنين أن يقولوا لنبيّه صلّى اللّه عليه وسلّم: راعنا؛ لأنّها كلمةٌ كرهها اللّه تعالى أن يقولها لنبيّه صلّى اللّه عليه وسلّم، نظير الذي ذكر عن النّبيّ
{ وَقُولُوا انْظُرْنَا وَاسْمَعُوا}
{انظرنا} معناها: انتظرنا وأمهلنا، ويحتمل أن يكون المعنى تفقدنا من النظر، وهذه لفظة مخلصة لتعظيم النبي -صلى الله عليه وسلم- على المعنيين.
قال ابن عطية:
"والظاهر عندي استدعاء نظر العين المقترن بتدبر الحال، وهذا هو معنى راعنا، فبدلت للمؤمنين اللفظة ليزول تعلق اليهود"
وقرأ الأعمش وغيره «أنظرنا» بقطع الألف وكسر الظاء، بمعنى: أخرنا وأمهلنا حتى نفهم عنك ونتلقى منك.
{ واسمعوا وَلِلْكَافِرِينَ عَذَابٌ أَلِيمٌ }
معناه: استمعوا.
ولما نهى الله تعالى في هذه الآية وأمر، حض بعد على السمع الذي في ضمنه الطاعة، واعلم أن لمن خالف أمره فكفر عذابا أليما، وهو المؤلم، ».
مستفاد باختصار وتصرف من التفاسير الثلاثة المقررة
والحمد لله رب العاملين
وأعتذر عن التأخير.