نصائح وتوجيهات لطلاب العلم
وجهها لهم الشيخ محمد بن صالح العثيمين رحمه الله
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين، الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمد عبده ورسوله، أرسله الله تعالى بالهدى ودين الحق فبلغ الرسالة، وأدى الأمانة ونصح الأمة وجاهد في الله حق جهاده فصلوات الله وسلامه عليه وعلى آله وأصحابه ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.
أما بعد: فإن الله سبحانه وتعالى بعث محمدا -صلى الله عليه وعلى آله وسلم- بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله وكان- صلى الله عليه وسلم- خاتم النبيين فلا نبي بعده، ولكن العلماء الذين ورثوا سنته كانوا خلفائه في أمته، فإنه -صلى الله عليه وسلم- كسائر إخوانه المرسلين والأنبياء لم يورثوا درهما ولا دينارا وإنما ورثوا العلم، فمن أخذه أخذ بحظ وافر من إرث النبيين.
ولا ريب أن من شروط صحة العبادة وقبولها، بل الشرط الأساس لصحة العبادة وقبولها أن تكون مبنية على الإخلاص لله، وعلى اتباع رسول الله -صلى الله عليه وعلى آله وسلم-.
فبالإخلاص يندفع الشرك، وبالمتابعة تندفع البدع، ولا ريب أن المتابعة لا يمكن أن تكون إلا بعلم شريعة النبي -صلى الله عليه وسلم- حتى يتمكن الإنسان من تطبيقها والعمل بها؛ ولهذا كان النبي -صلى الله عليه وسلم- في الحج يأمر الناس أن يأخذوا عنه مناسكهم، وفي الصلاة قال لمالك بن الحويرث -رضي الله عنه- والوفد الذين معه قال: صلوا كما رأيتموني أصلي
فلا يمكن اتباع شريعته إلا بالعلم بها؛ ولهذا كان العلم أساسا في بقاء الشريعة وفي العمل بها، فكان هو الوسيلة الوحيدة لإبلاغ الرسالة إلى الأمة.
فضل العلم وطلبه
ولقد وردت النصوص القرآنية والأحاديث النبوية في فضل العلم، والحث عليه حتى إن الله -سبحانه وتعالى- جعله بديلا وعديلا للجهاد في سبيل الله، فقال تعالى: وَمَا كَانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنْفِرُوا كَافَّةً فَلَوْلَا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طَائِفَةٌ يعني: وقعدت طائفة "ليتفقهوا" أي: القاعدون فِي الدِّينِ وَلِيُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ .
ولهذا اختلف العلماء -رحمهم الله- أيهم أفضل: طلب العلم أو الجهاد في سبيل الله؟
والتحقيق في هذه المسألة أن الحكم يختلف باختلاف الأحوال والأشخاص، فقد نقول لشخصٍ ما طلب العلم في حقك أفضل، ولشخص آخر الجهاد في سبيل الله في حقك أفضل.
فإذا رأينا رجلا قوي الحفظ قوي الفهم سريع البديهة نشيطا في الطلب وهو في الجهاد دون ذلك، فإننا نقول له: طلب العلم في حقك أفضل، وإذا رأينا شخصا بالعكس.
أقول إن العلماء -رحمهم الله- اختلفوا أيهما أفضل طلب العلم أو الجهاد في سبيل الله، والتحقيق في هذه المسألة التفصيل، فقد نقول لشخص ما: إن طلب العلم في حقك أفضل، وقد نقول لآخر: إن الجهاد في سبيل الله في حقك أفضل، وذكرنا من يكون طلب العلم في حقه أفضل.
وأما من كان الجهاد في حقه أفضل فهو الرجل البليد في الفهم السيئ في الحفظ القوي في الجسم المقدام في الحرب، فهذا نقول له: إن الجهاد في سبيل الله في حقك أفضل.
وكذلك -أيضا- يختلف هذا باختلاف الأحوال، فقد يكون المسلمون في حاجة إلى الدفاع عن بلدهم وأنفسهم ودينهم، فيكون الجهاد في حقهم أفضل، وقد يكون الناس في رخاء وأمن وطمأنينة وما أشبه ذلك، فيكون طلب العلم في حقهم أفضل.
نصائح لطالب العلم
وقد قال الإمام أحمد -رحمه الله-: العلم لا يعدله شيء لمن صحّت نيته. وفسّر صحة النية بأن ينوي رفع الجهل عن نفسه وعن غيره، وإنني أنصح إخواني طلاب العلم أنصحهم بالنصائح التالية:
أولا- أن يقصدوا بطلب العلم امتثال أمر الله -عز وجل- فإن الله تعالى أمر بالعلم، فقال: فَاعْلَمْ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ ورغب في العلم فقال: يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ وقال: هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ .
وكذلك النبي -صلى الله عليه وسلم- حث على العلم في أحاديث متعددة منها قوله -صلى الله عليه وعلى آله وسلم-: من يرد الله به خيرا يفقهه في الدين وليس المراد بالفقه في الدين الفقه المصطلح عليه بين العلماء وهو معرفة الأحكام الشرعية العملية.
وإنما المراد بالفقه في الدين معرفة دين الله الذي بعث الله به محمدا -صلى الله عليه وعلى آله وسلم- وأشرفه وأعظمه وأوكده، هو الفقه في توحيد الله -عز وجل- في ربوبيته وألوهيته وأسمائه وصفاته؛ ولهذا كان بعض أهل العلم يسمي علم التوحيد الفقه الأكبر، وهذا اسم -بلا شك- جدير أن يسمى به علم التوحيد.
ثانيا- أن ينوي بطلب العلم رفع الجهل عن نفسه وعن غيره، وذلك أن الإنسان خُلق لا يعلم شيئا كما قال الله تعالى: وَاللَّهُ أَخْرَجَكُمْ مِنْ بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ لَا تَعْلَمُونَ شَيْئًا وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَالْأَفْئِدَةَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ .
فالإنسان محتاج إلى العلم، فلينوي بطلب العلم رفع الجهل عن نفسه حتى يعبد الله على بصيرة. ورفع الجهل عن عباد الله حتى يكون من الدعاة إلى الله تعالى على بصيرة، فيدخل في قول الله تعالى: قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي .
الأمر الثالث- أن ينوي طالب العلم بطلب العلم حفظ الشريعة، فإن الشريعة تحفظ بالرجال كما تحفظ كذلك بالكتب، فلا بد من أن يكون للشريعة من يحفظها من بني آدم. ولا يمكن أن تقوم الشريعة إلا بالرجال الذين يحفظونها؛ ولهذا كان من المعلوم أن العلم محفوظ في الصدور مكتوب في السطور.
رابعا- أن ينوي بذلك الدفاع عن الشريعة، وحماية الشريعة من عبث الأهواء بها، فإن الشريعة محتاجة إلى العلماء الذين يدافعون عنها ويصدون عنها، ويبطلون عنها تحريف المعطِّلين، ومجازفة الغالين حتى تكون الشريعة بيضاء نقية لا يزيغ عنها إلا هالك.
خامسا- أن يكون الإنسان -أي: طالب العلم- متأدبا بآداب العلم، عبادةً وخلقا وسلوكا، بحيث يعبد الله -عز وجل- ويكون من أشد الناس عبادة لله -عز وجل- ومن المعلوم أن العبادات تتفاضل، وأن أفضلها طلب العلم في غير ما هو واجب شرعا، وأن يكون أثر العلم ظاهرا عليه في أخلاقه ومعاملته للناس.
فإن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: أكمل المؤمنين إيمانا أحسنهم خُلقا وكان -صلى الله عليه وعلى آله وسلم- أحسن الناس خلقا.
والإنسان يدرك بخُلقه الحسن ما لا يدركه الغني الباذل للأموال من كل وجه، إنكم لن تسعوا الناس بأموالكم، ولكن يسعهم منكم بسط الوجه وحسن الخلق ولا ينبغي إطلاقا للإنسان الذي مَنَّ الله عليه بالعلم أن يترفع على الناس بعلمه ويقول: أنا أفضل منهم، وأنا قد رُفعت درجات.
فإن الإنسان إذا أُعجب بعمله كان ذلك آية الخسران وآية الخيبة، فليحذر الإنسان -أعني: طالب العلم بالذات- ليحذر من العجب؛ فإن العجب سبب للخذلان والحرمان.
وليحذر من التكبر فإنه ليس من العقل. إذا مَنَّ الله عليك بعلم وعرفت ما في حسن الخلق من الفضل والأجر أن تذهب وتتكبر على الناس بما مَنَّ الله به عليك؛ ولهذا تجد الناس يأخذون من طالب العلم حسن الخلق أكثر مما يأخذون ممن هو فوقه في العلم، ولكنه دونه في حسن الخلق؛ وذلك لأن الإنسان ينبغي أن يكون أليفا ومألوفا، مخالطا للناس على الوجه الذي فيه الخير والصلاح.
وكذلك أيضا ينبغي لطالب العلم أن يكون حكيما في أسلوبه ودعوته بحيث ينزل كل إنسان منزلته في معاملته، اقتداء برسول الله -صلى الله عليه وعلى آله وسلم- ولا شك أن الجاهل لا يعامل معاملة العالم، ولا شك أن المستكبر لا يعامل معاملة من يطلب الحق ويريد الحق.
فعلى الإنسان العاقل الطالب للعلم أن ينزل كل إنسان منزلته، حتى يملك بذلك قلوب الناس وينفع الله بعلمه.
ثم ليحذر طالب العلم من الحسد والغل والحقد على المسلمين، وليعلم أن الحسد لا يمنع فضل الله تعالى على المحسود، ولا يزيد به فضل الله على الحاسد، بل إن الحسد من أسباب خذلان المرء؛ لأنه يرى كل نعمة عليه دون النعمة التي أنعم الله بها على غيره، فيحترق قلبه، فيرى أنه مظلوم، وأنه مهضوم.
لكن إذا كان يحب لإخوانه ما يحب لنفسه مَنَّ الله عليه بالهداية والفضل وسعة الصدر، وانشراح واطمئنان القلب، وبهذا يجد الإنسان الذي ليس بحسود ييسر الله عليه الأمر ولا يسلط عليه الأعداء.