الفصل الخامس آداب الطالب في حياته العلمية:
الأمر الرابع والعشرون- كِبَرُ الْهِمَّةِ في العِلْمِ :
من سجايا الإسلامِ التَّحَلِّي بكِبَرِ الْهِمَّةِ ؛ مرْكَزِ السالِبِ والموجِبِ في شَخْصِك ، الرقيبِ على جوارِحِك ، كِبَرُ الْهِمَّةِ يَجْلُبُ لك بإذْنِ اللهِ خَيْرًا غيرَ مَجذوذٍ ، لتَرْقَى إلى دَرجاتِ الكَمالِ ، فيُجْرِيَ في عُروقِك دَمَ الشَّهَامةِ ، والرَّكْضَ في مَيدانِ العِلْمِ والعَمَلِ ، فلا يَراكَ الناسُ وَاقِفًا إلا على أبوابِ الفضائلِ ولا باسطًا يَدَيْكَ إلا لِمُهِمَّاتِ الأمورِ .
الشيخ :
وهذا من أهم ما يكون، أن يكون الإنسان في طلب العلم له هدف ليس مراده مجرد قتل الوقت بهذا الطلب بل يكون له همة , ومن أهم همم طالب العلم أن يريد القيادة والإمامة للمسلمين في علمه , ويرى أنه واسطة بين الله عز وجل وبين العباد في تبليغ الشرع , هذه مرتبة ثانية , وإذا شعر بهذا الشعور فسوف يحرص غاية الحرص على اتباع ما جاء في الكتاب والسنة معرضاً عن آراء الناس , إلا أنه يستأنس بها ويستعين بها على معرفة الحق , لأن ما تكلم به العلماء رحمهم الله من العلم لا شك أنه هو الذي يفتح الأبواب لنا , وإلا لما استطعنا أن نصل إلى درجة أن نستنبط الأحكام من النصوص أو نعرف الراجح من المرجوح وما أشبه ذلك .
والتَّحَلِّي بها يَسْلُبُ منك سَفاسِفَ الآمالِ والأعمالِ ، ويَجْتَثُّ منك شَجرةَ الذُّلِّ والهوانِ والتمَلُّقِ والْمُداهَنَةِ فَكَبِيرُ الْهِمَّةِ ثابتُ الْجَأْشِ ، لا تُرْهِبُهُ المواقِفُ ، وفاقِدُها جَبانٌ رِعديدٌ ، تُغْلِقُ فَمَه الفَهَاهَةُ .
التحلي بعلو الهمة يسلب عنك سفاسف الآمال والأعمال .
الآمال : هي أن يتمنى الإنسان الشيء دون السعي في أسبابه , فإن المؤمن كيس فطن لا تلهه الآمال , بل ينظر الأعمال ويرتقب النتائج .
وأما من تلهيه الآمال ويقول : إن شاء الله أقرأ هذا , أراجع هذا , الآن أستريح وبعد ذلك أراجع . اجعل نفسك قوي العزيمة عالي الهمة . وقد مر علينا أحاديث تدل على أن العناية بالمقصود قبل كل شيء. مثل عتبان بن مالك جاء النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم إلى بيته ليصلي في مكان يتخذه عتبان مصلى فواعده النبي عليه الصلاة والسلام فأعد لرسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم طعاما وأخبر الجيران بذلك فخرج النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم فلما وصل البيت أخبره عتبان بما صنعه ولكن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم قال أرني المكان الذي تريد أن أصلي فيه فأراه المكان وصلى قبل أن يأكل الطعام وقبل أن يجلس إلى القوم لأنه جاء لغرض فلا تشتغل عن الغرض الذي تريده بأشياء لا تريدها من الأصل لأن هذايضيع عليك الوقت وهو من علو الهمة.
ولا تَغْلَطْ فتَخْلِطْ بينَ كِبَرِ الْهِمَّةِ والكِبْرِ ؛ فإنَّ بينَهما من الفَرْقِ كما بينَ السماءِ ذاتِ الرَّجْعِ والأرْضِ ذاتِ الصَّدْعِ .
كِبَرُ الْهِمَّةِ حِلْيَةُ وَرَثَةِ الأنبياءِ ، والكِبْرُ داءُ الْمَرْضَى بعِلَّةِ الْجَبابِرَةِ البُؤَسَاءِ .
(كبر الهمة) إن الإنسان يحفظ وقته ويعرف كيف يصرفه ولا يضيع الوقت بغير فائدة , وإذا جاءه من يرى أن مجالسته فيها إهمال وإلهاء عرف كيف يتصرف .
( وأما كبر النفس ) فهو الذي يحتقر غيره ولا يرى الناس إلا ضفادع ولا يهتم وربما يصعر وجهه وهو يخاطبهم فكما قال الشيخ بكر: بينهما كما بين السماء ذات الرجع والأرض ذات الصدع .
فيا طالبَ العلْمِ ! ارْسُمْ لنفسِكَ كِبَرَ الْهِمَّةِ ، ولا تَنْفَلِتْ منه ، وقد أَوْمَأَ الشرْعُ إليها في فِقْهِيَّاتٍ تُلابِسُ حياتَك ؛ لتكونَ دائمًا على يَقَظَةٍ من اغتنامِها ، ومنها إباحةُ التيَمُّمِ للمُكَلَّفِ عندَ فَقْدِ الماءِ وعدَمُ إلزامِه بقَبولِ هِبَةِ ثَمَنِ الماءِ للوُضوءِ ؛ لما في ذلك من الْمِنَّةِ التي تَنالُ من الْهِمَّةِ مَنَالًا وعلى هذا فقِسْ ، واللهُ أَعْلَمُ .
يعني من علو الهمة
أن لا تكون متشوفاً لما في أيدي الناس , لأنك إذا تشوفت ومَنَّ الناسُ عليك ملكوك؛ لأن المنة ملك للرقبة في الواقع.
لو أعطاك الإنسان قرشاً لوجد أن يده أعلى من يدك كما جاء في الحديث :( اليد العليا خير من اليد السفلى)
إذا كان الإنسان عادم الماء لو وهب له الماء لم يلزمه قبوله بل يعدل إلى التيمم خوفاً من المنة مع أن الوضوء بالماء فرض للقادر عليه , ولهذا فرق الفقهاء رحمهم الله بين أن تجد من يبيعه ومن يهديه .
فقالوا : من يبيعه اشتر منه وجوباً لأنه لا منة له , حيث أنك تعطيه العوض . ومن أهدى عليك لا يلزمك قبوله . من أجل أن منته تقطع رقبتك , ولكن إذا كان الذي أهدى الماء لا يمن عليك به , بل يرى أنك أنت المان عليه بقبوله , أو من جرت العادة بأنه لا منة بينهم مثل الأب مع ابنه , والأخ المشفق مع أخيه وما أشبه ذلك .فهنا ترتفع العلة , وإذا ارتفعت العلة ارتفع الحكم .
بعض الناس يكون عنده أسلوب في السؤال، أي في سؤال المال , إذا رأى مع إنسان شيئا يعجبه أخذه بيده وقام يقلبه، حتى يعطيه إياه ,فالمهم أن بعض الناس يستشرف أو يسأل بطريق غير مباشر، وكل هذا مما يحط قدر طالب العلم وقدر غيره أيضاً.