فصلٌ
قال أبو العباس أحمد بن عبد الحليم ابن تيمية الحراني (ت:728هـ) : (فصلٌ: في العبادات والفرق بين شرعيّها وبدعيّها.
فإنّ هذا بابٌ كثر فيه الاضطراب كما كثر في باب الحلال والحرام، فإنّ أقوامًا استحلّوا بعض ما حرّمه اللّه وأقوامًا حرّموا بعض ما أحلّ اللّه تعالى وكذلك أقوامًا أحدثوا عباداتٍ لم يشرّعها اللّه بل نهى عنها.
وأصل الدّين: أنّ الحلال ما أحلّه اللّه ورسوله والحرام ما حرّمه اللّه ورسوله والدّين ما شرعه اللّه ورسوله؛ ليس لأحد أن يخرج عن الصّراط المستقيم الّذي بعث اللّه به رسوله. قال اللّه تعالى: {وأنّ هذا صراطي مستقيمًا فاتّبعوه ولا تتّبعوا السّبل فتفرّق بكم عن سبيله ذلكم وصّاكم به لعلّكم تتّقون}، وفي حديث عبد اللّه بن مسعودٍ رضي اللّه عنه عن النّبيّ صلّى اللّه عليه وسلّم أنّه خطّ خطًّا وخطّ خطوطًا عن يمينه وشماله ثمّ قال: "هذه سبيل اللّه وهذه سبلٌ، على كلّ سبيلٍ منها شيطانٌ يدعو إليه، ثمّ قرأ: {وأنّ هذا صراطي مستقيمًا فاتّبعوه ولا تتّبعوا السّبل فتفرّق بكم عن سبيله}".
وقد ذكر اللّه تعالى في سورة الأنعام والأعراف وغيرهما ما ذمّ به المشركين حيث حرّموا ما لم يحرّمه اللّه تعالى كالبحيرة والسّائبة، واستحلّوا ما حرّمه اللّه كقتل أولادهم، وشرعوا دينًا لم يأذن به اللّه، فقال تعالى: {أم لهم شركاء شرعوا لهم من الدّين ما لم يأذن به اللّه}، ومنه أشياء هي محرّمةٌ جعلوها عباداتٍ كالشّرك والفواحش مثل الطّواف بالبيت عراةً وغير ذلك. والكلام في الحلال والحرام له مواضع أخر، والمقصود هنا العبادات، فنقول:
العبادات الّتي يتقرّب بها إلى اللّه تعالى منها ما كان محبوبًا للّه ورسوله مرضيًّا للّه ورسوله، إمّا واجبٌ وإمّا مستحبٌّ كما في الصّحيح عن النّبيّ صلّى اللّه عليه وسلّم أنّه قال فيما يروي عن ربّه تبارك وتعالى: (ما تقرّب إليّ عبدي بمثل أداء ما افترضت عليه، ولا يزال عبدي يتقرّب إليّ بالنّوافل حتّى أحبّه، فإذا أحببته كنت سمعه الّذي يسمع به وبصره الّذي يبصر به ويده الّتي يبطش بها ورجله الّتي يمشي بها، فبي يسمع وبي يبصر وبي يبطش وبي يمشي، ولئن سألني لأعطينّه ولئن استعاذني لأعيذنّه، وما تردّدت عن شيءٍ أنا فاعله تردّدي عن قبض نفس عبدي المؤمن، يكره الموت وأكره مساءته ولا بدّ له منه).
ومعلومٌ أنّ الصّلاة منها فرضٌ وهي الصّلوات الخمس ومنها نافلةٌ كقيام اللّيل، وكذلك الصّيام فيه فرضٌ وهو صوم شهر رمضان ومنه نافلةٌ كصيام ثلاثة أيّامٍ من كلّ شهرٍ، وكذلك السّفر إلى المسجد الحرام فرضٌ وإلى المسجدين الآخرين -مسجد النّبيّ صلّى اللّه عليه وسلّم وبيت المقدس - مستحبٌّ، وكذلك الصّدقة منها ما هو فرضٌ ومنها ما هو مستحبٌّ وهو العفو كما قال تعالى: {ويسألونك ماذا ينفقون قل العفو}، وفي الحديث الصّحيح عن النّبيّ صلّى اللّه عليه وسلّم أنّه قال: (يا ابن آدم إنّك إن تنفق الفضل خيرٌ لك وإن تمسكه شرٌّ لك ولا تلام على كفافٍ، واليد العليا خيرٌ من اليد السّفلى وابدأ بمن تعول).
والفرق بين الواجب والمستحبّ له موضعٌ آخر غير هذا، والمقصود هنا الفرق بين ما هو مشروعٌ سواءٌ كان واجبًا أو مستحبًّا وما ليس بمشروع.
فالمشروع: هو الّذي يتقرّب به إلى اللّه تعالى وهو سبيل اللّه وهو البرّ والطّاعة والحسنات والخير والمعروف وهو طريق السّالكين ومنهاج القاصدين والعابدين وهو الّذي يسلكه كلّ من أراد اللّه هدايته وسلك طريق الزّهد والعبادة وما يسمّى بالفقر والتّصوّف ونحو ذلك.
ولا ريب أنّ هذا يدخل فيه الصّلوات المشروعة واجبها ومستحبّها ويدخل في ذلك قيام اللّيل المشروع وقراءة القرآن على الوجه المشروع والأذكار والدّعوات الشّرعيّة، وما كان من ذلك موقّتًا بوقت كطرفي النّهار وما كان متعلّقًا بسبب كتحيّة المسجد وسجود التّلاوة وصلاة الكسوف وصلاة الاستخارة وما ورد من الأذكار والأدعية الشّرعيّة في ذلك وهذا يدخل فيه أمورٌ كثيرةٌ وفي ذلك من الصّفات ما يطول وصفه وكذلك يدخل فيه الصّيام الشّرعيّ كصيام نصف الدّهر وثلثه أو ثلثيه أو عشره وهو صيام ثلاثة أيّامٍ من كلّ شهرٍ ويدخل فيه السّفر الشّرعيّ كالسّفر إلى مكّة وإلى المسجدين الآخرين ويدخل فيه الجهاد على اختلاف أنواعه وأكثر الأحاديث النّبويّة في الصّلاة والجهاد ويدخل فيه قراءة القرآن على الوجه المشروع.
و العبادات الدّينيّة أصولها الصّلاة والصّيام والقراءة الّتي جاء ذكرها في الصّحيحين في حديث عبد اللّه بن عمرو بن العاص لمّا أتاه النّبيّ صلّى اللّه عليه وسلّم وقال: (ألم أحدَّث أنّك قلت لأصومنّ النّهار ولأقومنّ اللّيل ولأقرأنّ القرآن في ثلاثٍ؟ قال: بلى، قال: فلا تفعل فإنّك إذا فعلت ذلك هجمت له العين ونفهت له النّفس، ثمّ أمره بصيام ثلاثة أيّامٍ من كلّ شهرٍ، فقال إنّي أطيق أكثر من ذلك، فانتهى به إلى صوم يومٍ وفطر يومٍ، فقال: إنّي أطيق أكثر من ذلك فقال: لا أفضل من ذلك وقال: أفضل الصّيام صيام داود عليه السّلام كان يصوم يومًا ويفطر يومًا ولا يفرّ إذا لاقى، وأفضل القيام قيام داود كان ينام نصف اللّيل ويقوم ثلثه وينام سدسه، وأمره أن يقرأ القرآن في سبعٍ).
ولمّا كانت هذه العبادات هي المعروفة قال في حديث الخوارج الّذي في الصّحيحين: (يحقر أحدكم صلاته مع صلاتهم وصيامه مع صيامهم وقراءته مع قراءتهم يقرءون القرآن لا يجاوز حناجرهم يمرقون من الدّين كما يمرق السّهم من الرّميّة) فذكر اجتهادهم بالصّلاة والصّيام والقراءة وأنّهم يغلون في ذلك حتّى تحقر الصّحابة عبادتهم في جنب عبادة هؤلاء.
وهؤلاء غلوا في العبادات بلا فقهٍ فآل الأمر بهم إلى البدعة، فقال: (يمرقون من الإسلام كما يمرق السّهم من الرّميّة، أينما وجدتموهم فاقتلوهم فإنّ في قتلهم أجرًا عند اللّه لمن قتلهم يوم القيامة)، فإنّهم قد استحلّوا دماء المسلمين وكفّروا من خالفهم. وجاءت فيهم الأحاديث الصّحيحة، قال الإمام أحمد بن حنبلٍ -رحمه اللّه تعالى-: "صحّ فيهم الحديث من عشرة أوجهٍ"، وقد أخرجها مسلمٌ في صحيحه وأخرج البخاريّ قطعةً منها.
ثمّ هذه الأجناس الثّلاثة مشروعةٌ؛ ولكن يبقى الكلام في القدر المشروع منها، وله صُنّف كتاب "الاقتصاد في العبادة"، وقال أبي بن كعبٍ وغيره: "اقتصادٌ في سنّةٍ خيرٌ من اجتهادٍ في بدعةٍ".
والكلام في سرد الصّوم وصيام الدّهر سوى يومي العيدين وأيّام التّشريق وقيام جميع اللّيل هل هو مستحبٌّ كما ذهب إلى ذلك طائفةٌ من الفقهاء والصّوفيّة والعبّاد أو هو مكروهٌ كما دلّت عليه السّنّة، وإن كان جائزًا لكنّ صوم يومٍ وفطر يومٍ أفضل وقيام ثلث اللّيل أفضل ولبسطه موضعٌ آخر، إذ المقصود هنا الكلام في أجناس عباداتٍ غير مشروعةٍ حدثت في المتأخّرين كالخلوات فإنّها تشتبه بالاعتكاف الشّرعيّ، والاعتكاف الشّرعيّ في المساجد كما كان النّبيّ صلّى اللّه عليه وسلّم يفعله هو وأصحابه من العبادات الشّرعيّة، وأمّا الخلوات فبعضهم يحتجّ فيها بتحنّثه بغار حراءٍ قبل الوحي وهذا خطأٌ؛ فإنّ ما فعله صلّى اللّه عليه وسلّم قبل النّبوّة إن كان قد شرعه بعد النّبوّة فنحن مأمورون باتّباعه فيه وإلّا فلا. وهو من حين نبّأه اللّه تعالى لم يصعد بعد ذلك إلى غار حراءٍ ولا خلفاؤه الرّاشدون. وقد أقام صلوات اللّه عليه بمكّة قبل الهجرة بضع عشرة سنةً ودخل مكّة في عمرة القضاء وعام الفتح أقام بها قريبًا من عشرين ليلةً وأتاها في حجّة الوداع؛ وأقام بها أربع ليالٍ وغار حراءٍ قريبٌ منه ولم يقصده. وذلك أنّ هذا كانوا يأتونه في الجاهليّة ويقال إنّ عبد المطّلب هو من سنّ لهم إتيانه؛ لأنّه لم تكن لهم هذه العبادات الشّرعيّة الّتي جاء بها بعد النّبوّة صلوات اللّه عليه كالصّلاة والاعتكاف في المساجد فهذه تغني عن إتيان حراءٍ بخلاف ما كانوا عليه قبل نزول الوحي فإنّه لم يكن يقرأ بل قال له الملك عليه السّلام: اقرأ، قال -صلوات اللّه عليه وسلامه-: (فقلت: لست بقارئ)، ولا كانوا يعرفون هذه الصّلاة؛ ولهذا لمّا صلّاها النّبيّ -صلّى اللّه عليه وسلّم- نهاه عنها من نهاه من المشركين كأبي جهلٍ، قال اللّه تعالى: {أرأيت الّذي ينهى * عبدًا إذا صلّى * أرأيت إن كان على الهدى * أو أمر بالتّقوى * أرأيت إن كذّب وتولّى * ألم يعلم بأنّ اللّه يرى *كلّا لئن لم ينته لنسفعن بالنّاصية * ناصيةٍ كاذبةٍ خاطئةٍ * فليدع ناديه * سندع الزّبانية * كلّا لا تطعه واسجد واقترب}.
وطائفةٌ يجعلون الخلوة أربعين يومًا ويعظّمون أمر الأربعينية ويحتجّون فيها بأنّ اللّه تعالى واعد موسى -عليه السّلام- ثلاثين ليلةً وأتمّها بعشر وقد روي أنّ موسى عليه السّلام صامها وصام المسيح أيضًا أربعين للّه تعالى وخوطب بعدها فيقولون يحصل بعدها الخطاب والتّنزّل كما يقولون في غار حراءٍ حصل بعده نزول الوحي.
وهذا أيضًا غلطٌ فإنّ هذه ليست من شريعة محمّدٍ صلّى اللّه عليه وسلّم بل شرعت لموسى عليه السّلام كما شرع له السّبت والمسلمون لا يسبتون، وكما حرّم في شرعه أشياء لم تحرّم في شرع محمّدٍ -صلّى اللّه عليه وسلّم- فهذا تَمسُّكٌ بشرع منسوخٍ وذاك تمسّكٌ بما كان قبل النّبوّة.
وقد جرّب أنّ من سلك هذه العبادات البدعيّة أتته الشّياطين وحصل له تنزّلٌ شيطانيٌّ وخطابٌ شيطانيٌّ وبعضهم يطير به شيطانه، وأعرِف من هؤلاء عددًا طلبوا أن يحصل لهم من جنس ما حصل للأنبياء من التّنزّل فنزلت عليهم الشّياطين؛ لأنّهم خرجوا عن شريعة النّبيّ صلّى اللّه عليه وسلّم الّتي أمروا بها، قال تعالى: {ثمّ جعلناك على شريعةٍ من الأمر فاتّبعها ولا تتّبع أهواء الّذين لا يعلمون * إنّهم لن يغنوا عنك من اللّه شيئًا وإنّ الظّالمين بعضهم أولياء بعضٍ واللّه وليّ المتّقين}، وكثيرٌ منهم لا يحدّ للخلوة مكانًا ولا زمانًا بل يأمر الإنسان أن يخلو في الجملة.
ثمّ صار أصحاب الخلوات فيهم من يتمسّك بجنس العبادات الشّرعيّة الصّلاة والصّيام والقراءة والذّكر، وأكثرهم يخرجون إلى أجناسٍ غير مشروعةٍ؛ فمن ذلك طريقة أبي حامدٍ ومن تبعه، وهؤلاء يأمرون صاحب الخلوة أن لا يزيد على الفرض لا قراءةً ولا نظرًا في حديثٍ نبويٍّ ولا غير ذلك بل قد يأمرونه بالذّكر ثمّ قد يقولون ما يقوله أبو حامدٍ: ذكر العامّة: " لا إله إلّا اللّه " وذكر الخاصّة: " اللّه اللّه " وذكر خاصّة الخاصّة: " هو هو ".
والذّكر بالاسم المفرد مظهرًا ومضمرًا بدعةٌ في الشّرع وخطأٌ في القول واللّغة فإنّ الاسم المجّرّد ليس هو كلامًا لا إيمانًا ولا كفرًا.
وقد ثبت في الصّحيح عن النّبيّ صلّى اللّه عليه وسلّم أنّه قال: (أفضل الكلام بعد القرآن أربعٌ وهنّ من القرآن: سبحان اللّه والحمد للّه ولا إله إلّا اللّه واللّه أكبر)، وفي حديثٍ آخر: (أفضل الذّكر لا إله إلّا اللّه) وقال: (أفضل ما قلت أنا والنّبيّون من قبلي: لا إله إلّا اللّه وحده لا شريك له له الملك وله الحمد وهو على كلّ شيءٍ قديرٌ)، والأحاديث في فضل هذه الكلمات كثيرةٌ صحيحةٌ.
وأمّا ذكر الاسم المفرد فبدعةٌ لم يشرّع، وليس هو بكلام يُعقل ولا فيه إيمانٌ؛ ولهذا صار بعض من يأمر به من المتأخّرين يبيّن أنّه ليس قصدنا ذكر اللّه تعالى ولكن جمع القلب على شيءٍ معيّنٍ حتّى تستعدّ النّفس لما يرد عليها، فكان يأمر مريده بأن يقول هذا الاسم مرّاتٍ فإذا اجتمع قلبه ألقى عليه حالًا شيطانيًّا فيلبسه الشّيطان ويخيّل إليه أنّه قد صار في الملأ الأعلى وأنّه أعطي ما لم يعطه محمّدٌ صلّى اللّه عليه وسلّم ليلة المعراج ولا موسى عليه السّلام يوم الطّور وهذا وأشباهه وقع لبعض من كان في زماننا.
وأبلغ من ذلك من يقول ليس مقصودنا إلّا جمع النّفس بأيّ شيءٍ كان، حتّى يقول لا فرق بين قولك: يا حيّ، وقولك: يا جحش. وهذا ممّا قاله لي شخصٌ منهم وأنكرت ذلك عليه، ومقصودهم بذلك أن تجتمع النّفس حتّى يتنزّل عليها الشّيطان، ومنهم من يقول: إذا كان قصدٌ وقاصدٌ ومقصودٌ فاجعل الجميع واحدًا فيدخله في أوّل الأمر في وحدة الوجود.
وأمّا أبو حامدٍ وأمثاله ممّن أمروا بهذه الطّريقة فلم يكونوا يظنّون أنّها تفضي إلى الكفر - لكن ينبغي أن يعرف أنّ البدع بريد الكفر - ولكن أمروا المريد أن يفرّغ قلبه من كلّ شيءٍ حتّى قد يأمروه أن يقعد في مكانٍ مظلمٍ ويغطّي رأسه ويقول: اللّه اللّه، وهم يعتقدون أنّه إذا فرّغ قلبه استعدّ بذلك فينزل على قلبه من المعرفة ما هو المطلوب، بل قد يقولون إنّه يحصل له من جنس ما يحصل للأنبياء.
ومنهم من يزعم أنّه حصل له أكثر ممّا حصل للأنبياء، وأبو حامدٍ يكثر من مدح هذه الطّريقة في " الإحياء " وغيره كما أنّه يبالغ في مدح الزّهد، وهذا من بقايا الفلسفة عليه، فإنّ المتفلسفة كابن سينا وأمثاله يزعمون أنّ كلّ ما يحصل في القلوب من العلم للأنبياء وغيرهم فإنّما هو من "العقل الفعّال"؛ ولهذا يقولون النّبوّة مكتسبةٌ، فإذا تفرّغ صفا قلبه - عندهم - وفاض على قلبه من جنس ما فاض على الأنبياء، وعندهم أنّ موسى بن عمران -صلّى اللّه عليه وسلّم- كُلّم من سماء عقله؛ لم يسمع الكلام من خارجٍ فلهذا يقولون إنّه يحصل لهم مثل ما حصل لموسى وأعظم ممّا حصل لموسى.
وأبو حامدٍ يقول إنّه سمع الخطاب كما سمعه موسى -عليه السّلام- وإن لم يُقصد هو بالخطاب، وهذا كلّه لنقص إيمانهم بالرّسل وأنّهم آمنوا ببعض ما جاءت به الرّسل وكفروا ببعض، وهذا الّذي قالوه باطلٌ من وجوهٍ:
أحدها: أنّ هذا الّذي يسمّونه " العقل الفعّال " باطلٌ لا حقيقة له كما قد بسط هذا في موضعٍ آخر.
الثّاني: أنّ ما يجعله اللّه في القلوب يكون تارةً بواسطة الملائكة إن كان حقًّا وتارةً بواسطة الشّياطين إذا كان باطلًا، والملائكة والشّياطين أحياءٌ ناطقون كما قد دلّت على ذلك الدّلائل الكثيرة من جهة الأنبياء وكما يدّعي ذلك من باشره من أهل الحقائق، وهم يزعمون أنّ الملائكة والشّياطين صفاتٌ لنفس الإنسان فقط، وهذا ضلالٌ عظيمٌ.
الثّالث: أنّ الأنبياء جاءتهم الملائكة من ربّهم بالوحي، ومنهم من كلّمه اللّه تعالى فقرّبه وناداه كما كلّم موسى عليه السّلام، لم يكن ما حصل لهم مجرّد فيضٍ كما يزعمه هؤلاء.
الرّابع: أنّ الإنسان إذا فرّغ قلبه من كلّ خاطرٍ فمن أين يعلم أنّ ما يحصل فيه حقٌّ؟ هذا إمّا أن يُعلم بعقل أو سمعٍ، وكلاهما لم يدلّ على ذلك.
الخامس: أنّ الّذي قد عُلم بالسّمع والعقل أنّه إذا فرّغ قلبه من كلّ شيءٍ حلّت فيه الشّياطين ثمّ تنزّلت عليه الشّياطين كما كانت تتنزّل على الكهّان؛ فإنّ الشّيطان إنّما يمنعه من الدّخول إلى قلب ابن آدم ما فيه من ذكر اللّه الّذي أرسل به رسله فإذا خلا من ذلك تولّاه الشّيطان، قال اللّه تعالى: {ومن يعش عن ذكر الرّحمن نقيّض له شيطانًا فهو له قرينٌ * وإنّهم ليصدّونهم عن السّبيل ويحسبون أنّهم مهتدون}، وقال الشّيطان فيما أخبر اللّه عنه: {قال فبعزّتك لأغوينّهم أجمعين * إلّا عبادك منهم المخلصين}، وقال تعالى: {إنّ عبادي ليس لك عليهم سلطانٌ إلّا من اتّبعك من الغاوين}، والمخلصون هم الّذين يعبدونه وحده لا يشركون به شيئًا، وإنّما يُعبد اللّه بما أمر به على ألسنة رسله فمن لم يكن كذلك تولّته الشّياطين.
وهذا بابٌ دخل فيه أمرٌ عظيمٌ على كثيرٍ من السّالكين؛ واشتبهت عليهم الأحوال الرّحمانيّة بالأحوال الشّيطانيّة وحصل لهم من جنس ما يحصل للكهّان والسّحرة وظنّوا أنّ ذلك من كرامات أولياء اللّه المتّقين كما قد بسط الكلام على هذا في غير هذا الموضع.
السّادس: أنّ هذه الطّريقة لو كانت حقًّا فإنّما تكون في حقّ من لم يأته رسولٌ فأمّا من أتاه رسولٌ وأُمر بسلوك طريقٍ فمن خالفه ضلّ، وخاتم الرّسل -صلّى اللّه عليه وسلّم- قد أمر أمّته بعبادات شرعيّةٍ من صلاةٍ وذكرٍ ودعاءٍ وقراءةٍ لم يأمرهم قطّ بتفريغ القلب من كلّ خاطرٍ وانتظار ما ينزل، فهذه الطّريقة لو قدّر أنّها طريقٌ لبعض الأنبياء لكانت منسوخةً بشرع محمّدٍ -صلّى اللّه عليه وسلّم- فكيف وهي طريقةٌ جاهليّةٌ لا توجب الوصول إلى المطلوب إلّا بطريق الاتّفاق بأن يقذف اللّه تعالى في قلب العبد إلهامًا ينفعه؟ وهذا قد يحصل لكلّ أحدٍ ليس هو من لوازم هذه الطّريق، ولكنّ التّفريغ والتّخلية الّتي جاء بها الرّسول أن يفرّغ قلبه ممّا لا يحبّه اللّه ويملأه بما يحبّه اللّه، فيفرّغه من عبادة غير اللّه ويملؤه بعبادة اللّه، وكذلك يفرّغه عن محبّة غير اللّه ويملؤه بمحبّة اللّه، وكذلك يخرج عنه خوف غير اللّه ويدخل فيه خوف اللّه تعالى، وينفي عنه التّوكّل على غير اللّه ويثبّت فيه التّوكّل على اللّه، وهذا هو الإسلام المتضمّن للإيمان الّذي يمدّه القرآن ويقوّيه لا يناقضه وينافيه، كما قال جندبٌ وابن عمر: " تعلّمنا الإيمان ثمّ تعلّمنا القرآن فازددنا إيمانًا ".
وأمّا الاقتصار على الذّكر المجرّد الشّرعيّ مثل قول: "لا إله إلّا اللّه" فهذا قد ينتفع به الإنسان أحيانًا لكن ليس هذا الذّكر وحده هو الطّريق إلى اللّه تعالى دون ما عداه، بل أفضل العبادات البدنيّة الصّلاة ثمّ القراءة ثمّ الذّكر ثمّ الدّعاء، والمفضول في وقته الّذي شرع فيه أفضل من الفاضل كالتّسبيح في الرّكوع والسّجود فإنّه أفضل من القراءة، وكذلك الدّعاء في آخر الصّلاة أفضل من القراءة، ثمّ قد يفتح على الإنسان في العمل المفضول ما لا يفتح عليه في العمل الفاضل، وقد ييسّر عليه هذا دون هذا فيكون هذا أفضل في حقّه لعجزه عن الأفضل كالجائع إذا وجد الخبز المفضول متيسّرًا عليه والفاضل متعسّرًا عليه فإنّه ينتفع بهذا الخبز المفضول، وشبعه واغتذاؤه به حينئذٍ أولى به.
السّابع: أنّ أبا حامدٍ يشبّه ذلك بنقش أهل الصّين والرّوم على تزويق الحائط وأولئك صقلوا حائطهم حتّى تمثّل فيه ما صقله هؤلاء، وهذا قياسٌ فاسدٌ؛ لأنّ هذا الّذي فرّغ قلبه لم يكن هناك قلبٌ آخر يحصل له به التّحلية كما يحصل لهذا الحائط من هذا الحائط، بل هو يقول إنّ العلم منقوشٌ في النّفس الفلكيّة؛ ويسمّي ذلك " اللّوح المحفوظ " تبعًا لابن سينا، وقد بيّنّا في غير هذا الموضع أنّ "اللّوح المحفوظ" الّذي ذكره اللّه ورسوله ليس هو النّفس الفلكيّة وابن سينا ومن تبعه أخذوا أسماءً جاء بها الشّرع فوضعوا لها مسمّياتٍ مخالفةً لمسمّيات صاحب الشّرع ثمّ صاروا يتكلّمون بتلك الأسماء فيظنّ الجاهل أنّهم يقصدون بها ما قصده صاحب الشّرع فأخذوا مخّ الفلسفة وكَسَوه لحاء الشّريعة، وهذا كلفظ " الملك " و " الملكوت " و " الجبروت " و " اللّوح المحفوظ " و " الملك " و " الشّيطان " و " الحدوث " و " القدم " وغير ذلك، وقد ذكرنا من ذلك طرفًا في الرّدّ على " الاتّحاديّة " لمّا ذكرنا قول ابن سبعين وابن عربيٍّ وما يوجد في كلام أبي حامدٍ ونحوه من أصول هؤلاء الفلاسفة الملاحدة الّذين يحرّفون كلام اللّه ورسوله عن مواضعه كما فعلت طائفة القرامطة الباطنيّة.
والمقصود هنا أنّه لو كانت العلوم تنزل على القلوب من النّفس الفلكيّة كما يزعم هؤلاء فلا فرق في ذلك بين النّاظر والمستدلّ والمفرّغ قلبه فتمثيل ذلك بنقش أهل الصّين والرّوم تمثيلٌ باطلٌ.
ومن أهل هذه الخلوات من لهم أذكارٌ معيّنةٌ وقوتٌ معيّنٌ ولهم تنزلات معروفةٌ، وقد بسط الكلام عليها ابن عربيٍّ الطّائيّ ومن سلك سبيله كالتلمساني، وهي تنزلات شيطانيّةٌ قد عرفتها وخبرت ذلك من وجوهٍ متعدّدةٍ لكن ليس هذا موضع بسطها وإنّما المقصود التّنبيه على هذا الجنس.
وممّا يأمرون به الجوع والسّهر والصّمت مع الخلوة بلا حدودٍ شرعيّةٍ، بل سهرٌ مطلقٌ وجوعٌ مطلقٌ وصمتٌ مطلقٌ مع الخلوة كما ذكر ذلك ابن عربيٍّ وغيره، وهي تولّد لهم أحوالًا شيطانيّةً، وأبو طالبٍ قد ذكر بعض ذلك؛ لكن أبو طالبٍ أكثر اعتصامًا بالكتاب والسّنّة من هؤلاء ولكن يذكر أحاديث كثيرةً ضعيفةً بل موضوعةً من جنس أحاديث المسبّعات الّتي رواها عن الخضر عن النّبيّ صلّى اللّه عليه وسلّم وهو كذبٌ محضٌ وإن كان ليس فيه إلّا قراءة قرآنٍ ويذكر أحيانًا عباداتٍ بدعيّةً من جنس ما بالغ في مدح الجوع هو وأبو حامدٍ وغيرهما وذكروا أنّه يزن الخبز بخشب رطبٍ كلّما جفّ نقص الأكل، وذكروا صلوات الأيّام واللّيالي وكلّها كذبٌ موضوعةٌ؛ ولهذا قد يذكرون مع ذلك شيئًا من الخيالات الفاسدة وليس هذا موضع بسط ذلك.
وإنّما الغرض التّنبيه بهذا على جنسٍ من العبادات البدعيّة وهي "الخلوات البدعيّة" سواءٌ قدّرت بزمان أو لم تقدّر لما فيها من العبادات البدعيّة؛ إمّا الّتي جنسها مشروعٌ ولكن غير مقدّرةٍ، وإمّا ما كان جنسه غير مشروعٍ، فأمّا الخلوة والعزلة والانفراد المشروع فهو ما كان مأمورًا به أمر إيجابٍ أو استحبابٍ.
فالأوّل كاعتزال الأمور المحرّمة ومجانبتها، كما قال تعالى: {وإذا رأيت الّذين يخوضون في آياتنا فأعرض عنهم حتّى يخوضوا في حديثٍ غيره}، ومنه قوله تعالى عن الخليل: {فلمّا اعتزلهم وما يعبدون من دون اللّه وهبنا له إسحاق ويعقوب وكلًّا جعلنا نبيًّا}، وقوله عن أهل الكهف: {وإذ اعتزلتموهم وما يعبدون إلّا اللّه فأووا إلى الكهف}، فإنّ أولئك لم يكونوا في مكانٍ فيه جمعةٌ ولا جماعةٌ ولا من يأمر بشرع نبيٍّ فلهذا أووا إلى الكهف وقد قال موسى: {وإن لم تؤمنوا لي فاعتزلون}.
وأمّا اعتزال النّاس في فضول المباحات وما لا ينفع وذلك بالزّهد فيه فهو مستحبٌّ، وقد قال طاوس: نعم صومعة الرّجل بيته يكفّ فيه بصره وسمعه.
وإذا أراد الإنسان تحقيق علمٍ أو عملٍ فتخلّى في بعض الأماكن مع محافظته على الجمعة والجماعة فهذا حقٌّ كما في الصّحيحين أنّ النّبيّ صلّى اللّه عليه وسلّم سئل: أيّ النّاس أفضل؟ قال: (رجلٌ آخذٌ بعنان فرسه في سبيل اللّه كلّما سمع هيعةً طار إليها يتتبّع الموت مظانّه، ورجلٌ معتزلٌ في شعبٍ من الشّعاب يقيم الصّلاة ويؤتي الزّكاة ويدع النّاس إلّا من خيرٍ) وقوله: (يقيم الصّلاة ويؤتي الزّكاة) دليلٌ على أنّ له مالًا يزكّيه وهو ساكنٌ مع ناسٍ يؤذّن بينهم وتقام الصّلاة فيهم، فقد قال صلوات اللّه عليه: (ما من ثلاثةٍ في قريةٍ ولا بدوٍ لا تقام فيهم الصّلاة جماعةً إلّا وقد استحوذ عليهم الشّيطان) وقال: (عليكم بالجماعة فإنّما يأخذ الذّئب القاصية من الغنم). [رسالة العبادات الشرعية والفرق بينها وبين البدعية 6: 35]