تلخيص و بيان مقاصد المرتبع الأسنى في رياض الأسماء الحسنى
الحمد لله رب العالمين، و الصلاة و السلام على نبينا محمد، و على آله و صحبه أجمعين،
أما بعد: فهذا بيان مقاصد مقدمة المرتبع الأسنى مع تلخيصها. فأما مقاصد هذه المقدمة على سبيل الاختصار فهي كالتالي: ـ بيان أن العلم بالله تعالى و أسمائه و صفاته و أحكامه أشرف العلوم. ـ بيان سبب الانحراف في أبواب الدين. ـ ذكر بعض آثار الإيمان بأسماء الله تعالى. ـ ذكر سبب تأليف الكبات. و سأذكر هذه المقاصد في التلخيص إن شاء الله تعالى. تلخيص المقدمة: ابتدأ المؤلف بما سماه أهل العلم ببراعة الاستهلال، و هو أن يقدم قبل الشروع في المسائل بشيء يدل على موضوع الكتاب، ثم حمد الله تعالى، و وحده بألوهيته، و ذكرما يتضمن توحيد الألوهية من أن الله هو الذي يخلق من العدم، و أنه تعرف إلينا بأسمائه و صفاته، و أظهر آثاره في أوامره و مخلوقاته ليستدل بها الموفقون على وحدانيته و صدق رسله و آياته. المقصد الأول: العلم بالله تعالى أشرف العلوم: و ذلك للأمور التالية: ـ أن شرف العلم بشرف المعلوم، و الباري أشرف المعلومات، فالعلم بأسمائه أشرف العلوم. ـ أن ثمرته رؤية الملك العلام، و مراقبة خيرة الأنام في الآخرة. ـ أنه أساس الإيمان ـ أنه يحمل النفس إلى مكارم الأخلاق و محاسن الآداب، و يخلصها من شبه الأنعام، و أخلاق سفلة الأنام. المقصد الثاني: بيان سبب انحراف الناس في أبواب الدين: بين المؤلف أن سبب انحراف الناس في أبواب الدين هو الجهل بالله تعالى و أسمائه و صفاته و أحكامه. فمن أشرك مع الله غيره "ما قدروا الله حق قدره". و من انحرف في بعض مسائل الاعتقاد كالقدرية و الجبرية مثلا ما عرفوا الله تعالى حق المعرفة و جهلوا بأسمائه و ما تدل عليها. فلما وصفوا الله تعالى بما لا يليق به و جهلوا هذا الباب العظيم الذي هو توحيد الأسماء و الصفات وقعوا في الضلال. و قد نزه الله نفسه عما وصفه به المخالفون للرسل و سلم على المرسلين لسلامة ما قالوه من النقص و العيب، فقال تعالى:"سبحان ربك رب العزة عما يصفون. و سلام على المرسلين. و الحمد لله رب العالمين". و من ارتكب معصية أو قصر في طاعة إنما حصل له ذلك بسبب جهله بالله تعالى و بما يستحقه من التعبد بمقتضى أسمائه و صفاته. المقصد الثالث: ذكر بعض آثار الإيمان بأسماء الله تعالى: ذكر المصنف حفظ الله تعالى بعض آثر الإيمان بأسماء الله تعالى، و فسر بعض الآيات أثناء هذا المقصد. فمن عرف معنى اسم الله تعالى العليم و اسمه الخبير معرفة نافعة فإنها تحمله على فعل الطعات و اجتناب المحرمات لعلمه أن الله تعالى هو العليم بظواهر الأمور و الخبير ببواطن الأمور، و قد قال الله تعالى: "و يستخفون من الناس و لا يستخفون من الله و هو معهم إذ يبيتون ما لا يرضى من القول و كان الله بما يعملون محيطا" و من علم أن الله تعالى هو التواب فإنه يسارع إلى مغفرة من ربه لأنه عرف أن الله يغفر الذنوب جميعا حتى الشرك إذا تاب منه، و انظر إلى ما قاله الله تعالى للكفار:"أفلا يتوبون إلى الله و يستغفرونه و الله غفور رحيم". و ذكر المصنف أيضا أوجه بطلان ادعاء ألوهية عيسى و أمه. المقصد الرابع: بيان سبب تأليف الكتاب: لما قرأ الشيخ كتاب العلامة بكر أبو زيد ـ رحمه الله ـ الذي ألفه في تقريب علوم ابن القيم، و وصل إلى قول المصنف: "لعل الله سبحانه يهيئ من يفردها بكتاب مستقل دون أي تعليق أو تحشية" وافق ذلك رغبة كامنة في النفس فاستخار الله تعالى على جمع هذا البحث و إعداده. فقام باستقراء ما تيسر له من كتب ابن القيم و كان إذا مر بكلام متعلق بباب الأسماء و الصفات أشار إليه في آخر ذلك الكتاب. |
الحمد لله رب العالمين، و الصلاة و السلام على نبينا محمد، و على آله و صحبه أجمعين،
أما بعد: فهذا تلخيص و بيان مقاصد الباب الأول من المرتبع الأنسى لشيخنا عبد العزيز الداخل ـ حفظه الله ـ. مقصد الباب: بيان توحيد الأسماء و الصفات هو أفضل العلوم: بين العلامة ابن القيم ـ رحمه الله ـ أن أفضل العلم و العمل و الحال هو: ١ـ العلم بالله و أسمائه و صفاته و أفعاله. ٢ـ العمل بمرضاته. ٣ـ انجذاب القلب ب الحب و الخوف و الرجاء. و هذا أشرف ما في الدنيا و جزاؤه أشرف ما في الآخرة. و الغاية التي تطلب لذاتها و أجل السعادة في الدنيا و الآخرة هي معرفة الله ـ تعالى ـ و محبته، و الأنس بقربه و الشوق إلى لقائه و التنعم بذكره. و سيشعر المؤمن تمام الشعور بأن هذا هو عين السعادة إذا فارق الدنيا و دخل الآخرة. و أما في الدنيا فليس شعوره تاما كاملا، و إن يشعر بذلك بعض الشعور. و تفاوت العلوم في فضلها بحسب إفضائها إلى هذه المعرفة و بعدها. انتهى تلخيص هذا الباب و الحمد لله. فائدة: ذكر العلامة ابن القيم ـ رحمه الله ـ أن معرفة الله و أسمائه و صفاته و أفعاله أفضل العلوم، وهو أيضا أصل نوعي التوحيد، لأن التوحيد ينقسم إلى قسمين: التوحيد العلمي و هو يشمل توحيد الربوبية و توحيد الأسماء و الصفات، و التوحيد العملي و هو توحيد الألوهية، و هو ثمرة للتوحيد العلمي. (راجع شرح القواعد المثلى للشيخ إبراهيم بن عامر الرحيلي، الشريط الأول). |
سلام عليكم و رحمة الله و بركاته
سأواصل إن شاء الله تلخيص أبواب هذا الكتاب إن شاء الله و أعتذر إلى شيخنا الفاضل و زملائي طلاب العلم و لكن قد كنت مشغولا. |
الباب الثاني: في بيان ما يفضي إليه العلم بأسماء الله ـ تعالى ـ و صفاته من المراتب العالية و المعارف الجليلة
نقل المؤلف ـ حفظه الله ـ كلام ابن القيم ـ رحمه الله ـ في الأنوار و أنها على ثلاثة أنواع: النوع الأول: نور الفطرة. و الثاني:نور الوحي، و هو الذي انضاف إلى نور الفطرة، نور على نور، فأشرقت منه القلوب، و استنارت منه الوجوه، و حييت به الأرواح، و أذعنت به الجوارح للطاعات طوعا و اختيارا، فازدادت به القلوب حياة إلى حياتها. و الثالث: نور الصفات، و هو الذي دل عليه نور الوحي، و هذا النور هو الذي يضمحل فيه كل نور سواه، فشاهدته ببصائر الإيمان مشاهدة نسبتها إلى القلب كنسبة المرئيات إلى العين، ذلك لاستيلاء اليقين عليها و انكشاف حقائق الإيمان لها، حتى كأنها تنظر إلى عرش الرحمن ـ تبارك و تعالى ـ بارزا، و إلى استوائه عليه كما أخبر به ـ تعالى ـ في كتابه. ثم ذكر رحمه الله بعض أسمائه و صفاته ـ تعالى ـ و أفعاله. و قال: "فإن أشرقت على القلب أنواع هذه الصفات اضمحل عندها كل نور، و وراء هذا ما لا يخطر بالبال و لا تناله عبارة". و يتضمن هذا الباب ثلاثة فصول سيأتي تلخيصها إن شاء الله تعالى. |
الفصل الأول:
ذكر العلامة ابن القيم في هذا الفصل أن الله ـ تعالى ـ إذا شرح صدر عبده بنوره الذي يقذفه في قلبه أراه بضوء ذلك النور أمور: الأمر الأول: حقائق الأسماء و الصفات التي تضل فيها معرفة العبد إذ لا يمكن أن يعرفها العبد على ما هي عليه في نفس الأمر. و الأمر الثاني: حقائق الإيمان و حقائق العبودية و ما يصححها و يفسدها، قال الله ـ تعالى ـ :{يأيها الذين ءامنوا اتقوا الله و ءامنوا برسوله يؤتكم كفلين من رحمته و يجعل لكم نورا تمشون به}. و تفاوت هذه المعرفة بحسب تفاوت هذه النور. و يكشف في ضوء ذلك النور أمور: الأمر الأول: حقيقة المثل الأعلى مستويا على عرش الإيمان في قلب المؤمن، فيشهد بقلبه ربا عظيما قاهرا قادرا أكبر من كل شيء في ذاته و صفاته و أفعاله. و هذا أول مشهد المعرفة، ثم يرتقي منه إلى مشهد فوقه لا يتم إلا به و هو مشهد الألوهية. و الثاني: عدله، و حكمته و رحمته، لطفه، و إحسانه في شرعه و أحكامه. و الثالث: إثبات صفات الكمال و تنزيهه ـ تعالى ـ عن النقص و المثال، و أن معطي الكمال أولى به. و الرابع: حقائق المعاد و اليوم الآخر و ما أخبر به النبي ـ صلى الله عليه و سلم ـ عنه حتى كأنه يشاهده عيانا. ثم ختم هذا الفصل ببيان كون الهداية بيد الله ـ تعالى ـ ، فمن أراد الله هدايته شرح صدره لهذا فاتسع لع و انفسح، و من أراد ضلاله جعل صدره في ضيق و حرج لا يجد فيه مسلكا و لا منفذا. و أنا أتبع الآن هذا الفصل ببيان موجز لبعض ما يتضمن هذا الفصل: ـ قال ابن القيم ـ رحمه الله ـ تعالى ـ :"حقيقة المثل الأعلى": معنى المثل الأعلى هو الذي يمنع تصوره وقوع الشركة فيه. ـ و قوله ـ رحمه الله ـ :"أن كل كمال في الوجود فمعطيه و خالق أحق به و أولى" هذا مقيد بشرطين: الأول: أن يكون كمالا مطلقا و هو الذي لا نقص فيه بوجه من الوجوه. و الثاني: أن يرد به النص على إثبات ذلك الكمال. و الثالث: أن يكون غير مستلزم للعدم. |
الفصل الثاني:
جملة ما نقله المؤلف في عن هذا الفصل أن العبد الذي عنده معرفة بأسماء الله ـ تعالى ـ و صفاته و أفعاله فيشهد ربه في كلامه، فقد تجلى سبحانه في كلامه، و تراءى لهم فيه، و تعرف إليهم فيه، فبعدا و تبا للجاحدين الظالمين {أ فالله شك فاطر السموات و الأرض}. ثم ذكر ـ رحمه الله ـ أن صفات الرب إذا صارت مشهدا لقلبه أنسته ذكر غيره، و تشغلته عن حب من سواه، و حديث دواعي قلبه إلى حبه ـ تعالى ـ بكل جزء من أجزاء قلبه، و روحه، و جسمه، و حينئد يكون ربه ـ تعالى ـ سمعه الذي يسمع به، و بصره الذي يبصر به، و يده التي يبطش بها، و رجله التي يمشي بها كما جاء في الحديث القدسي. و من غلط حجابه و كثف طبعه و صلب عوده فهو عن فهم ذلك بمعزل، بل لعله أن يفهم منه ما لا يليق بالله أو يحرف نتيجة لسوء فهمه. ثم استطرد في مسألة و هي حكم النوم بغير وضوء للجنب و ذكرها على سبيل الإجمال، و ذكر فائدة و هي أن سبب الوضوء قبل النوم ـ في حق الجنب ـ هو أن روحه تسجد تحت العرش إذا نام، فإن كان طاهرا أذن لها في السجود ، و إن كان جنبا لم يؤذن لها في السجود و نقل هذا الكلام عن أبي الدرداء. |
الفصل الثالث:
إن العبد إذا قام بقلبه شاهد من الربوبية و القيومية، رأى أن الأمر كله لله، ليس لأحد معه من الأمر شيء، قال الله ـ تعالى ـ : {و إن يمسسك الله بضر فلا كاشف له إلا هو و إن يردك بخير فلا راد لفضله يصيب به من يشاء من عباده و هو الغفور الرحيم}. و إن قام بقلبه شاهد من الألوهية رأى في ذلك الشاهد ما يلي: ـ الأمر و النهي. ـ النبوات و الكتاب و الشرائع. ـ المحبة و الرضا. ـ الكراهة و البغض. ـ الثواب و العقاب. و إن قام بقلبه شاهد من الرحمة رأى أن الوجود كله قائم بهذا الصفات. و إن قام بقلبه شاهد من الكبرياء و العزة و العظمة و الجبروت فله شأن آخر و هكذا جميع شواهد الصفات. |
الباب الثالث: في بيان أن التفكر في آيات الله عز و جل طرق إلى معرفة الله بأسمائه و صفاته:
و مقصد الباب هو بيان أن التفكر في آيات الله الكونية ـ و هو المراد بقوله ـ رحمه الله ـ : "النظر في مفعولاته"ـ ، و الآيات الشرعية ـ و هو المراد بقوله:"التفكر في آياته و تدبرها طريقان إلى معرفة الله تعالى. أما النوع الأول فكقوله تعالى:(إن في خلق السموات و الأرض و اختلاف الليل و النهار لآيات لأولي الألباب). و أما النوع الثاني فكقوله تعالى:(أفلا يتدبرون القرآن)، و قال تعالى:(كتاب أنزلناه إليك مبارك ليدبروا آياته). و ذكر رحمه الله أن المفعولات دالة على الأفعال، و الأفعال دالة على الصفات. و بين أن أصناف المخلوقين و أحوالها يستدل بها على إثبات الصانع، و التوحيد، و المعاد، و النبوات. و أن المصنوعات تصدق الآيات المسموعات منبهة على الاستدلال بالآيات المصنوعات. و أما النوع الثاني و هو تدبر القرآن فالله تعالى تجلى فيه لعباده بصفاته، و هذا التجلي على أنواع: النوع الأول: التجلي في جلبات الهيئة و العظمة و الجلال. و الثاني: التجلي في صفات الجمال و الكمال. و الثالث: التجلي بصفات البر و الرحمة، و اللطف، و الإحسان. و الرابع: التجلي بصفات العدل و الانتقام، و الغضب و السخط و العقوبة. و الخامس: التجلي بصفات الأمر و النهي و العهد و الوصية و إنزال الكتب و إرسال الرسل و شرع الشرائع. و السادس: التجلي بصفات السمع و البصر و العلم. و السابع: التجلي بصفات الكفاية و الحسب و القيام بمصالح العباد و سوق أرزاقهم إليهم و دفع المصائب عنهم و نصرة أوليائه و حمايته لهم و معيته الخاصة بهم. و الثامن: التجلي بصفات العز و الكبرياء. و جماع ذلك أنه تعالى يتعرف إلى عباده بصفات الإلهية تارة، و بصفات الربوبية تارة. و شهود صفات الإلهية يوجب للعبد تسعة أمور: الأول: المحبة الخاصة. و الثاني: السوق إلى لقائه. و الثالث:الأنس و الفرح به. و الرابع: السرور بخدمته. و الخامس: المنافسة في قربه. و السادس: التودد إليه بطاعته. و السابع: اللهج بذكره. و الثامن: الفرار من الخلق إليه. و التاسع: أن يصير الله تعالى وحده هو همه دون ما سواه. و أما شهود صفات الربوبية فيوجب للعبد أربعة أمور: الأول: التوكل عليه. و الثاني: الافتقار إليه. و الثالث: الاستعانة به. و الرابع: الذل و الخضوع و الانكسار له. كما أنه بين رحمه الله تعالى أن التدبر الخالي من آراء المتكلمين و أفكار المتكلفين ـ و هو التدبر على الوجه الصحيح ـ يفضي إلى شهود صفات الكمال. |
فصل:
معرفة الله نوعان: الأول: معرفة إقرار و هو الذي اشترك فيها الناس كلهم. و الثاني: معرفة توجب أعمال قلبية، و الناس متفاوتون فيها، و لها بابان واسعان و هما: التفكر في الآيات الكونية، و التفكر في الآيات الشرعية. و جماع ذلك التفكر في أسمائه الحسنى و جلالها و كمالها و تفردها بذلك و تعلقها بالخلق ـ و هو الأمر الكوني ـ و الأمر ـ و هو الأمر الشرعي ـ . |
الباب الرابع: في بعض ما تضمنته سورة الفاتحة من المعارف الجليلة في باب الأسماء و الصفات
ذكر العلامة ابن القيم ـ رحمه الله تعالى ـ أن هذه السورة اشتملت على التعريف بالمعبود بثلاثة أسماء و أن مرجع الأسماء الحسنى و الصفات العليا إليها، و مدارها عليها، و هي الله، و الرب، و الرحمن. و أنها بنيت على الألوهية كما يدل على هذا قوله ـ تعالى ـ :(إياك نعبد)، و الربوية لأن الله تعالى قال: (و إياك نستعبن)، و على الرحمة لأن فيها طلب الهداية إلى الصراط المستقيم بصفة الرحمة، و الحمد يتضمن الأمور الثلاثة. و مما يتضمن هذه السورة: إثبات المعاد و إيبات النبوات. و تضمنها لإثبات النبوات يكون من أوجه: الأول: أن رب العالمين لا يليق به أن يترك عباده سدى هملا لا يأمر و لا ينهى. و الثاني: أن الله تعالى هو المعبود و لا سبيل لعباده إلى معرفة عبادته إلا من طريق رسله. و الثالث: أن رحمة الله تعالى تمنع إهمال عباده و عدم تعريفهم ما ينالون به غاية كمالهم. و الرابع: أن الجزاء و العقاب يوم الدين لا يكون إلا بعد قيام الحجة، و الحجة لا تقوم إلا بعد إرسال الرسل و إنزال الكتب. و الخامس: أن عبادة الله تعالى لا تكون إلا بما يحبه و يرضاه، و هي أمر فطري معقول للعقول السليمة لكن طريق التعبد و ما يعبد به لا سبيل إلى معرفته إلا برسله و بيانهم. و السادس: أن المراد بالهداية في هذه السورة هداية البيان و الدلالة ثم التوفيق و الإلهام، و هذا بعد البيان و الدلالة، و لا سبيل إلى البيان و الدلالة إلا من جهة الرسل. ثم بين ـ رحمه الله ـ أن هذين النوعين من أنواع الدلالة متضمنتان تعريف ما لم نعلمه من الحق جملة و تفصيلا، و إلهامنا له، و جعلنا مريدين لاتباعه ظاهرا و باطنا، ثم خلق القدرة لنا على القيام بموجب الهدى بالقول و العمل و العزم، ثم إدامة ذلك و تثبيتا عليه إلى الوفاة. |
فصل في اشتمال هذه السورة على أنواع التوحيد الثلاثة التي اتفقت عليها الرسل ـ صلوات الله و سلامه عليهم ـ:
ذكر ـ رحمه الله ـ أن التوحيد نوعان: الأول: التوحيد العلمي، و هو يتعلق بالمعرفة و الأخبار. و الثاني: التوحيد القصدي الإرادي، و هو يتعلق بالقصد و الإرادة، و هو يتقسم إلى قسمين. و مدار النوع الأول على إثبات صفات الكمال، و نفي التشبيه و المثال و التنزيه عن العيوب و النقائص. و يدل على هذا شيئان: الأول: المجمل، و هو إثبات الحمد له سباحنه. و الثاني: المفصل، و هو ذكر صفات الإلهية و الربوبية الملك و الرحمة. و على هذه الأربع مدار الأسماء و الصفات. ثم شرع في بيان المجمل فقال: الحمد يتضمن مدح المحمود بصفات كماله و نعوت حلاله مع محبته و الرضا عنه و الخضوع له، فلا يكون حامد من جحد صفات المحمود. و كلما كانت صفات الكمال أكثر كان حمده أكمل و كلما نقص من صفات الكمال نقص حمده بحسبها. ثم بين رحمه الله أن الله تعالى لو كان غير متصف بصفات الكمال لقال آزر لما قال له ابنه إبراهيم: (يا أبت لما تعبد ما لا يسمع و لا يبصر و لا يغني عنك شيئا):و أنت إلهك بهذه المثابة فكيف تنكر علي؟ لكن كان ـ مع شركه أعرف بالله من الجهمية. كما أنه بين أن الله تعالى يكلم عباده و هذا أنواع: الأول: من وراء حجاب. و الثاني: أن يرسل الرسول الملكي إلى الرسول البشري. و الثالث: أنه تعالى كلم سائر عباده على ألسنة رسله رسله، فأنزل عليهم كلامه الذي بلغته رسله عنه. و مما ذكر أيضا في هذا الفصل: ـ أن فاقد صفات الكمال لا يصلح أن يكون إلها. ـ و أن من أنكر كون الله متكلما فقد أنكر رسالة الرسل كلهم. و أشار إلى قاعدة في هذا الباب و هي أن الصفات السلبية تتضمن إثبات كمال الضد عند أهل السنة و الجماعة لما قال: "و المحمود لا يحمد على العدم و السكوت ألبتة إلا إذا كانت سلب العيوب و النقائص تتضمن إثبات أضدادها من الكمالات الثبوتية. |
فصل:
بين فيه دلالة الأسماء الحسنى ـ الله و الرب و الرحمن و الرحيم ـ على توحيد الأسماء و الصفات، و هو تفصيل لما تقدم لما قال: مفصل. و هذا مبني على أصلين: الأول: أن الأسماء مشتقة من الصفات فهي أسماء و أوصف إذ لو لم يكن كذلك لم يكن حسنى، و لا كانت دالة على المدح و الكمال و لساغ وقوع أسماء الانتقام و الغضب في مقام الرحمة و الإحسان، و لم يجز أن يخبر عنها بمصادرها و يوصف بها كما في قوله تعالى :(إن الله هو الرزاق ذو القوة المتين). و لم يسع أن يخبر عنه بأفعاله فلا يقال: يسمع، و يبصر و يرى و يعلم إلى آخره. و ذلك أن ثبوت أحكام الصفات فرع عن ثبوتها، فإذا انتفى ثبوت الصفات استحال ثبوت حكمها. و لو لم يكن تدل على معاني لكانت جامدة كالأعلام المحضة التي لم توضع أسمائها باعتبار معنى قائم به فكانت كلها سوى و لم يكن فرق بين مدلولاتها و هذا مكابرة صريحة. و أما أنواع الإلحاد و حقيقته فقد تكلم عن بعضها في هذا الفصل، لكن لما كان شيخنا قد جعل له بابا كاملا في هذا الكتاب فإني أتكلم عنها في ذلك الباب إن شاء الله تعالى. |
فصل: في تضمنها الرد على الجهمية معطلة الصفات:
و ذلك من أوجه: الأول: أن إثبات الحمد الكامل لله تعالى يقتضي ثبوت كل ما يحمد عليه تعالى من صفات كماله و نعوت جلاله. و الثاني: أن إثبات صفات الرحمة يقتضي إثبات صفات الحياة و السمع و البصر و الإرادة و غيرها. و الثالث: أن إثبات صفة الربوبية يستلزم إثبات جميع صفات الفعل. و الرابع: أن إثبات صفة الألوهية يستلزم إثبات أوصاف الكمال ذاتا و أفعالا. و ذكر رحمه الله أن هذا الطريق الذي ذكره تتضمن ثبوت الصفات الخبرية من وجهين: الأول: أنها لوازم كماله المطلق. و الثاني: أن السمع ورد بها. |
الباب الخامس: في بيان دلالة قول الله تعالى (ليس كمثله شيء) على ثبوت صفات الكمال لله عز و جل
معنى هذه الآية أنه لا كفء له و لا سمي له، وهذا يستلزم وصفه تعالى بصفات الكمال، لأنه لو لم يكن الأمر كذلك لكان كل عدم مثالا له في ذلك. فيكون قد نفى عن نفسه مشبابهة الموجودات و أثبت لنفسه مماثلة المعدومات. و ذكر العلامة ابن القيم رحمه الله فائدة و هي: أن هذا النفي واقع على أكمل الموجودات و على العدم المحض فإن العدم المحض لا مثال له و سمي له و لا كفء له، فلو كان المراد بذلك نفي الصفات و الأفعال لكان ذلك وصفا له بغاية العدم. و ذكر أنهم لو أبطلوا المعنى الصحيح تعين المعنى الباطل قطعا، و صار المعنى أنه تعالى لا يوصف بصفة أصلا و لا بفعل و لا له وجه و لا يد و لا يسمع و لا يبصر و لا يعلم و لا يقدر تحقيقا لمعنى (ليس كمثله شيء). و ذكر بعض معتقد الملاحدة الذين يقولون: ليس له ذات أصلا تحقيقا لهذا النهي، و قال غلاتهم: و لا وجود له تحقيقا لهذا النفي، ثم ذكر معتقد الرسل في هذا الباب. و مما ذكر أيضا أن هذا النفي لايتحقق إلا بإثبات صفات الكمال فإنه مدح له و ثناء أثنى به على نفسه و العدم المحض لا يمدح به أحد و لا يثني به عليه، و لا يكون كمالا له، بل هو أنقص النقص و إنما يكون كملا إذا يتضمن الإثبات. ف(ليس كمثله شيء) متضمن لإثبات جميع صفات الكمال على وجه الإجمال. و لو قيل لشخص: ما له شبيه و نحو ذلك فإن المراد أنه تفرد من الصفات و الأفعال و المجد ما لم يلحقه فيه غيره، و ليس المراد نفي صفاته و أفعاله فإن هذا هو غاية الذم. و الله تعالى أهل الثناء و المجد و لا يكون كذلك إلا بأوصاف كماله و نعوت جلاله و أفعاله و أسمائه الحسنى و إلا بماذا يثنون عليه المثنون؟ |
فصل:
نفى الله تعالى ما يناقض و يضاد ثبوت الصفات و الأفعال فلم ينف إلا أمرا عدميا أو ما يستلزم العدم. و إذا كان الأمر كذلك فعلم أنه تعالى أحق بكل وجود و ثبوت و كل أمر وجودي لا يستلزم عدميا و لا نقصا و لا عيبا. ثم شرع رحمه الله في ذكر تفسير الصمد في حق الله تعالى. و ذكر أن الله تعالى ذكر هذه اللآية بعد ذكر نعوت الجلال و الكمال و أوصافه مما يبين أنه ليس كمثله شيء لكثرة نعوته و أوصافه و أفعاله و ثبوتها له على وجه الكمال الذي لا يماثله شيء. و ذكر أن وصف المعطل بأن الله تعالى ليس كمثله شيء مجازا لا حقيقة كما يقول في سائر أسماء الله تعالى و صفاته. |
الباب السادس: في بيان دلالة قول الله تعالى :(و لله المثل الأعلى) على تفرد الله عز و جل بصفات الكمال
جعل الله تعالى مثل السوء المتضمن للعيوب و النقائص و سلب الكمال للمشركين و أربابهم و أخبر أن المثل الأعلى المتضمن لإثبات الكمالات كلها له وحده ، فقال تعالى:(للذين لا يؤمنون بالآخرة مثل السوء و لله المثل الأعلى و هو العزيز الحكيم). و في هذا الباب رد الإمام ابن القيم على المعطلة لما قال: كيف يكون أعلى و هو عدم محض و نفي صرف، و أي مثل أدنى من هذا؟ و مثل السوء لعادم صفات الكمال و لهذا جعله مثل الجاحدين لتوحيده و كلامه و حكمته. فمن نفى صفات الكمال عن الله تعالى فقد جعل له مثل السوء و نزهه عن المثل الأعلى. و لما كان الرب تعالى هو الأعلى و صفاته عليا كان به المثل الأعلى و كان أحق به من كل ما سواه، بل يستحيل أن يشترك في المثل الأعلى اثنان لأنهما إن تكافآ لم يكن أحدهما أعلى من الآخر، و إن لم يتكافأ فالموصوف بالمثل الأعلى أحدهما دون الآخر و يستحيل لمن يكون له المثل الأعلى مثل أو نظير و هذا برهان قاطع من إثبات الصفات على استحالة التمثيل و التشبيه. ثم ذكر العلامة ابن القيم أقوال أهل العلم في المراد بالثمل الأعلى و مثل السوء و مما قيل: ـ مثل السوء هو العذاب و النار، و المثل الأعلى هو شهادة أن لا إله إلا الله. ـ و قال قتادة: هو الإخلاص و التوحيد. و قد ذكر الواقدي أنه لا يدري لما قيل للمثل الأعلى: الإخلاص، و لمثل السوء: العذاب. ـ و قال قوم: المثل الأعلى الصفات العليا من تنزه الله تعالى و براءته عن الولد، و مثل السوء صفة السوء من احتياجهم إلى الولد و كراهتهم للإناث خوف العيلة و العار. ـ و قال ابن كيسان: مثل السوء ما ضرب الله للأصنام و عبدتها من الأمثال، و المثل الأعلى نحو قوله تعالى:(الله نور السموات و الأرض مثل نوره) الآية. ـ و قال ابن جرير: (و له المثل الأعلى) نحو قوله الأطيب و الأفضل و الأحسن و الأجمل.و ذلك التوحيد و الإذعان له بأنه لا إله إلا هو. ثم شرع في ذكر ما يتضمن المثل الأعلى و هو أربعة أمور: الأول: ثبوت الصفات العليا لله تعالى في نفس الأمر. و الثاني: وجودها في العلم و التصور. و الثالث: ذكر صفاته و الخبر عنها و تنزيهها عن التقائص و العيوب و المثيل. و الرابع: محبة الموصوف بها و توحيده و الإخلاص له و التوكل عليه و الإنابة إليه. و كلما كان الإيمان بالصفات أكمل كان هذا الحب أقوى. |
الباب التاسع: في بيان بعض ما تضمنه حديث:"اللهم إني عبدك بن عبدك" من الفوائد الجليلة و اللطائف البديعة في باب الأسماء و الصفات
هذا الحديث العظيم يتضمن أمورا من المعرفة و التوحيد و العبودية: الأمر الأول: أن الداعي صدر سؤاله بقوله: "أن عبدك بن عبدك بن أمتك" و هذا يتضمن آبائه و أمهاته إلى أبويه آدم و حواء، و في هذا اعتراف بأنه مملوك و أن آبائه مماليكه و أنه ليس له غير باب سيده و إحسانه و فضله و أن الله تعالى إذا أهمله و تخلى عنه هلك. و فيه الاعتراف بأنه مربوب مدبر مأمور منهي إنما يتصرف بحكم العبودية لا بحكم الاختيار لنفسه. و في قوله:"إني عبدك" فوائد، منها: التزام عبوديته، و أنه عبد الله من جميع الوجوه، و أن ماله لله تعالى، و أنه تعالى هو المنعم عليه و الذي من عليه. و الثاني: في قوله:"ناصيتي بيدك" بيان أن الله هو المتصرف يتصرف كيف شاء. و متى شهد العبد أن ناصيته و نواصي العباد كلها بيد الله تعالى يصرفهم كيف يشاء لم يخفهم بعد ذلك و لم يرجهم و لم ينزلهم منزلة المالكين بل منزلة عباد مقهورين مربوبين. و متى شهد نفسه هذا المشهد صار قوته و ضرورته إلى ربه وصفا لازما له. و مما استدل به ابن القيم رحمه الله قوله تعالى حكاية عما قال هود لقومه:( إني توكلت على الله ربي و ربكم ما من دابة إلا هو آخذ بناصيتها إن ربي على صراط مستقيم). و الثالث: في قوله:"ماض في حكمك عدل في قضاؤك" أصلان عظيمان عليها مدار التوحيد: أحدهما: إثبات القدر. و الثاني: أن الله تعالى عدل في الأحكام غبر ظالم لغيره. و هو تعالى مع أنه يصرف عباده كيف يشاء فإنه على صراط مستقيم لا يتصرف فيهم إلا بالعدل و الإحسان و الرحمة و الحكمة. و قول النبي صلى الله عليه و سلم:"ماض في حكمك" مطابق لقوله تعالى:(ما من دابة إلا هو آخذ بناصتيها)، و قوله:" عدل في قضاؤك مطابق بقوله تعالى:(إن ربي على صراط مستقيم). ثم ذكر أن الله تعالى فرق بين الحكم فجعل المضاء له، و القضاء فعدل فجعل القضاء له. فإن حكمه تعالى يتناول حكمه الديني الشرعي،و حكمه الكوني القدري. و من الفروق بينهما: أن الحكم الكوني لا يمكن مخالفته، و حكمه الشرعي يمكن مخالفته. و قوله :"عدل في قضاؤك" يتضمن جميع أقضيته في عبده من جميع الوجوه. ثم بين أقوال الناس في وجه العدل في قضاء المعصية و أن المسلمين في هذه المسألة على ثلاثة أقسام: الأول: الجبرية و هو الذين قالوا: العدل هو المقدور و الظلم ممتنع في ذاته لأنه تصرف في ملك الغير، و الله تعالى له كل شيء فلا يكون تصرفه في خلقه إلا عدلا. و الثاني: القدرية و هو الذين قالوا: بل العدل أن لا يعاقب على ما قضاه و قدره، فلما حسن منه العقوبة على الذنب علم أنه ليس بقضائه و قدره، فيكون العدل هو جزاؤه على الذنب بالعقوبة الذم، إما في الدنيا و إما في الآخرة. و صعب عليهم إثبات العدل و القدر جميعا فزعموا أن من أثبت العدل لم يمكنه إثبات القدر، و من أثبت القدر لم يمكنه إثبات العدل كما صعب عليهم الجمع بين التوحيد و الصفات. و القسم الثالث: أهل السنة و الجماعة الذين قالوا: نثبت الأمرين جميعا، و أما الظلم فالمراد منه وضع الشيء في غير موضعه كتعذيب المطيع و من لا ذنب له و هذا قد نزه الله عنه في غير موضع من كتابه. و الله تعالى وضع العقوبة و وضع القضاء بسببها و موجبها في موضعه فإنه عز و جل كما أنه يجازي بالعقوبة فإنه يعاقب بنفس قضاء الذنب فيكون حكمه بالذنب عقوبة على ذنب سابق فإن الذنوب تكسب بعضها بعضا. و من أسماء الله تعالى العدل و هو الذي كل أفعاله و أحكامه سداد و صواب و حق. ثم ذكر رحمه الله تعالى أن من خذله الله و تخلى عنه على قسمين: الأول: ما يكون جزاء منه للعبد على إعراضه عنه، و إيثار عدوه في طاعته و الموافقة عليه و تناسي ذكره و شكره. و الثاني: أن لا يشاء ذلك له ابتداء لما يعلم منه أنه لا يعرف قدر النعمة لهداية و لا يشكره عليه و لا يثني عليه بها و لا يحبه فلا يشاؤها له لعدم صلاحية محله. ثم استدل بقوله تعالى:(و كذلك فتنا بعضهم ببعض ليقولوا أهولاء من الله عليهم من بيننا أ ليس الله بأعلم بالشاكرين) و قال تعالى:(و لو علم الله فيهم خيرا لأسمعهم). و كلامه رحمه الله هنا في هذه المسألة مختصر و قد استوفى الكلام في كتابه الكبير في القدر و لعل يقصد به "شفاء العليل". |
فصل
بين العلامة ابن القيم رحمة الله تعالى أن (أو) في قول النبي صلى الله عليه و سلم:"أو أنزله في كتابك" بمعنى الفاء لأن هذا تقسيم و تفصيل لما سمى به نفسه. و هذا الحديث يدل على أن أسماء الله تعالى غير مخلوقة و لو كانت كذلك لم يسأله بها فإن الله تعالى لا يقسم عليه بشيء من خلقه. و أيضا فإن أسماء الله تعالى مشتقة من الصفات و هي قديمة به مما يدل على أن الأسماء غير مخلوقة. ثم شرع في مسألة الاسم و المسمى و سأبين هذه المسألة في آخر تلخيصي على هذا الباب. و أشار إلى أن أسماء الله تعالى غير محصورة بعدد معين و هذا أيضا مما سأبينه بعد قليل. و في قوله صلى الله عليه و سلم:"أسألك بكل اسم هو لك" التوسل بأسماء الله تعالى كلها، و هي أعظم الوسائل، و أحبها إلى الله تعالى و أقربها تحصيلا للمطلوب فإنها وسيلة بأوصافه و أفعاله التي هي مدلول أسمائه. و هو أنفع للعبد من التوسل إليه بمخلوقاته. و في قوله صلى الله عليه و سلم:"أن تجعل القرآن ربيع قلبي و نور صدري" سؤال الله بعبوديته و توحيده و أسمائه و صفاته أن يجعل كتابه الذي جعله روحا للعالمين نورا و حياة لقلبه بمنزلة الماء الذي يجير به الأرض و نور بمنزلة الشمس التي تستنير بها الأرض، و الحياة و النورجماع الخير كله. و هذا الحديث له فوائد منها: ـ أنه استوعب أقسام المكروه الواردة على القلب: الهم و الحزن و الغم. و بين رحمه الله أن أكثر الطرق و الأودية التي يشتغلها الناس في الخلاص منها لا يزيدها إلا شدة. و كلهم قد أخطأ الطريق إلا من سعى في إزالتها بالدواء الذي وصفه الله لإزالتها وهو دواء مركب من مجموع أمور متى نقص منها جزء نقص من الشفاء بقدره. و أعظم أجزاء هذا الدواء هو التحيد و الاستغفار. فالأول و هو التوحيد يدخل العبد على الله و الاستغفار و التوبة يرفع المانع و يزيل الحجاب الذي يحجب القلب عن الوصول إليه. و إذا وصل القلب إليه زاد همه و غمه و حزنه. |
الحمد لله رب العالمين و الصلاة و السلام على نبينا محمد و على آله و صحبه أحمعين، أما بعد:
فهذه دراسة موجزة عن بعض مسائل تضمنها هذا الباب، و قبل أن نبدأ هذه الدراسة أحب أن أنبه على أمر مهم و هو : أن العلم يؤخذ من أهله فتلخيص لهذا الكتاب المفيد لا يغني عن قراءته كله، كما أن هذه الدراسة و التي تليها إن شاء الله تعالى لا تغني عن استماع و قراءة كتب العلماء و حضور دروسهم و ما من شيء في هذه الدراسة إلا و قد استفدتها من كتب أهل العلم. أما هذه الدراسة الموجزة فهي تتضمن ثلاث مسائل: المسألة الأولى: هل أسماء الله تعالى محصورة بعدد معين أو لا؟ و المسألة الثانية: الاسم عين المسمى أو غيره و موقف أهل السنة و الجماعة من الألفاظ المجملة. و المسألة الثالثة: التوسل بأسماء الله تعالى. |
الحمد لله رب العالمين و الصلاة و السلام على نبينا محمد و على آله و صحبه أجمعين،
أما بعد: فهذا هو الكلام على المسألة الأولى التي هي: هل أسماء الله تعالى محصورة بعدد معين أو لا؟ و قد قسمت هذه الدراسة الموجزة إلى العناصر التالية: ـ قول أهل العلم في هذه المسألة. ـ معنى حديث:"إن لله تسعة و تسعين اسما". ـ ضعف طرق الحديث الذي فيه سرد الأسماء. ـ أقوال أهل العلم في الرد على ما ذهب إليه ابن حزم رحمه الله في هذه المسألة. أولا:قول أهل العلم في هذه المسألة. قال العلامة ابن عثيمين رحمه الله تعالى في القاعدة السادسة من القواعد في باب أسماء الله تعالى: "أسماء الله تعالى غير محصورة بعدد معين" ثم استدل بحديث الباب. و قال رحمه الله في القواعد المثلى:" و ما استأثر الله تعالى به في علم الغيب لا يمكن لأحد حصره و لا الإحاطة به. و قد حكى الإمام النووي رحمه الله الاتفاق على أن أسماء الله غير محصورة بعدد معين. و قال محمد بن إسحاق بن خزيمة بعد أن ذكر حديث الباب:" فهذا يدل على أن لله أسماء لم ينزلها في كتابه، حجبها عن خلقه، و لم يظهرها لهم.". و من الأدلة التي استدل بها العلماء على صحة ما ذهبوا إليه في هذه المسألة ما جاء في الصحيح من أن النبي صلى الله عليه و سلم كان يقول في سجوده:"اللهم إني أعوذ برضاك من سخطك، و بمعافاتك من عقوبتك ، و بك منك، لا أحصي ثناء عليك أنت كما أثنيت على نفسك"، قال شيخ الإسلام رحمه الله تعالى:" فأخبر أنه صلى الله عليه و سلم لا يحصي ثناء عليه، و لو أحصى جميع أسمائه لأحصى صفاته كلها، فكان يحصي الثناء عليه، لأن صفاته إنما يعير عنها بأسمائه. |
ثانيا: معنى حديث:"إن لله تسعة و تسعين اسما":
ذهب جمهور العلماء إلى أن هذا الحديث ليس فيه دليل على حصر الأسماء، بل حكى النووي الاتفاق على ذلك، و خالفهم ابن حزم فذهب إلى أن أسماء الله تعالى محصورة بعدد معين، و كأن النووي رحمه الله لم يعتد بقول ابن حزم في هذا الباب. و قال أبو سليمان حمد الخطابي:"إنما هو بمنزلة قولك: إن للزيد ألف درهم أعدها للصدقة، و كقولك: إن لعمرو مائة ثوب من زاره خلعها عليه، و هذا لا يدل على أنه ليس له من الدرهم أكثر من ألف درهم، و لا من الثياب أكثر من مائة ثوب، و إنما دلالته على أن الذي أعدها زيد من الدراهم للصدقة ألف درهم، و أن الذي أرصده عمرو من الثياب مائة ثوب". و قال شيخ الإسلام رحمه الله تعالى كما في "درء التعارض" في معنى هذا الحديث:"أن من أحصى التسعة و التسعين من أسمائه دخل الجنة". ثالثا:ضعف طرق الحديث الذي فيه سرد الأسماء: هذا الحديث الذي جاء في سرد الأسماء جاء من ثلاثة طرق: الأولى: من طريق الوليد بن مسلم، و هو مدلس يدلس التسوية، و اشترطوا أن يصرح في طبقات السند. و هذا الطريق هو أحسن طريق على ضعف فيها. و الثانية: جاء من طريقة عبد الملك بن محمد الصنعاني و فيه ضعف. و الثالثة: جاء من طريقة عبد العزيز بن حصين بن ترجمان، ضعيف جدا. و قد ذكر الإمام الذهبي من ضعفه في "الميزان". و قال العلامة ابن كثير رحمه الله تعالى:" و الذي عول عليه جماعة من الحفاظ أن سرد الأسماء في هذا الحديث مدرج فيه، و إنما ذلك كما رواه الوليد بن مسلم و عبد الملك بن محمد الصنعاني عن زهير أنه بلغه عن غير واحد من أهل العلم أنهم قالوا ذلك". و قد نقل الحافظ ما يدل على الإدراج، و هو ما أخرجه عثمان الدارمي في "الرد على المريسي" عن هشام بن عمار عن الوليد فقال:عن خليد بن دعلج عن قتادة عن محمد بن سرين عن أبي هريرة...فذكره دون التعيين. و قال الوليد: و حدثنا سعيد بن عبد العزيز مثل ذلك، و قال: كلها في القرآن، هو الله الذي لا إله إلا هو الرحمن الرحيم و سرد الأسماء". و قال الصنعاني رحمه الله: اتفق الحفاظ من أئمة الحديث أن سردها إدراج من بعض الرواة. |
رابعا:أقوال أهل العلم في الرد على ما ذهب إليه ابن حزم رحمه الله في هذه المسألة.
قال الحافظ رحمه الله تعالى في الفتح:" و ابن حزم ممن ذهب إلى حصر الأسماء في العدد المذكور، و هو لا يقول بالمفهوم أصلا، لكن احتج بالتأكيد في قوله:"مائة إلا واحدة"، قال لأنه لو جاز أن يكون له اسم زائد على العدد المذكور، لزم أن يكون له مائة، فيبطل قوله:"مائة إلا واحدا". و قال رحمه الله تعالى:"و الذي قاله ليس بحجة على ما تقدم، لأن الحصر المذكور عندهم باعتبار الوعد الحاصل لمن أحصاها، فمن ادعى أن الوعد وقع على من أحصى زائدا على ذلك أخطأ، و لا يلزم من ذلك ألا يكون هناك اسم زائد. ثم إن ابن حزم لا يعتد به في العقائد عند الخلاف. قال ابن عبد الهادي:"جهمي جلد". و ذهب العلامة صالح آل الشيخ إلى أنه ليس من أهل السنة و الجماعة. فمخالفته في هذه المسألة و غيرها من مسائل الاعتقاد لا يعتد بها و تبقى إمامته في الفقه. |
الحمد لله رب العالمين و الصلاة و السلام على نبينا محمد و على آله و صحبه أجمعين،
أما بعد: فهذه هي دراسة المسألة الثانية، و هي مسألة الاسم و المسمى، و قبل الشروع فيها فإنه لا بد من ذكر مسألة أخرى ألا و هي مسألة الألفاظ المجملة، و من فهم هذه المسألة المهمة تيسرت له فهم مسألة الاسم و المسمى، لأن الذي عرف موقف أهل السنة و الجماعة من هذه الألفاظ و القاعدة التي ذكرها شيخ الإسلام في هذا الباب سيطبق هذه القاعدة على كل هذه الألفاظ. ـ فما المقصود بالكلمات المجملة؟ المقصود أنها ألفاظ يطلقها أهل التعطيل. أو: هي مصطلحات أحدثها أهل الكلام. ـ و ما معنى كونها مجملة؟ معنى كونها مجملة أنها تحتمل حقا و باطلا. أو يقال: إنها ألفاظ مستركة بين معان صحيحة و معان باطلة. أو يقال: لخفاء المراد منها بحيث لا يدرك معنى اللفظ إلا بعد الاستفصل و الاستفسار. ـ و ما مراد أهل التعطيل من إطلاقها؟ مرادهم من إطلاقها هو التوصل إلى نفي الصفات عن الله تعالى بحجة التنزيه عن النقائص. ـ و ما الذي دعاهم إلى ذلك؟ الذي دعاهم إلى ذلك هو عدم مقارعة أهل السنة و الجماعة بالحجة، فلجؤوا إلى هذه الألفاظ ليخفوا عوارهم و زيفهم. ـ و هل وردت هذه الألفاظ في الكتاب و السنة؟ لا، لم ترد في النصوص، بل هي من إطلاقات أهل الكلام. ـ و إذا كانت هذه الألفاظ لم ترد في النصوص فما هي طريقة أهل السنة و الجماعة في التعامل مع هذه الألفاظ؟ أما من جهة اللفظ فإنهم يتوقفون فلا ينفونه و لا يثبتون لأن باب الأسماء و الصفات توقيفي و الإثبات و النفي فيه يحتاج إلى دليل. و أما من جهة المعنى فإنهم يستفسرونه، فإن كان صحيحا قبل، و إن كان باطلا رد. و لكن حتى لو كان المعنى صحيحا فإنهم يستعملون اللفظ الشرعي المناسب للمقام لأنه أولى و أكمل من هذا اللفظ المجمل. |
الحمد لله رب العالمين و الصلاة و السلام على نبينا محمد و على آل و صحبه أجمعين،
أما بعد: فمن المسائل التي ذكرت في هذا الباب مسألة الاسم و المسمى و إليك بيانها: أـ وقت ظهورها: لم تعرف هذه المسألة إلا بعد انقضاء عصر الصحابة و التابعين حيث حدثت هذه البدعة و أنكر السلف على الجهمية قولهم: الاسم غير المسمى. قال ابن جرير رحمه الله:"ثم حدث في عصرنا هذا حماقات خاض فيها أهل الجهل و الغباءو نوكى الأمة و الرعاع يتعب إحصاؤها و يمل تعدادها، فيها القول في اسم الشيء أ هو هو أم هو غيره." و قال أيضا:"أما القول في الاسم أهو المسمى أم غير المسمى فهو من الحماقات الحادثة التي لا أثر لها فيتبع، و لا قول من إمام فيستمع فالخوض فيه شين و الصمت عنه زين، و حسب امرئ من العلم به و القول أن ينتهي إلى قوله جل ثناؤه الصادق و هو قوله تعالى:(قل ادعوا الله أو ادعوا الرحمن أيا من تدعوا فله الأسماء الحسنى)." فهو من بدع أهل الكلام. لكن لما كان الكلام في هذا الأمر مستمرا من أهل البدع و الضلالات اضطر أهل السنة و الجماعة الراد على هؤلاء و تنفيذ أقوالهم الباطلة المخالفة لكتاب الله و سنة نبييه و بيان الحق في هذه المسألة. ب ـ ما مراد أهل التعطيل من إطلاقها؟ مرادهم أن أسماء الله غير الله، فما كان غيره فهو مخلوق حيث زعموا أن أسمائه مخلوقة و أن كلامه مخلوق و أنه لو يتكلم بكلام قام بذاته و لا سمى نفسه باسم هو المتكلم به بل قد يقولون إنه تكلم به و سمى نفسه بهذه الأسماء بمعنى أنه خلقها في غيره لا بمعنى أن نفسه تكلم بهذا الكلام القائم به. فالقول في أسمائه فرع عن القول في كلامه. و قد أنكر الأئمة على الجهمية هذا القول و قد مر بنا كلام ابن جرير، و من الذين أنكروا على هؤلاء الشافعي و الأصمعي لما قالا: "إذا سمعت الرجل يقول: الاسم غير المسمى فاشهد عليه بالزندقة" و سيأتي إن شاء الله تعالى ذكر أقوال الناس في هذه المسألة. |
ج ـ أقوال الناس في هذه المسألة:
القول الأول: الاسم غير المسمى. و القول الثاني: الاسم هو المسمى. و هذان القولان يحتملان حقا و باطلا، فقول القائل: إن الاسم غير المسمى إن أراد أن لفظ الاسم غير الذات و أنه مخلوق فهذا معنى باطل لأن أسماء الله تعالى من كلامه و كلامه غير مخلوق فأسماؤه غير مخلوقة، و إن أراد القائل أن أسماء الله غير ذات الله فهذا معنى صحيح عقلا و لغة، لأن لفظ زيد مثلا غير زيد الآكل الشارب، و قول القائل: إن الاسم عين المسمى فإن أراد أن ألفاظ أسماء الله تعالى مخلوقة فهذا معنى باطل، و إن أراد أن الاسم لاينفك عن المسمى و لم يقل بخلق أسماء الله فهو معنى صحيح. و القول الثالث: أن الاسم للمسمى و هذا قول واضح لا تلبيس فيه و لا تدليس و ليس من الكلمات المحدثة بل الكتاب و السنة يدلان عليه فقد قال الله تعالى:(و لله الأسماء الحسنى)، و قال النبي صلى الله عليه و سلم:"لله تسعة و تسعين اسما من أحصاها دخل الجنة". و الحاصل أن قول القائل الاسم هو المسمى أو غير المسمى إن صدر عن إمام من الأئمة يحمل على المعنى الصحيح، و إن صدر عن أحد من أئمة الكلام يحمل على المعنى الباطل. هذا و من أراد التوسع في هذه المسألة فليرجع إلى أقوال شيخ الإسلام فيها، و لينظر في أول كتاب " النهج الأسنى في شرح الأسماء الحسنى"، و "مصطلحات في كتب العقائد للشيخ محمد بن إبراهيم الحمد، و الجزء الأول من شرح كتاب التوحيد من صحيح البخاري للشيخ الغنيمان، و "التعليقات الجلية على شرح العقيدة الطحاوية" للشيخ الخميس و غيرها. و أما ما يتعلق بالتوسل فمن أراد الاطلاع على هذه المسألة فليرجع إلى "قاعدة جليلة في التوسل و الوسيلة" مع شرح الشيخ الفوزان و شرح الشيخ ناصر بن عبد الكريم العقل، و للشيخ ابن عثيمين رحمه الله كلام جميل حول أنواع التوسل في فتواه في باب العقيدة. و سأواصل تلخيص كتاب الشيخ إن الله تعالى |
الساعة الآن 07:17 AM |
Powered by vBulletin® Copyright ©2000 - 2024, Jelsoft Enterprises Ltd. TranZ By
Almuhajir