تمهيد
مما ينبغي لطالب العلم تفهّمه ما يكون في القرآن وفي لغة العرب من الحمل على اللفظ والحمل على المعنى. فالحمل على اللفظ هو أن يُتبع الكلام ما يقتضيه من تذكير أو تأنيث ومن جمع أو تثنية أو إفراد، وهو الأصل الكثير الشائع. والحمل على المعنى هو أن يكون الإتباع لأجل المعنى على خلاف اللفظ، كما قال الله تعالى: {وكم من ملك في السماوات لا تغني شفاعتهم} ، وهذا حملٌ على معنى الجمع في {كم من ملك} ، ولو حمل على اللفظ لقال: لا تغني شفاعته. وقال تعالى: {وَمِنْهُمْ مَنْ يَسْتَمِعُونَ إِلَيْكَ أَفَأَنْتَ تُسْمِعُ الصُّمَّ وَلَوْ كَانُوا لَا يَعْقِلُونَ (42)} {يستمعون} حمل على المعنى لأنهم جماعة، ولو حمل على اللفظ لقال: ومنهم من يستمع. وقد يجتمع في موضع واحد حمل على اللفظ ثمّ حمل على المعنى، وهو كثير أيضاً في القرآن الكريم، ومن أمثلته: 1: قول الله تعالى: {ويَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللَّهِ مَا لا يَمْلِكُ لَهُمْ رِزْقًا مِّنَ السَّمَوَاتِ والأَرْضِ شَيْئًا ولا يَسْتَطِيعُونَ} {لا يملك} حمل على اللفظ، و{لا يستطيعون} حمل على المعنى. 2: وقوله تعالى: {وقَالُوا لَن يَدْخُلَ الجَنَّةَ إلاَّ مَن كَانَ هُودًا أَوْ نَصَارَى} فجمع الحمل على اللفظ والحمل على المعنى. {كان} حمل على اللفظ، ولو حمل على المعنى لقال: كانوا. {هوداً أو نصارى} حمل على المعنى، ولو حمل على اللفظ لقال: إلا من كان هائداً أو نصرانياً. 3: وقوله تعالى: {بلى من أسلم وجهه لله وهو محسن فله أجره عند ربه ولا خوف عليهم ولا هم يحزنون} فصدر الآية حمل على اللفظ، وخاتمتها حمل على المعنى. 4: وقوله تعالى: {أَفَمَنْ كَانَ عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّهِ كَمَنْ زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ وَاتَّبَعُوا أَهْوَاءَهُمْ (14)} {زين له} حمل على اللفظ، و{اتبعوا} حمل على المعنى. 5: وقوله تعالى: { كَمَنْ هُوَ خَالِدٌ فِي النَّارِ وَسُقُوا مَاءً حَمِيمًا فَقَطَّعَ أَمْعَاءَهُمْ (15)} {خالد} حمل على اللفظ {وسقوا} حمل على المعنى. 6: وقوله تعالى: {وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ وَيَعْمَلْ صَالِحًا يُكَفِّرْ عَنْهُ سَيِّئَاتِهِ وَيُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (9)}{خالدين} حمل على المعنى، وما قبلها حمل على اللفظ. فهذه أمثلة الجمع والإفراد، وأما التذكير والتأنيث فمن أمثلته قول الله تعالى: {ومَن يَقْنُتْ مِنكُنَّ لِلَّهِ ورَسُولِهِ وتَعْمَلْ صَالِحًا} {يقنت} حمل على اللفظ و{تعمل} حمل على المعنى. وقرأ حمزة والكسائي: {ويعمل صالحاً} بالحمل على اللفظ. وقرأ روح وزيد عن يعقوب في الشواذ: [ ومن تقنت ] بالحمل على المعنى. - قال أبو حيان في ارتشاف الضرب: (إذا حملت تارة على اللفظ وتارة على المعنى، وسبق الحمل على اللفظ؛ فلا خلاف في جوازه وحسنه وكثرته). - وقال الأستاذ محمد عبد الخالق عضيمة في دراساته: (إذا اجتمع الحملان: الحمل على اللفظ، والحمل على المعنى، بدئ بالحمل على اللفظ، هذا هو الشائع المستفيض في القرآن). وقد يقع في القرآن حمل على اللفظ ثم حمل على المعنى ثم رجوع إلى الحمل على اللفظ ومن أمثلته: 1: قول الله تعالى: {وَقَالُوا مَا فِي بُطُونِ هَذِهِ الْأَنْعَامِ خَالِصَةٌ لِذُكُورِنَا وَمُحَرَّمٌ عَلَى أَزْوَاجِنَا} - مضمر ما بعد (ما) وقدّر بـ(استقرّ) حمل على اللفظ. - و{خالصة} حمل على المعنى. - و{محرم} حمل على اللفظ. 2: وقول الله تعالى: {وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ وَيَعْمَلْ صَالِحًا يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا قَدْ أَحْسَنَ اللَّهُ لَهُ رِزْقًا (11)} وقد يقع حمل على اللفظ ثم على المعنى ثم على اللفظ ثم على المعنى، ومن أمثلته: 1: قول الله تعالى: {قُلْ هَلْ أُنَبِّئُكُمْ بِشَرٍّ مِنْ ذَلِكَ مَثُوبَةً عِنْدَ اللَّهِ مَنْ لَعَنَهُ اللَّهُ وَغَضِبَ عَلَيْهِ وَجَعَلَ مِنْهُمُ الْقِرَدَةَ وَالْخَنَازِيرَ وَعَبَدَ الطَّاغُوتَ أُولَئِكَ شَرٌّ مَكَانًا وَأَضَلُّ عَنْ سَوَاءِ السَّبِيلِ (60)} 2: وقول الله تعالى: {وَمَنْ يَعْشُ عَنْ ذِكْرِ الرَّحْمنِ نُقَيِّضْ لَهُ شَيْطاناً فَهُوَ لَهُ قَرِينٌ (36) وَإِنَّهُمْ لَيَصُدُّونَهُمْ عَنِ السَّبِيلِ وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ مُهْتَدُونَ (37) حَتَّى إِذَا جَاءَنَا قَالَ يَالَيْتَ بَيْنِي وَبَيْنَكَ بُعْدَ الْمَشْرِقَيْنِ فَبِئْسَ الْقَرِينُ (38) وَلَنْ يَنْفَعَكُمُ الْيَوْمَ إِذْ ظَلَمْتُمْ أَنَّكُمْ فِي الْعَذَابِ مُشْتَرِكُونَ (39)} فالآية الأولى الحمل فيها على اللفظ، والآية الثانية على المعنى، والآية الثالثة على اللفظ، والآية الرابعة على المعنى. |
اختلاف القراءات في الحمل
إن قيل: أيّهما أبلغ الحمل على اللفظ أو الحمل على المعنى؟ فالجواب: أنّ ذلك يختلف بحسب السياق والغرض البياني؛ فقد يكون الحمل على اللفظ أبلغ في موضع، ويكون الحمل على المعنى أبلغ في موضع آخر. وقد يجتمع في موضع واحد بلاغة الحمل على اللفظ باعتبار، والحمل على المعنى باعتبار آخر. ومن ذلك ما اختلفت فيه القراءات في هذا الباب؛ فإنّ مما نعتقده أنّه لا يقع في القرآن اختيار لفظ على لفظ، ولا تركيب على تركيب، ولا أسلوب على أسلوب؛ إلا والذي اختاره الله أحسن وأبلغ. فإذا اختلفت القراءات؛فيكون لكل اختيار اعتبار اقتضى تفضيله. ومن أمثلة ذلك: 1: ما تقدّم ذكره في قول الله تعالى: {ومن يقنت منكن لله ورسوله وتعمل صالحاً} قرأ الجمهور تعمل بالتاء حملاً على المعنى. وقرأ حمزة والكسائي "يعمل" بالياء حملاً على اللفظ. 2: وقول الله تعالى: { هَذَا فَلْيَذُوقُوهُ حَمِيمٌ وَغَسَّاقٌ (57) وَآخَرُ مِنْ شَكْلِهِ أَزْوَاجٌ (58)} قرأ الجمهور {وآخر} بالحمل على اللفظ، وقرأ أبو عمر {وأُخَر} بالجمع حملاً على المعنى. 3: وقول الله تعالى: {ما كان لنبي أن يكون له أسرى} قرأ الجمهور: {أن يكون} بالياء حملاً على اللفظ. وقرأ أبو عمرو ويعقوب: {أن تكون} بالتاء حملاً على المعنى. |
المعاني البيانية للحمل على اللفظ والحمل على المعنى
المعاني البيانية للحمل على اللفظ والحمل على المعنى في غاية اللطف، ولذلك عزَّ من يتعرّض لها من المفسّرين، وطالب العلم بحاجة إلى ما يفتح له باب اللطائف البيانية لتنوّع أغراض الحمل على اللفظ والحمل على المعنى في القرآن الكريم، ويدرس أمثلة لها؛ ليكتسب أصلاً ينفعه في هذه المسائل. فأقول: إن الأصل في الكلام الحمل على اللفظ؛ وقد يُخرج منه إلى الحمل على المعنى لأغراض بيانية، وكذلك اختيار الإبقاء على الحمل على اللفظ في القرآن مع جواز العدول عنه إلى الحمل على المعنى يفيد معاني بيانية معتبرة بناء على ما تقرر من أصل اختيار الله تعالى لأحسن العبارات في القرآن الكريم وإحكامه آياته غاية الإحكام. وقد يجتمع في موضع واحد أغراض متعددة، فيتفاوت أهل العلم في استخراجها والبيان عنها. ومن أصول هذا الباب أن اختيار الحمل على المعنى يفيد التنبيه على استحضار قوّة المعنى غالباً؛ ثمّ تتنوّع هذه المعاني في كلّ مثال بحسبه. ففي قول الله تعالى:{بلى من أسلم وجهه لله وهو محسن فله أجره عند ربه ولا خوف عليهم ولا هم يحزنون} {فله أجره} حمل على اللفظ، يفيد تحقق الجزاء لكلّ من قام بالشرط لا يخاف من فوات جزائه مزاحمة أحد ولا مغالبته. {ولا خوف عليهم ولا هم يحزنون} حمل على المعنى يفيد كثرتهم، واستئناسهم بأمانهم من الخوف والحزن، وهذا من تمام النعمة عليهم. وعلى هذا النوع أمثلة كثيرة في القرآن الكريم. وقال تعالى: {ما تسبق من أمّة أجلها وما يستأخرون} في سورتي الحجر والمؤمنون. {أجلها} حمل على اللفظ {وما يستأخرون} حمل على المعنى فأفاد هذا التنوّع بيان توقيتين توقيت أممي لكلّ أمّة، وتوقيت فردي لكلّ فرد؛ وهذا أقوى في الدلالة على إحكام الآجال على التفصيل والإجمال. فإتباع الحمل على اللفظ بالحمل على المعنى جار مجرى التفصيل بعد الإجمال، ولئلا يظنّ ظانّ أن التوقيت لكلّ أمّة قد يتخلّف عنه فرد من أفرادها؛ فانتظمت الآية الدلالة على التوقيت في اتساق عجيب لطيف. وهذا المعنى له نظائر في القرآن الكريم كما في قول الله تعالى في سورة الأعراف: {وَلِكُلِّ أُمَّةٍ أَجَلٌ فَإِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ لَا يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلَا يَسْتَقْدِمُونَ (34)} وقال تعالى في سورة يونس: { قُلْ لَا أَمْلِكُ لِنَفْسِي ضَرًّا وَلَا نَفْعًا إِلَّا مَا شَاءَ اللَّهُ لِكُلِّ أُمَّةٍ أَجَلٌ إِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ فَلَا يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلَا يَسْتَقْدِمُونَ (49)} وقد يفيد الحمل على اللفظ أو الحمل على المعنى موافقة فواصل الآيات، وهذا سبب يرى بعض أهل العلم أنه لا يستقلّ بالحكمة، ومنهم من يراه سبباً كافياً لأن مراعاة الفواصل بما لا يحصل به إخلال بالمعنى أو تقصير فيه كمال إضافي. ومن أمثلة ما تحققت فيه مراعاة الفواصل قول الله تعالى: { فَإِذَا النُّجُومُ طُمِسَتْ (8) وَإِذَا السَّمَاءُ فُرِجَتْ (9) وَإِذَا الْجِبَالُ نُسِفَتْ (10) وَإِذَا الرُّسُلُ أُقِّتَتْ (11) لِأَيِّ يَوْمٍ أُجِّلَتْ (12)} ففي قوله تعالى: {أقتت} حمل على اللفظ مع جواز أن يقول أقتوا في العربية فيحمل على المعنى، لكن إيثار الحمل على اللفظ هنا فيه فائدتان: الأولى: موافقة فواصل الآيات. والثانية: ليكون معنى (أجّلت) شاملاً لكل ما تقدّم؛ فيصحّ انتظام الجميع في ضمير واحد. |
أمثلة على لطائف الحمل على اللفظ والحمل على المعنى المثال الأول: قول الله تعالى: {تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (13) وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَتَعَدَّ حُدُودَهُ يُدْخِلْهُ نَارًا خَالِدًا فِيهَا وَلَهُ عَذَابٌ مُهِينٌ (14)} في قول الله تعالى: {يدخله جنات} حمل على اللفظ؛ ومن فوائده أنّه أدلّ على التنبيه على جزاء كلّ مؤمن بعمله؛ وأنه ينظر في عمل كلّ عامل منفرداً عن غيره؛ لا يذهب بعضهم بجزاء بعض كما يكون في جوائز الملوك والعظماء في الدنيا؛ بل لكلّ عامل جزاؤه الذي يستقل به؛ فينال المؤمن المطيع لله ورسوله جزاءه بدخول الجنة، وينال العاصي المتعدّي لحدود الله جزاءه بدخول النار. وفي قول الله تعالى: {خالدين فيها} حمل على المعنى؛ باعتبار تعدد الداخلين وكثرتهم، ولما يشعر به اللفظ من اكتمال الأنس باجتماع المؤمن بأحبابه وإخوانه المؤمنين، وأن دخوله للجنة لا يقتضي توحّده فيها. وفي قول الله تعالى في شأن العصاة الكفار: {خالداً فيها} حمل على اللفظ جرياً على الأصل، وتأكيداً على فردية الحساب والجزاء، وتنبيهاً على أنّ الكافر يعذّب بالوحدة مع ما يصيبه من العذاب الأليم في جسده؛ فيجتمع له العذاب الحسي والعذاب النفسي، والعياذ بالله. |
المثال الثاني: قول الله تعالى: {وَالَّذِي خَلَقَ الْأَزْوَاجَ كُلَّهَا وَجَعَلَ لَكُمْ مِنَ الْفُلْكِ وَالْأَنْعَامِ مَا تَرْكَبُونَ (12) لِتَسْتَوُوا عَلَى ظُهُورِهِ ثُمَّ تَذْكُرُوا نِعْمَةَ رَبِّكُمْ إِذَا اسْتَوَيْتُمْ عَلَيْهِ}
ذكر الله تعالى من مننه على عباده ما خلق لهم من أنواع الأزواج كلها، من أنفسهم ومن الحيوانات والنباتات وغيرها. ثم قال: {وجعل لكم من الفلك والأنعام ما تركبون} "جعل" تأتي بمعنى خلق وبمعنى صيَّر، وإيثار هذا اللفظ لصلاحيته للمعنيين ولجنسَي الفلك والأنعام. ولذلك لمّا أفرد الأنعام في جملة مستقلة في سورة يس ذكر لفظ الخلق؛ فقال تعالى: {وآية لهم أنّا حملنا ذريتهم في الفلك المشحون . وخلقنا لهم من مثله ما يركبون} و(ما) اسم موصول يصلح للمفرد والجمع والمذكر والمؤنث، وهو مذكّر لفظاً. (وظهور) بالجمع حمل على المعنى لتعدّد ما يُركب، والظهر هنا يعمّ الظهر المخلوق من الأنعام، والمصنوع من الفلك؛ فانتظمهما اسم الظهر انتظاماً بديعاً. وقال: {ما تركبون} فأخلي الفعل من التعدية ليصلح لركوب الفلك والأنعام؛ فإن ركوب الفلك يعدَّى بفي كما في قول الله تعالى: {وقال اركبوا فيها} أو بنفسه. وركوب الأنعام يُعدّى بنفسه كما في قول الله تعالى: {لتركبوها} وبعلى كما يقال: ركبت على البعير. والضمير المفرد في قوله تعالى: {على ظهوره} حمل على اللفظ، ويراد به الجنس، أي على ظهور ما يركبون. قال أبو عبيدة معمر بن المثنى: ({لتستووا على ظهوره}: " التذكير لـ " ما "). فاجتمع في كلمة واحدة الحمل على اللفظ والحمل على المعنى؛ فجمع "الظهور" حمل على المعنى، وإفراد الضمير حمل على اللفظ. وجمع الظهور هنا أعظم دلالة على كثرة الإنعام بما جعل الله لنا مما نركب من الفلك والأنعام. وإفراد الضمير أدل على كمال الرعاية لكل راكب بما يناسبه وأنه ينتقي منها، ويدلّ على كثرة المركوبات بما لا تستغرقه حاجة البشر؛ فمهما ركبوا فيبقى من المركوبات ما ليس بمركوب، وهذا ما لا يدل عليه جمع الضمير لو قال: على ظهورها. {ثم تذكروا نعمة ربكم إذا استويتم عليه} حمل على اللفظ، وهو تذكير "ما" تذكيراً لفظياً. |
المثال الثالث: قول الله تعالى: {وَإِذا غَشِيَهُمْ مَوْجٌ كَالظُّلَلِ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ فَلَمَّا نَجَّاهُمْ إِلَى الْبَرِّ فَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ وَما يَجْحَدُ بِآياتِنا إِلاَّ كُلُّ خَتَّارٍ كَفُورٍ (32)}
{فلما نجاهم} موافق للضمير في غشيهم ودعوا، والجمع في مخلصين؛ وهو دالّ على الكثرة. وقوله تعالى: {فمنهم مقتصد} حمل على المعنى بتقدير فصنف منهم مقتصد، والحمل هنا على المعنى أبلغ لأنه أدلّ على قلّتهم ، ولو حمل على اللفظ لقال: فمنهم مقتصدون. فجرى هذا التركيب مجرى استثناء القليل من الكثير. |
أمثلة من أقوال العلماء قال الله تعالى: {مَنْ يَهْدِ اللَّهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِي وَمَنْ يُضْلِلْ فَأُولئِكَ هُمُ الْخاسِرُونَ (178)} - قال الزمخشري: ( {فَهُوَ الْمُهْتَدِي} حمل على اللفظ. و{فَأُولئِكَ هُمُ الْخاسِرُونَ} حمل على المعنى). - قال البيضاوي: ( تصريح بأن الهدى والضلال من الله، وأن هداية الله تختص ببعض دون بعض، وأنها مستلزمة للاهتداء، والإِفراد في الأول والجمع في الثاني باعتبار اللفظ والمعنى تنبيه على أن المهتدين كواحد لاتحاد طريقهم بخلاف الضالين، والاقتصار في الإِخبار عمن هداه الله بالمهتدي تعظيم لشأن الاهتداء، وتنبيه على أنه في نفسه كمال جسيم ونفع عظيم لو لم يحصل له غيره لكفاه وأنه المستلزم للفوز بالنعم الآجلة والعنوان لها). قال الله تعالى: {وَقَالُوا مَا فِي بُطُونِ هَذِهِ الْأَنْعَامِ خَالِصَةٌ لِذُكُورِنَا وَمُحَرَّمٌ عَلَى أَزْوَاجِنَا وَإِنْ يَكُنْ مَيْتَةً فَهُمْ فِيهِ شُرَكَاءُ سَيَجْزِيهِمْ وَصْفَهُمْ إِنَّهُ حَكِيمٌ عَلِيمٌ (139)} - قال أبو حيان الأندلسي (ت:745هـ): ({وقالوا ما في بطون هذه الأنعام خالصة لذكورنا ومحرم على أزواجنا} الذي في بطونها: هو "الأجنة" قاله السدي. وقال الزمخشري: (كانوا يقولون في أجنة البحائر والسوائب ما ولد منها حيا فهو خالص لذكورنا ولا تأكل منه الإناث، وما ولد ميتا اشترك فيه الذكور والإناث). وقال ابن عباس وقتادة والشعبي: (الذي في بطونها هو "اللبن"). وقال الطبري: (اللفظ يعم الأجنة واللبن)انتهى. والظاهر الأجنة؛ لأنها التي في البطن حقيقة، وأما اللبن ففي الضرع لا في البطن إلا بمجاز بعيد. وقرأ عبد الله وابن جبير وأبو العالية والضحاك وابن أبي عبلة: "خالص" بالرفع بغير تاء وهو خبر ما، ولذكورنا متعلق به. وقرأ ابن جبير فيما ذكر ابن جني "خالصا" بالنصب بغير تاء، وانتصب على الحال من الضمير الذي تضمنته الصلة أو على الحال من ما على مذهب أبي الحسن في إجازته تقديم الحال على العامل فيها انتهى ملخصا. ويعني بقوله: على الحال من ما؛ أي: من ضمير ما الذي تضمنه خبر ما وهو "لذكورنا"؛ ويعني بقوله: في إجازته إلى آخره على العامل فيها إذا كان ظرفا أو مجرورا، نحو: زيد قائما في الدار، وخبر ما على هذه القراءة هو لذكورنا. وقرأ ابن عباس والأعرج وقتادة وابن جبير أيضا "خالصة" بالنصب وإعرابها كإعراب "خالصا" بالنصب، وخرَّج ذلك الزمخشري على أنه مصدر مؤكد كالعافية. وقرأ ابن عباس أيضا وأبو رزين وعكرمة وابن يعمر وأبو حيوة والزهري {خالصة} على الإضافة، وهو بدل من ما أو مبتدأ خبره لذكورنا والجملة خبر ما. وقرأ الجمهور: {خالصةٌ} بالرفع وبالتاء، وهل التاء للمبالغة كراوية أو حملا على معنى ما؛ لأنها أجنة والعام أو هو مصدر يبنى على فاعلة كالعافية والعافية؛ أي؛ ذو خلوص؟ أقوال؟ وكان قد سبق لنا أن شيخنا علم الدين العراقي -رحمه الله- ذكر أنه لم يوجد في القرآن حمل على المعنى أولا ثم حمل على اللفظ بعده إلا في هذه الآية، ووعدنا أن نحرر ذلك في مكان وما ذكره قاله مكي، قال: (الآية في قراءة الجماعة أتت على خلاف نظائرها في القرآن؛ لأن كل ما يحمل على اللفظ مرة وعلى المعنى مرة إنما يبتدأ أولا بالحمل على اللفظ، ثم يليه الحمل على معنى نحو من آمن بالله) ثم قال: {فلهم أجرهم} هكذا يأتي في القرآن وكلام العرب. وهذه الآية تقدم فيها الحمل على المعنى فقال: {خالصة} ثم حمل على اللفظ فقال: {ومحرم} ومثله: {كل ذلك كان سيئةً} في قراءة نافع ومن تابعه فأنَّث على معنى كل؛ لأنها اسم لجمع ما تقدم مما نهي عنه من الخطايا، ثم قال: {عند ربك مكروها} فذكَّر على لفظ كل، وكذلك ما تركبون لتستووا على ظهوره حملا على ما، ووحد الهاء حملا على لفظ ما. وحكي عن العرب (هذا الجراد قد ذهب فأراحنا من أنفسه) جمع الأنفس ووحد الهاء وذكرها. انتهى. وفيه بعض تلخيص. ومن ذهب إلى أن الهاء للمبالغة أو التي في المصدر كالعافية فلا يكون التأنيث حملا على معنى ما، وعلى تسليم أنه حمل على المعنى فلا يتعين أن يكون بدأ أولا بالحمل على المعنى ثم بالجمل على اللفظ؛ لأن صلة ما متعلقة بفعل محذوف وذلك الفعل مسند إلى ضمير ما، ولا يتعين أن يكون. وقالوا: ما استقرت في بطون الأنعام، بل الظاهر أن يكون التقدير ما استقر فيكون حمل أولا على التذكير ثم ثانيا على التأنيث، وإذا احتمل هذا الوجه وهو الراجح لم يكن دليلا على أنه بدأ بالحمل على التأنيث أولا ثم بالحمل على اللفظ. وقول مكي هكذا يأتي في القرآن وكلام العرب، أما القرآن فكذلك هو، وأما كلام العرب فجاء فيه الحمل على اللفظ أولا ثم على المعنى وهو الأكثر وجاء الحمل على المعنى أولا ثم على اللفظ. وأما قوله: ومثله كل ذلك كان سيئة فليس مثله، بل حمل أولا على اللفظ في قوله: كان ألا ترى أنه أعاد الضمير مذكرا ثم على المعنى فقال: {سيئة}. وأما قوله: {وكذلك ما تركبون} فليس مثله؛ لأنه يحتمل أن يكون التقدير ما تركبونه فيكون قد حمل أولا على اللفظ ثم على المعنى في قوله: {ظهوره} ثم على اللفظ في إفراد الضمير. وأما هذا الجراد قد ذهب فقد حمل أولا على إفراد الضمير على اللفظ ثم جمع على المعنى ثم على اللفظ في إفراد الضمير. ومعنى لأزواجنا: لنسائنا؛ أي: معدة أن تكون أزواجا قاله مجاهد، وقال ابن زيد: لبناتنا. {وإن يكن ميتة فهم فيه شركاء} كانوا إذا خرج الجنين ميتا اشترك في أكله الرجال والنساء، وكذلك ما مات من الأنعام الموقوفة نفسها. وقرأ أبو بكر: وإن تكن بتاء التأنيث {ميتة} بالنصب؛ أي: وإن تكن الأجنة التي تخرج ميتة. وقرأ ابن كثير: ({وإن يكن ميتةٌ} بالتذكير وبالرفع على كان التامة وأجاز الأخفش أن تكون الناقصة، وجعل الخبر محذوفا التقدير وإن تكن في بطونها ميتة وفيه بعد). وقال الزمخشري: (وقرأ أهل مكة "وإن تكن ميتة" بالتأنيث والرفع) انتهى. فإن عنى ابن كثير فهو وهم وإن عنى غيره من أهل مكة فيمكن أن يكون نقلا صحيحا، وهذه القراءة التي عزاها الزمخشري لأهل مكة هي قراءة ابن عامر. وقرأ باقي السبعة {وإن يكن} التذكير {ميتةً} بالنصب على تقدير "وإن يكن ما في بطونها ميتة". قال أبو عمرو بن العلاء: (ويقوي هذه القراءة قوله: {فهم فيه شركاء} ولم يقل "فيها") انتهى. وهذا ليس بجيد؛ لأن الميتة لكل ميت ذكرا كان أو أنثى فكأنه قيل: "وإن يكن ميتا فهم فيه شركاء". وقرأ يزيد: "ميتة" بالتشديد. وقرأ عبد الله "فهم فيه سواء"). قال الله تعالى: {وَمَن يُؤْمِن بِاللهِ وَيَعْمَلْ صَالِحًا يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا قَدْ أَحْسَنَ اللَّهُ لَهُ رِزْقًا} - قال الدكتور فاضل بن صالح السامرائي: (وغالبا ما يكون الحمل على المعنى بعد الحمل على اللفظ للدلالة على المقصود أهو مفرد أم جمع؟ مذكر أم مؤنث؟ فهو من قبيل البيان بعد الإبهام. وقد يكون لغرض آخر وذلك نحو قوله تعالى: {وَمَن يُؤْمِن بِاللهِ وَيَعْمَلْ صَالِحًا يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا قَدْ أَحْسَنَ اللَّهُ لَهُ رِزْقًا}. فقد حمل على اللفظ أولاً فقال: {وَمَن يُؤْمِن بِاللهِ} ثم حمل على المعنى فقال: {خَالِدِينَ فِيهَا} للدلالة على أن قوله: {وَمَن يُؤْمِن بِاللهِ} ليس واحداً بل هم جمع من المؤمنين. هذا من ناحية، ومن ناحية أخرى إن الجمع هنا أولى من الإفراد لأمر آخر وهو الزيادة في الإتمام ذلك أن الاجتماع أدنى للشعور بالأنس والسعادة بخلاف الوحدة فإنها مملة قاتلة. ثم عاد إلى الإفراد فقال: {قَدْ أَحْسَنَ اللَّهُ لَهُ رِزْقًا} للدلالة على رعاية كل فرد بعينه وأن الفرد لا يضيع في غمرة الكثرة فينسى. فقد تقول: (أعد فلان لأهل بلده مأدبة فاخرة ورزقاً حسناً وكانوا خلقاً لا يحصى)، وفي مثل هذا العدد الكثير قد ينال أحدهم ما لا ينال الآخر بل قد لا ينال بعضهم شيئا لزحمة الاجتماع. فالجمع في {خَالِدِينَ} أولى والإفراد في {أَحْسَنَ اللَّهُ لَهُ رِزْقًا} أولى). |
تطبيقات الدرس السابع عشر:
بيّن اللطائف البيانية للحمل على اللفظ والحمل على المعنى في الآيات التاليات: 1: قول الله تعالى: { قُلْنَا اهْبِطُوا مِنْهَا جَمِيعًا فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدًى فَمَنْ تَبِعَ هُدَايَ فَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ (38)} 2: قول الله تعالى: { وَمَنْ يَرْتَدِدْ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَيَمُتْ وَهُوَ كَافِرٌ فَأُولَئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (217)} 3: قول الله تعالى: {وَمَنْ كَفَرَ فَلَا يَحْزُنْكَ كُفْرُهُ إِلَيْنَا مَرْجِعُهُمْ فَنُنَبِّئُهُمْ بِمَا عَمِلُوا إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ (23)} 4: قول الله تعالى: {فَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا وَمَا لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ خَلَاقٍ (200) } 5: قول الله تعالى: {أَفَمَنْ كانَ مُؤْمِناً كَمَنْ كانَ فاسِقاً لا يَسْتَوُونَ (18)} |
الساعة الآن 02:13 AM |
Powered by vBulletin® Copyright ©2000 - 2024, Jelsoft Enterprises Ltd. TranZ By
Almuhajir