معهد آفاق التيسير للتعليم عن بعد

معهد آفاق التيسير للتعليم عن بعد (http://afaqattaiseer.net/vb/index.php)
-   منتدى المستوى الخامس (http://afaqattaiseer.net/vb/forumdisplay.php?f=887)
-   -   تسجيل الحضور اليومي بفوائد علمية مما يدرس في الأسبوع العاشر (http://afaqattaiseer.net/vb/showthread.php?t=39176)

هيئة الإدارة 5 محرم 1440هـ/15-09-2018م 02:38 AM

تسجيل الحضور اليومي بفوائد علمية مما يدرس في الأسبوع العاشر
 
تسجيل الحضور اليومي بفوائد علمية مما يدرس في
(الأسبوع العاشر)

*نأمل من طلاب المستوى الثالث الكرام أن يسجلوا حضورهم اليومي هنا بذكر فوائد علمية مما درسوه في ذلك اليوم، وسيبقى هذا الموضوع مفتوحاً إلى صباح يوم السبت.

صلاح الدين محمد 5 محرم 1440هـ/15-09-2018م 11:57 AM

(بابُ: مِنَ الشِّرْكِ النَّذْرُ لِغَيْرِ اللهِ) أيْ: لِكَوْنِهِ عِبادةً يَجِبُ الوَفاءُ بِه إِذا نَذَرَه للهِ؛ فَيَكُونُ النَّذْرُ لِغيرِ اللهِ تَعالى شِرْكًا في العِبادةِ.

محمد عبد الرازق 5 محرم 1440هـ/15-09-2018م 03:52 PM

الله تعالى أخبر بأن ما أنفقناه من نفقة أو نذرناه من نذر، متقربين بذلك إليه، أنه يعلمه ويجازينا عليه؛ فدل ذلك على أنه عبادة.
ومن صرف شيئا من أنواع العبادة لغير الله فقد أشرك.

صلاح الدين محمد 6 محرم 1440هـ/16-09-2018م 11:13 AM

الاسْتِعَاذةُ: الالْتِجَاءُ والاعْتِصَامُ، ولِهَذا يُسَمَّى المُسْتَعَاذُ بِهِ: مَعاذًا ومَلْجَأً، فَالعَائِذُ بِاللهِ قدْ هَرَبَ مِمَّا يُؤْذِيهِ أوْ يُهْلِكُهُ، إلَى رَبِّه ومَالِكِهِ؛ واعْتَصَمَ بِهِ واسْتَجَارَ والْتَجَأَ إليْه؛ وهَذا تَمْثِيلٌ، وإلاَّ فيما يَقُومُ بِالقَلْبِ مِنَ الالْتِجَاءِ إلَى اللهِ؛ والاعتِصامِ بِهِ، والاطِّرَاحِ بَيْنَ يَدَي الرَّبِّ، والافتِقَارِ إليْهِ؛ والتَّذَلُّلِ لهُ، أَمْرٌ لا تُحِيطُ بِهِ العِبارةُ، قالَه ابْنُ القَيِّمِ رَحِمَه اللهُ.

صلاح الدين محمد 6 محرم 1440هـ/16-09-2018م 11:15 AM

وقالَ شَيْخُ الإِسْلامِ: (وقدْ نَصَّ الأئِمَّةُ - كأحمدَ وغيرهِ - عَلَى أنَّهُ لا تَجُوزُ الاسْتِعَاذَةُ بِمَخْلُوقٍ، وهذا مِمَّا اسْتَدَلُّوا بهِ عَلَى أنَّ كلامَ اللهِ غيرُ مَخلُوقٍ، قالُوا: لأنَّهُ ثَبَتَ عن النبيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أنَّهُ اسْتَعَاذَ بكلماتِ اللهِ وأَمَرَ بذلكَ، ولهذا نَهَى العُلَمَاءُ عن التَّعازيمِ والتَّعَاوِيذِ التي لا يُعْرَفُ معناها؛ خَشْيَةَ أن يَكونَ فيها شِرْكٌ).

صلاح الدين محمد 7 محرم 1440هـ/17-09-2018م 09:11 AM

والفَرْقُ بَيْنَ الدُّعَاءِ والاسْتِغَاثَةِ:
أنَّ الدُّعاءَ عامٌّ في كلِّ الأحوالِ.
والاسْتغاثَةَ هي الدعاءُ للهِ في حالَةِ الشدَائِدِ

محمد عبد الرازق 8 محرم 1440هـ/18-09-2018م 01:55 AM

قوله: (الاستعاذة بغير الله) هذا الغير يشمل كل ما يتوجه الناس إليه بالشرك، ويدخل في ذلك بالأوَّلية ما كان المشركون الجاهليون يتوجهون إليه بذلك؛ من الجن، ومن الملائكة، ومن الصالحين، ومن الأشجار، والأحجار، ومن الأنبياء والرسل، إلى غير ذلك.

صلاح الدين محمد 8 محرم 1440هـ/18-09-2018م 01:20 PM

فنُعوتُ البارِي تعالَىَ وصفاتُ عَظَمَتِه وتَوَحُّدِه في الكَمَالِ المُطْلَقِ أَكْبرُ بُرْهانٍ عَلَى أَنَّه لاَ يَسْتَحِقُّ العِبادَةَ إلاَّ هو.

محمد عبد الرازق 10 محرم 1440هـ/20-09-2018م 03:52 PM

تيسير المطالعة والتجويد في دراسة كتاب التوحيد
(القسم الرابع)

- باب من الشرك النذر لغير الله
وَقَوْلِ اللهِ تَعَالَى: {يُوفُونَ بِالنَّذْر ويخَافُونَ يَومًا كانَ شَرُّهُ مُسْتَطِيرًا}[الإِنْسَان:7].
وَقَوْلِهِ: {وَمَا أَنفَقْتُم مِّن نَّفَقَةٍ أَوْ نَذَرْتُم مِّن نَّذْرٍ فَإِنَّ اللهَ يَعْلَمُهُ}[الْبَقَرَة:270].
وَفِي (الصَّحِيحِ) عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهَا أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: ((مَنْ نَذَرَ أَنْ يُطِيعَ اللهَ فَلْيُطِعْهُ، وَمَنْ نَذَرَ أَنْ يَعْصِيَ اللهَ فَلاَ يَعْصِهِ)).
فِيهِ مَسَائِلُ:
الأُولَى: وُجُوبُ الْوَفَاءِ بِالنَّذْرِ.
الثَّانِيَةُ: إِذَا ثَبَتَ كَوْنُهُ عِبَادَةً للهِ فَصَرْفُهُ إِلَى غَيْرِهِ شِرْكٌ.
الثَّالِثَةُ: أَنَّ نَذْرَ الْمَعْصِيَةِ لاَ يَجُوزُ الْوَفَاءُ بِهِ.


(1) قَالَ المُصَنِّفُ رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى: (بابُ: مِنَ الشِّرْكِ النَّذْرُ لِغَيْرِ اللهِ)
أيْ: لِكَوْنِهِ عِبادةً يَجِبُ الوَفاءُ بِه إِذا نَذَرَه للهِ؛ فَيَكُونُ النَّذْرُ لِغيرِ اللهِ تَعالى شِرْكًا في العِبادةِ.
والشرك المقصود هنا: هو الشرك الأكبر.
ووجه كون النذر لغير الله شركاً بالله جل وعلا:
- أن النذر المطلق والمقيد إيجاب عبادةٍ على المكلَّف؛ لأن النذر: هو إلزام المكلف نفسه بعبادةٍ.
-وأن الله -جل وعلا- مدح الذين يوفون بالنذر؛ فقال: {يوفون بالنذر ويخافون يوماً كان شره مستطيراً} فهذا يدل على أن الوفاء بالنذرأمر مشروع، واجب أو مستحب، وهو محبوب لله جل وعلا، يعني: من حيث الدلالة، وإلا فإن الوفاء بالنذر واجب؛ لأنه إلزام بطاعة، وقد قال عليه الصلاة والسلام: ((من نذر أن يطيع الله فليطعه)) فإذاً: الوفاء بالنذر مدح الله أهله، وإذا كان كذلك فيكون عبادة؛ لأنه محبوب لله جل وعلا.
وكذلك: قوله: {وما أنفقتم من نفقة أو نذرتم من نذر فإن الله يعلمه} هذا يدل على محبة الله -جل وعلا- لذلك الذي حصل منهم تعظيماً لله -جل وعلا- بالنذر، وإذا كان كذلك، فإنه عبادة من العبادات؛ وإذا صُرِف النذر لغير الله -جل وعلا- كان شركاً بالله جل وعلا.
وها هنا سؤال: كيف يكون النذر عبادة وقد كرهه النبي صلى الله عليه وسلم وقال عنه: "إنه لا يأتي بخير"؟
والجواب أن النذر قسمان: 1- نذر مطلق 2- ونذر مقيد.
والنذر المطلق: هو أن يُلزم العبد نفسه بعبادة لله جل وعلا،هكذا بلا قيد، يعني: يقول مثلاً: (لله عليَّ نذر أن أصلي ركعتين) ليس في مقابلة شيءٍ يحدث له في المستقبل أو شيء حدث له، فيلزم نفسه بعبادة صلاة، أو عبادة صيام، أو نحو ذلك, وليس هو الذي كرهه عليه الصلاة والسلام؛ لأن الذي كرهه وصفه بقوله: ((إنما يُستخرج به من البخيل)), وهذا هو النذر المقيد: الذي يجعل إلزام نفسه بطاعةٍ لله -جل وعلا- مقابلاً بشيءٍ يُحدثه الله -جل وعلا- له، ويقدره ويقضيه له، يقول مثلاً: (إن شفى الله مريضي، فلله علي نذر أن أتصدق بكذا وكذا) فهذا كأنه يشترط به على الله -جل وعلا-.
وذلك يستحضره كثير من العوام والذين يستعملون النذور، فإنهم يظنون أن حاجاتهم لا تحصل إلا بالنذر.
والكراهة إنما جاءت لصفة الاعتقاد، لا لصفة أصل العبادة.
وقد قال شيخ الإسلام -رحمه الله- وغيره من أهل العلم: (إن من ظن أنه لا تحصل حاجة من حاجاته إلا بالنذر فإنه اعتقاد محرم؛ لأنه ظن أن الله لا يعطي إلا بمقابل، وهذا سوء ظنٍّ بالله جل وعلا، وسوء اعتقادٍ فيه سبحانه وتعالى، بل هو المتفضل المنعم على خلقه).
وهنا قاعدة في:
أنواع الاستدلال على أن عملاً من الأعمال، صرفه لغير الله-جل وعلا- شرك أكبر:
وذلك أن الاستدلال له نوعان:
الأول: استدلال عام بكل آية، أو حديث فيها الأمر بإفراد الله بالعبادة، والنهي عن الشرك؛ فَتُدخل هذه الصورة فيها لأنها عبادة بجامع تعريف العبادة.
والثاني: أن تستدل على المسألة بخصوص ما ورد فيها من الأدلة.
فتقول: النذر لغير الله عبادة، والله -جل وعلا- نهى أن تصرف العبادة لغيره، وأن من صرف العبادة لغير الله فهو مشرك, والنذر عبادة؛ لأنه داخل في حد العبادة، حيث إنه يرضاه الله -جل وعلا- ومدح الموفين به.
والدليل الخاص: أن تستدل بخصوص ما جاء في الكتاب والسنة من الأدلة على النذر؛ولهذا الشيخ هنا أتى بالدليل التفصيلي، وفي أول الكتاب أتى بالأدلة العامة على كل مسائل العبادة.
وذلك لأن في تنويع الاستدلال، وإيراد الأدلة من جهة، ومن جهة أخرى، وثالثة، ورابعة، ما يُضعف حجة الخصوم الذين يدعون الناس لعبادة غير الله وللشرك به جل وعلا، وإذا أتيت مرة بدليل عام، ومرة بدليل خاص، ونوعت، فإنه يضيق.
-أما إذا كان ليس ثمَّ إلا دليل واحد، فربما أوَّله لك أوناقشك فيه، فيحصل ضعف عند المستدِل.
(2) قَالَ المُصَنِّفُ رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى: (وقولِه تَعَالى: {يُوفُونَ بِالنَّذْرِ وَيَخَافُونَ يَوْمًا كَانَ شَرُّهُ مُسْتَطِيرًا}[الإنسان:7]).
فالآيَةُ دَلَّتْ علَى وُجوبِ الوَفاءِ بِالنَّذْرِ، ومَدْحِ مَن فَعَلَ ذلكَ طاعةً للهِ، ووَفَاءً بِمَا تَقَرَّبَ بِه إلَيْه, ودل ذلك على أن هذه العبادة محبوبة لله تعالى وأنها مشروعة, وما كان كذلك من العبادات فصرفه لغير الله شرك أكبر.
(3) قَالَ المُصَنِّفُ رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى: (وقَوْلُه: {وَمَا أَنفَقْتُم مِّن نَّفَقَةٍ أَوْ نَذَرْتُم مِّن نَّذْرٍ فَإِنَّ اللهَ يَعْلَمُهُ}[البقرة:270]).
هذا دال على أن النذر عظّمه الله -جل وعلا- بقوله: {فإن الله يعلمه} وعظم أهله، وهذا يدل على أن الوفاء به عبادة محبوبة لله جل وعلا, وتَضَمَّنَ ذلكَ مُجَازَاتَه عَلَى ذَلكَ أَوْفَرَ الجَزاءِ للعامِلِينَ ابْتَغَاءَ وَجْهِهِ –سبحانه-.
- قالَ شَيْخُ الإسْلامِ:(وأمَّا ما نُذِرَ لغيرِ اللهِ، كالنَّذْرِ للأَصْنَامِ والشمْسِ والقَمَرِ والقُبورِ ونَحْوِ ذَلكَ، فَهُوَ بِمَنْـِزلَةِ أَنْ يُحْلَفَ بِغيـرِ اللهِ مِنَ المَخْلُوقاتِ.
والحَالِفُ بالمَخْلوقاتِ لا وَفَاءَ عَلَيْه ولا كَفَّارةَ، وكَذلكَ النَّاذِرُ للمَخْلوقاتِ؛ فإنَّ كَلَيْهِما شِرْكٌ لَيْسَ له حُرْمَةٌ، بَلْ عليه أنْ يَسْتَغْفِرَ اللهَ مِن هَذا، ويَقولَ ما قالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ((مَنْ حَلَفَ باللاََّتِ وَالعُزَّى فَلْيَقُلْ لا إِلَهَ إِلاَّ اللهُ)) ).
وقالَ فيمَن نَذَرَ للقُبورِ ونحوِها دُهْنًا لِتُنَوَّرَ بهِ، ويَقولُ: (إنَّها تَقْبَلُ النَّذْرَ) كما يَقُولُه بعْضُ الضَّالِّينَ: (وَهَذا النَّذْرُ مَعصيةٌ بِاتِّفَاقِ المُسْلِمِينَ لا يَجُوزُ الوَفَاءُ بهِ، وكَذلكَ إِذا نَذَرَ مَالاً للسَّدَنَةِ أوِ المُجَاوِرينَ العاكِفينَ بِتِلكَ البُقْعَةِ، فإنَّ فِيهِم شَبَهًا مِنَ السَّدَنَةِ التِي كانَتْ عِنْدَ اللاتِ والعُزَّى ومَنَاةَ، يَأْكُلُونَ أمْوَالَ النَّاسِ بالباطِلِ، ويَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللهِ، والمُجاوِرونَ هُنَاكَ فيهِم شَبَهٌ مِنَ الذِينَ قَالَ فيهِمُ الخَلِيلُ عليهِ السَّلامُ: {مَا هَـذِهِ التَّمَاثِيلُ الَّتِي أَنتُمْ لَهَا عَاكِفُونَ}[الأنبياء:52]، والذِينَ اجْتَازَ بِهم مُوسَى عليهِ السلامُ وقَوْمُهُ، قالَ تَعالى: {وَجَاوَزْنَا بِبَنِي إِسْرَائِيلَ الْبَحْرَ فَأَتَوْا عَلَى قَوْمٍ يَعْكُفُونَ عَلَى أَصْنَامٍ لَّهُمْ}[الأَعْرَاف:138] فالنَّذْرُ لأُولَئِكَ السَّدَنَةِ والمُجاوِرينَ فِي هَذه البِقاعِ نَذْرُ مَعصيةٍ، وَفِيه شَبَهٌ مِنَ النذرِ لسَدَنةِ الصُّلْبَانِ والمُجَاوِرينَ عندَها، أوْ لِسَدنةِ الأَبْدَادِ التي فِي الْهِنْدِ والْمُجاوِرينَ عِندَها).
- وقالَ الأَذْرُعِيُّ فِي (شَرْحِ المِنَهاجِ):(وأمَّا النَّذْرُ لِلمَشَاهِدِ التِي علَى قَبْرِ وَلِيٍّ، أوْ شَيْخٍ، أوْ عَلَى اسْمِ مَنْ حَلَّها مِنَ الأَوْلِيَاءِ، أوْ تَرَدَّدَ فِي تِلكَ البُقْعَةِ مِنَ الأوْلِيَاءِ والصالِحِينَ فإنْ قَصَدَ النَّاذِرُ بِذلكَ -وهُو الْغالِبُ أوِ الوَاقِعُ مِن قُصُودِ العامَّةِ- تَعْظِيمَ البقعةَ والمَشْهَدِ، أوِ الزَّاوِيَةِ، أوْ تَعْظِيمَ مَن دُفِنَ بِها أوْ نُسِبَتْ إليْه أوْ بُنِيَتْ علَى اسْمِهِ، فَهذا النَّذْرُ باطِلٌ غَيرُ مُنْعَقِدٍ؛ فإنَّ مُعْتَقَدَهُم أنَّ لِهذهِ الأَمَاكِنِ خُصُوصِيَّاتٍ، ويَرَوْنَ أنَّها مِمَّا يُدْفَعُ بِها البَلاءُ ويُسْتَجْلَبُ بِها النَّعْمَاءُ، ويُسْتَشْفَى بالنذرِ لَها مِنَ الأَدْوَاءِ، حتَّى إنَّهمْ يَنْذِرُونَ لِبَعضِ الأَحْجَارِ لَمَّا قِيلَ: إنَّه اسْتَنَدَ إليْها عَبْدٌ صالِحٌ، ويَنْذِرونَ لِبَعضِ القُبورِ السُّرُجَ والشُّمُوعَ والزَّيْتَ، ويَقُولونَ: القَبْرُ الفُلاَنِيُّ أو الْمَكَانُ الفُلاَنِيُّ يَقْبَلُ النَّذْرَ).
يَعْنُونَ بِذلكَ أَنَّهُ يَحْصُلُ بِه الغَرَضُ المَأْمُولُ مِن شِفاءِ مَرِيضٍ،أو نحو ذلك, فَهذا النَّذْرُ علَى هَذا الْوَجْهِ باطِلٌ لا شَكَّ فِيهِ، بَلْ نَذْرُ الزيْتِ والشَّمْعِ ونَحْوِهما للقُبُورِ باطِلٌ مُطْلَقًا.
- وقالَ الشَّيْخُ قَاسِمٌ الحَنَفِيُّ ما معناه: (النذرُ الذِي يَنْذِرُه أَكْثَرُ العَوامِّ كأن يأتي إلى قبر بعض الصلحاء, ويقول: يا سَيِّدِي فُلانُ، إنْ رَدَّ اللهُ غائِبِي, أوْ قُضِيَت حَاجَتِي فَلَكَ مِنَ الذَّهَبِ كَذا، أو مِن الطَّعامِ، أوْ مِن الشَّمْعِ والزَّيْتِ كذَا؛ فَهذا النذْرُ بَاطِلٌ بِالإِجْمَاعِ لِوُجُوه:
مِنها: أَنَّهُ نَذْرٌ لِمَخْلوقٍ، والنذْرُ للمَخلوقِ لا يَجُوزُ؛ لأَنَّهُ عِبادةٌ والعِبادةُ لا تَكُونُ لِمخلوقٍ.
ومِنها: أنَّ المَنْذُورَ لهُ مَيِّتٌ والمَيِّتُ لا يَمْلِكُ.
ومِنها: أَنَّهُ ظَنَّ أنَّ المَيِّتَ يَتَصَرَّفُ فِي الأُمُورِ دُونَ اللهِ، واعْتِقَادُ ذلكَ كُفْرٌ- إلَى أنْ قالَ: إِذا عَلِمْتَ هَذا فَما يُؤْخَذُ مِنَ الدَّراهِمِ والشَّمْعِ والزيتِ وغيرِها ويُنْقَلُ إلَى ضَرَائِحِ الأولِيَاءِ تَقَرُّبًا إليْها فَحَرامٌ بِإجْمَاعِ الْمُسْلِمِينَ).
(4) قَالَ المُصَنِّفُ رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى: (وفِي (الصَّحِيحِ) عَنْ عَائِشةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهَا أَنَّ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قالَ: ((مَنْ نَذَرَ أنْ يُطِيعَ اللهَ فَلْيُطِعْهُ، وَمَنْ نَذَرَ أَنْ يَعْصِيَ اللهَ فَلاَ يَعْصِهِ))).
قولُه: (فِي (الصحِيحِ) أيْ: (صحِيحِ البُخَارِيِّ).
وجه الدلالة من هذا الحديث:
أن النبي -صلى الله عليه وسلم- أوجب الوفاء بالنذر، فقال: ((من نذر أن يطيع الله فليطعه)) وذلك إيجاب الوفاء بالنذر الذي يكون على طاعة، وإيجاب ذلك يدل على أنه عبادة محبوبة؛ لأن الواجب من أنواع العبادات.
قال: ((ومن نذر أن يعصي الله فلا يعصه)) لأن إيجاب المكلف على نفسه معصية الله -جل وعلا- هذه معارضة لنهي الله -جل وعلا- عن العصيان، وإذا نذر العبد العصيان، فإن النذر -كما هو معلوم في الفقه- قد انعقد، ويجب عليه أن لا يفي بفعل تلك المعصية، لكن يجب عليه أن يكفر عن ذلك كفارة يمين.
وقدْ أَجْمَعَ العُلَمَاءُ علَى أنَّ مَن نَذَرَ طاعةً بشَرْطٍ يَرْجُوهُ، كـ(إنْ شَفَى اللهُ مَرِيضِي فَعَلَيَّ أنْ أَتْصَدَّقَ بِكَذا ونَحْوَ ذَلكَ) وَجَبَ عَليهِ إنْ حَصَلَ لهُ ما عَلَّقَ نَذْرَه علَى حُصُولِه. وحُكِيَ عنْ أبِي حَنِيفَةَ أَنَّهُ لا يَلْزَمُه الوَفاءُ إلاَّ بِما جِنْسُهُ وَاجِبٌ بِأصْلِ الشَّرْعِ كالصَّوْمِ، وأمَّا ما لَيْسَ كَذلكَ كالاعْتِكَافِ فَلا يُوجِبُ عَلَيهِ الوَفاءَ بِهِ.
قولُه: ((وَمَنْ نَذَرَ أَنْ يَعْصِيَ اللهَ فَلا يَعْصِهِ)) زَادَ الطَّحَاوِيُّ((وَلْيُكَفِّرْ عَنْ يَمِينِهِ)).
وقدْ أَجْمَعَ العُلَمَاءُ أَنَّهُ لا يَجُوزُ الوَفَاءُ بِنَذْرِ المَعْصِيةِ.
قالُ الحافِظُ: (اتَّفَقُوا علَى تَحْرِيمِ النذْرِ فِي المَعصيةِ، وتَنَازَعُوا: هَلْ يَنْعَقِدُ مُوجِبًا لِلكَفَّارةِ أمْ لا؟) وتَقَدَّمَ.
وقَدْ يُسْتَدَلُّ بِالحَديثِ علَى صِحَّةِ النذْرِ فِي المُبَاحِ؛ كَما روي عن بريدة: ((أَنَّ امْرَأَةً قالَتْ: يا رَسُولَ اللهِ إِنِّي نَذَرْتُ أَنْ أَضْرِبَ عَلَى رَأْسِكَ بِالدُّفِّ، فَقالَ: أَوْفِي بِنَذْرِكِ)).
وأمَّا نذْرُ اللِّجَاجِ والغَضَبِ فَهو يَمِينٌ عندَ أحمدَ، فيُخَيَّرُ بَيْنَ فِعْلِهِ وكَفَّارةِ يَمِينٍ، لِحديثِ عِمْرانَ بْنِ حُصَينٍ مَرْفُوعًا: ((لا نَذْرَ فِي غَضَبٍ، وَكَفَّارَتُهُ كَفَّارَةُ يَمِينٍ)) رَوَاهُ سَعِيدُ بْنُ مَنْصُورٍ وأحمدُوالنَّسَائِيُّ، فَإنْ نَذَرَ مَكْرُوهًا كالطَّلاقِ اسْتُحِبَّ أنْ يُكَفِّرَ، ولا يَفْعَلُهُ.

تم بحمد الله.








12- باب من الشرك الاستعاذة بغير الله
وَقَوْلِ اللهِ تَعَالَى: {وَأَنَّهُ كَانَ رِجَالٌ مِّنَ الإِنسِ يَعُوذُونَ بِرِجَالٍ مِّنَ الْجِنِّ فَزَادوهُمْ رَهَقًا} [الْجِن:6].
وَعَنْ خَوْلَةَ بِنْتِ حَكِيمٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهَا قَالَتْ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: ((مَنْ نَزَلَ مَنْزِلاً فَقَالَ: أَعُوذُ بِكَلِمَاتِ اللهِ التَّامَّاتِ مِنْ شَرِّ مَا خَلَقَ، لَمْ يَضُرَّهُ شَيْءٌ حَتَّى يَرْحَلَ مِنْ مَنْزِلِهِ ذَلِكَ)) رَوَاهُ مُسْلِمٌ.
فِيهِ مَسَائِلُ:
الأُولَى: تَفْسِيرُ آيَةِ الْجِنِّ.
الثَّانِيَةُ: كَوْنُهُ مِنَ الشِّرْكِ.
الثَّالِثَةُ: الاِسْتِدْلاَلُ عَلَى ذَلِكَ بِالْحَدِيثِ؛ لأَِنَّ الْعُلَمَاءَ يَسْتَدِلُّونَ بِهِ عَلَى أَنَّ كَلِمَاتِ اللهِ غَيْرُ مَخْلُوقَةٍ، قَالُوا: لأَِنَّ الاِسْتِعَاذَةَ بِالْمَخْلُوقِ شِرْكٌ.
الرَّابِعَةُ: فَضِيلَةُ هَذَا الدُّعَاءِ مَعَ اخْتِصَارِهِ.
الْخَامِسَةُ: أَنَّ كَوْنَ الشَّيْءِ تَحْصُلُ بِهِ مَنْفَعَةٌ دُنْيَوِيَّةٌ مِنْ كَفِّ شَرٍّ أَوْ جَلْبِ نَفْعٍ لاَ يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ لَيْسَ مِنَ الشِّرْكِ.


(1) قَالَ المُصَنِّفُ رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى: (بابُ مِنَ الشِّرْكِ الاسْتِعاذَةُ بِغَيرِ اللهِ).
(الاستعاذة): طلب العياذ، يقال: استعاذ، إذا طلب العياذ، والعياذ: طلب ما يؤمِّن من الشر، الفرار من شيء مخوف إلى ما يؤمن منه، أو إلى من يؤمن منه.
ولِهَذا يُسَمَّى المُسْتَعَاذُ بِهِ: مَعاذًا ومَلْجَأً، فَالعَائِذُ بِاللهِ قدْ هَرَبَ مِمَّا يُؤْذِيهِ أوْ يُهْلِكُهُ، إلَى رَبِّه ومَالِكِهِ؛ واعْتَصَمَ بِهِ واسْتَجَارَ والْتَجَأَ إليْه.
ويقابلها اللياذ،وهو: الفرار إلى طلب الخير.
قَالَ ابْنُ كَثِيرٍ: (الاسْتِعَاذةُ هِيَ الالتِجَاءُ إلَى اللهِ والالْتِصاقُ بِجَنابِهِ مِن شَرِّ كُلِّ ذِي شرٍّ. والعِياذُ يَكونُ لِدَفْعِ الشَّرِّ، واللِّياذُ لِطَلَبِ الخَيْرِ) انْتَهَى.
ومادة استفعل، مثل ما ههنا (استعاذ)هي موضوعة في الغالب للطلب, مثل استسقى إذا طلب السقيا، واستغاث: إذا طلب الغوث، واستعاذ: إذا طلب العياذ.
وأحياناً للدلالة على كثرة الوصف في الفعل، كما في قوله جل وعلا: {واستغنى الله} فدلت على عظم الغنى, فهذه المادة، استعاذ واستغاث، وأشباه ذلك: فيها طلب, والطلب من أنواع التوجه والدعاء، إذا طلب فإن هناك مطلوباً منه، والمطلوب منه لمّا كان أرفع درجة من الطالب، كان الفعل المتوجه إليه يسمَّى دعاءً، ولهذا في حقيقة اللغة وفي دلالة الشرع: الاستعاذة: طلب العوذ، أو طلب العياذ، وهو الدعاء المشتمل على ذلك, وإذا كان دعاءً فإنه عبادة، والعبادة لله -جل وعلا-.
فالذي يطلب شيئاً: إذا طلبه من مقارنٍ،فيقال: هذا التماس؛ وإذا طلبه ممن هو دونه، يقال: هذا أمر؛ وإذا طلبه ممن هو أعلى منه، فهذا دعاء، والمستعيذ والمستغيث لا شك أنه طالبٌ ممن هو أعلى منه لحاجته إليه، فلهذا كل دليل فيه ذكر إفراد الله -جل وعلا- بالدعاء أو بالعبادة دليل على خصوص هذه المسألة، وهي: أن الاستعاذة عبادة من العبادات العظيمة، وإذ كانت كذلك فإن إفراد الله بها واجب.
والاستعاذة بغير الله تكونبالقول الذي معه اعتقاد، فهي مناسبة لأن تكون بعد (باب من الشرك النذر لغير الله), وهذا الشرك هو الشرك الأكبر.
وهِيَ مِنَ العِباداتِ التِي أَمَرَ اللهُ تعالى عبادَه بها؛ كما قال تعالى: {وَإِماَّ يَنْزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطَانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللهِ إِنَّهُ هو السَّمِيعُ العَلِيمُ} [فُصِّلَتْ:36]فَما كانَ عِبادةً للهِ فَصَرْفُهُ لِغيرِ اللهِ شِرْكٌ.
وهنا سؤال:
هل المقصود بقول المصنف: (باب من الشرك الاستعاذة بغير الله) أن الاستعاذة جميعاً لا تصلح إلا لله؟ وأنه لو استعاذ بمخلوق فيما يقدر عليه أنه يدخل في الشرك؟
الجواب: هذا فيه تفصيل:
- من أهل العلم من قال: الاستعاذة لا تصلح إلا لله، وليس ثمَّ استعاذة بمخلوق فيما يقدر عليه؛ لأن الاستعاذة: توجه القلب، واعتصامه، والتجاؤه، ورغبه، ورهبه، فيها هذه المعاني جميعاً، فهي توجه للقلب، وهذه المعاني جميعاً لا تصلح إلا لله جل وعلا.
وقال آخرون: قد جاءت أدلة بأنه يستعاذ بالمخلوق فيما يَقْدِر عليه؛لأن حقيقة الاستعاذة طلب انكفاف الشر، طلب العياذ، وهو أن يعيذ من شرٍّ أحدقَ به، وإذا كان كذلك، فإنه قد يكون المخلوق يملك شيئاً من ذلك، قالوا: فإذاً: تكون الاستعاذة بغير الله شركاً أكبر، إذا كان ذلك المخلوق لا يَقْدِر على أن يعيذ، أو لا يقدر على الإعاذة مما طلب إلا الله جل وعلا, وعلى هذا فالاستعاذة فيها عمل ظاهر، وفيها عمل باطن.
وتوجه أهل العبادات الشركية لمن يشركون به من الأولياء، أو الجن، أو الصالحين، أو الطالحين، أو غير ذلك، أنهم جمعوا بين القول باللسان، وبين أعمال القلوب التي لا تصلح إلا لله جل وعلا، وبهذا يبطل ما يقوله أولئك الخرافيون: (من أن الاستعاذة بهم، إنما هي فيما يقدرون عليه، وأن الله أقدرهم على ذلك) فيكون إبطال مقالهم راجعاً إلى جهتين:
فالجهة الأولى: أن يبطل قولهم في الاستعاذة، وفي أشباهها: أن هذا الميت أو هذا الجني يقدر على هذا الأمر.
الجهة الثانية: إذا لم يقتنع بذلك أو حصل هناك إيراد اشتباه فيه، فالأعظم أن يتوجه المورد للأدلة السنية، أن يتوجه إلى أعمال القلب، وأن هذا الذي توجه إلى ذلك الميت أو الولي، قد قام بقلبه من العبوديات ما لا يصلح إلا لله جل جلاله.
إذاً: فالاستعاذة بغير الله شرك أكبر؛ لأنها صرف للعبادة لغير الله، صرف العبادة لغير الله جل جلاله، فإن كان ذلك في الظاهر مع طمأنينة القلب بالله، وتوجه القلب إلى الله، وحسن ظنه بالله، وأن هذا العبد إنما هو سبب، وأن القلب مطمئن فيما عند الله؛ فإن هذه تكون استعاذة بالظاهر، وأما القلب فإنه لم تقم به حقيقة الاستعاذة، وإذا كان كذلك كان هذا جائزاً.
(2) قال المصنف رحمه الله تعالى: (وقول الله تعالى: {وأنه كان رجال من الإنس يعوذون برجال من الجن فزادوهم رهقاً}[الجن:6]).
{وأنه}: هذه معطوفة على أول السورة: {قل أوحي إلي أنه استمع نفر من الجن}.
ومعنى {رهقاً}: يعني: خوفاً واضطراباً في القلب، أوجب لهم الإرهاق، والرهق في الأبدان وفي الأرواح, وقيل: إثما؛ لأن الاستعاذة صرفت لغير الله.
وقد كان المشركون يعتقدون أن لكل مكان مخوف جنِّيّاً، أو سيداً من الجن يخدم ذلك المكان، هوله ويسيطر عليه؛ فكانوا إذا نزلوا وادياً، أو مكاناً قالوا: (نعوذ بسيد هذا الوادي من سفهاء قومه) يعنون الجنَّ؛ فعاذوا بالجن، لأجل أن يُكفَّ عنهم الشر مدة مقامهم، لهذا قال جل وعلا: {وأنه كان رجال من الإنس يعوذون برجال من الجن فزادوهم رهقاً}, فكان هذا عقوبة لهم, والعقوبة إنما تكون على ذنب.
فدلت الآية على ذم أولئك، وإنما ذُمُّوا لأنهم صرفوا تلك العبادة لغير الله جل وعلا، والله -سبحانه- أمر أن يستعاذ به دون ما سواه، فقال سبحانه: {قل أعوذ برب الفلق}.
- قَالَ المُصَنِّفُ: (وفِيهِ أنَّ كَوْنَ الشَّيْءِ يَحْصُلُ بِه مَنْفَعَةٌ دُنْيَوِيَّةٌ لا يَدُلُّ علَى أَنَّهُ لَيْسَ مِنَ الشرْكِ).
(3) قَالَ المُصَنِّفُ رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى: (وَعَنْ خَوْلَةَ بِنْتِ حَكِيمٍ قَالَتْ: سَمِعتُ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: ((مَنْ نَزَلَ مَنْزِلاً فَقَالَ: أَعُوذُ بَكَلِمَاتِ اللهِ التَّامَّاتِ مِنْ شَرِّ مَا خَلَقَ، لَمْ يَضُرَّهُ شَيْءٌ حَتَّى يَرْحَلَ مِنْ مَنْزِلِهِ ذَلِكَ)) رَوَاهُ مُسْلِمٌ).
وجه الدلالة من هذا الحديث: أن النبي -صلى الله عليه وسلم- بيّن فضل الاستعاذة بكلمات الله،وجعل المستعاذ منه: المخلوقات الشريرة، والمستعاذ به: هو كلمات الله.
وقد استدل أهل العلم حين ناظروا المعتزلة وردوا عليهم، استدلوا بهذا الحديث على أن كلمات الله ليست بمخلوقة، قالوا: لأن المخلوق لا يستعاذ به، والاستعاذة به شرك؛ كما قاله الإمام أحمد وغيره من أئمة السنة.
ولِهَذا نَهَى العُلَمَاءُ عَنِ التَّعَازِيمِ والتَّعاوِيذِ التِي لا يُعْرَفُ مَعْناها خَشْيَةَ أنْ يَكونَ فِيها شِرْكٌ).
قولُه: ((أَعُوذُ بَكَلِمَاتِ اللهِ التَّامَّاتِ)) شَرَعَ اللهُ لأَهْلِ الإِسْلامِ أنْ يَسْتَعِيذُوا بِهِ بَدَلاً عَمَّا يَفْعَلُه أَهْلُ الجاهِلِيَّةِ مِنَ الاسْتِعَاذةِ بِالجِنِّ فَشَرَعَ اللهُ لِلمُسْلِمينَ أنْ يَتَعَوَّذُوا بأَسْمَائِه وصِفَاتِهِ.
- قالَ القُرْطُبِيُّ: (قِيلَ: مَعْنَاهُ الكامِلاتُ التِي لا يَلْحَقُها نَقْصٌ ولا عَيْبٌ، كَما يَلْحَقُ كَلامَ البَشَرِ.
وقِيلَ: مَعْنَاهُ الشافِيةُ الكافِيةُ.
وقِيلَ: الكَلِمَاتُ هُنَا هِيَ القُرْآنُ.
قال الشيخ صالح آل الشيخ: (المقصود بـ(كلمات الله التامات) هنا: الكلمات الكونية التي لا يجاوزهن بَرٌّ ولا فاجر، وهي المقصودة بقوله جل وعلا: {قل لو كان البحر مداداً لكلمات ربي لنفد البحر قبل أن تنفد كلمات ربي} وبقوله: {ولو أن ما في الأرض من شجرة أقلام والبحر يمده من بعده سبعة أبحر ما نفدت كلمات الله}أما قوله تعالى: {وتمت كلمة ربك صدقاً وعدلاً}, وفي القراءة الأخرى: {وتمت كلمات ربك صدقاً وعدلاً} هذه الآية في الكلمات الشرعية، وكذلك في الكلمات الكونية)انتهى.
ولَمَّا كَانَ ذَلكَ اسْتِعَاذةً بِصِفَاتِ اللهِ تَعالَى كَانَ مِن بَابِ المَنْدُوبِ إِلَيهِ المُرَغَّبِ فِيهِ، وعَلَى هَذَا فَحَقُّ المُسْتَعِيذِ بِاللهِ تعالى أوْ بِأسْمَائِهِ وصِفَاتِه أنْ يَصْدُقَ اللهَ فِي الْتِجَائِهِ إِلَيهِ، ويَتَوَكَّلَ فِي ذلكَ عليهِ؛ ويُحْضِرَ ذلكَ فِي قَلْبِهِ؛ فمَتَى فَعَلَ ذَلِكَ وَصَلَ إِلَى مُنْتَهَى طَلَبِه ومَغْفَرَةِ ذَنْبِهِ.
((من شر ما خلق)) يعني: من شر الذي خلقه الله جل وعلا، وهذا العموم المقصود منه: من شر المخلوقات التي فيها شر، وليست كل المخلوقات فيها شر؛ بل ثمَّ مخلوقات طيبة ليس فيها شر، كالجنة، والملائكة، والرسل، والأنبياء، والأولياء.
وهناك مخلوقات خُلقت وفيها شر، فاستعيذ بكلمات الله -جل وعلا- من شر الأنفس الشريرة، والمخلوقات التي فيها شر.
قولُه: ((مِنْ شَرِّ مَا خَلَقَ)) قالَ ابْنُ القَيِّمِ: (أيْ: مِن كُلِّ شرٍّ فِي أيِّ مَخْلوقٍ قَامَ بِهِ الشرُّ مِن حَيَوانٍ أوْ غَيرِه، إِنْسِيًّا كَانَ أوْ جِنِّيًّا، أوْ هَامَةً أوْ دَابَّةً، أو رِيحًا أوْ صَاعِقَةً، أوْ أيَّ نَوْعٍ كانَ مِن أَنْواعِ البَلاءِ فِي الدُّنْيَا والآَخِرَةِ).
والشرُّ يُقالُ علَى شَيْئَيْنِ: عَلَى الأَلَمِ، وعلَى ما يُفْضِي إِلَيْه.
قولُه: ((لَمْ يَضُرَّهُ شَيْءٌ حَتَّى يَرْحَلَ مِنْ مَنْزِلِهِ ذَلِكَ)) قَالَ القُرْطُبِيُّ: (هَذا خَبَرٌ صحِيحٌ وقَولٌ صَادِقٌ عَلِمْنا صِدْقَهُ دَلِيلاً وتَجْرِبَةً، فَإنِّي مُنْذُ سَمِعْتُ هَذا الخَبَرَ عَمِلْتُ عَلَيه فَلمْ يَضُرَّنِي شَيْءٌ إِلَى أنْ تَرَكْتُهُ، فَلَدَغَتْنِي عَقْرَبٌ بِالْمَهْدِيَّةِ لَيْلاً، فَتَفَكَّرْتُ فِي نَفْسِي فَإِذَا بِي قَدْ نَسِيتُ أنْ أَتَعَوَّذَ بِتَلْكَ الْكَلِمَاتِ).

تم بحمد الله تعالى.






13- باب من الشرك أن يستغيث بغير الله أو يدعو غيره
وَقَوْلِ اللهِ تَعَالَى: {وَلاَ تَدْعُ مِن دُونِ اللهِ مَا لاَ يَنفَعُكَ وَلاَ يَضُرُّكَ فَإِن فَعَلْتَ فَإِنَّكَ إِذًا مِّنَ الظَّالِمِينَ (106) وَإِن يَمْسَسْكَ اللهُ بِضُرٍّ فَلاَ كَاشِفَ لَهُ إِلاَّ هُوَ وَإِن يُرِدْكَ بِخَيرٍ فَلا رَادَّ لِفَضْلِهِ يُصِيبُ بِهِ مَن يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَهُوَ الغَفُورُ الرَّحِيمُ} [يُونُس:106،107].
وَقَوْلِهِ: {فَابْتَغُواْ عِندَ اللهِ الرِّزْقَ وَاعْبُدُوهُ وَاشْكُرُوا لَهُ إِليهِ تُرْجَعُونَ} [الْعَنْكَبُوت:17].
وَقَوْلِهِ: {وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّن يَدْعُو مِن دُونِ اللهِ مَن لاَّ يَسْتَجِيبُ لَهُ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ وَهُم عَن دُعَائِهِم غَافِلونَ (5) وَإِذا حُشِرَ النَّاسُ كَانُوا لَهُمْ أَعدَاءً وَكَانُوا بِعِبَادَتِهِمْ كَافِرِينَ} [الأَحْقَاف:5،6].
وَقَوْلِهِ: {أمَّن يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذَا دَعَاهُ وَيَكْشِفُ السُّوءَ وَيَجْعلُكُمْ خُلَفَاءَ الأَرْضِ أَإِلهٌ مَعَ اللهِ}[النَّمْل:62].
وَرَوَى الطَّبَرَانِيُّ بِإِسْنَادِهِ: أَنَّهُ كَانَ فِي زَمَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم مُنَافِقٌ يُؤْذِي الْمُؤْمِنِينَ، فَقَالَ بَعْضُهُمْ: قُومُوا بِنَا نَسْتَغِيثُ بِرَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم مِنْ هَذَا الْمُنَافِقِ. فَقَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: (( إِنَّهُ لاَ يُسْتَغَاثُ بِي، وَإِنَّمَا يُسْتَغَاثُ بِاللهِ )).

فِيهِ مَسَائِلُ:
الأُولَى: أَنَّ عَطْفَ الدُّعَاءِ عَلَى الاِسْتِغَاثَةِ مِنْ عَطْفِ الْعَامِّ عَلَى الْخَاصِّ.
الثَّانِيَةُ: تَفْسِيرُ قَوْلِهِ:{وَلاَ تَدْعُ مِن دُونِ اللهِ مَا لاَ يَنفَعُكَ وَلاَ يَضُرُّكَ}.
الثَّالِثَةُ: أَنَّ هَذَا هُوَ الشِّرْكُ الأَكْبَرُ.
الرَّابِعَةُ: أَنَّ أَصْلَحَ النَّاسِ لَوْ فَعَلَهُ إِرْضَاءً لِغَيْرِهِ صَارَ مِنَ الظَّالِمِينَ.
الْخَامِسَةُ: تَفْسِيرُ الآيَةِ الَّتِي بَعْدَهَا.
السَّادِسَةُ: كَوْنُ ذَلِكَ لاَ يَنْفَعُ فِي الدُّنْيَا مَعَ كَوْنِهِ كُفْرًا.
السَّابِعَةُ: تَفْسِيرُ الآيَةِ الثَّالِثَةِ.
الثَّامِنَةُ: أَنَّ طَلَبَ الرِّزْقِ لاَ يَنْبَغِي إِلاَّ مِنَ اللهِ كَمَا أَنَّ الْجَنَّةَ لاَ تُطْلَبُ إِلاَّ مِنْهُ.
التَّاسِعَةُ: تَفْسِيرُ الآيَةِ الرَّابِعَةِ.
الْعَاشِرَةُ: أَنَّهُ لاَ أَضَلَّ مِمَّنْ دَعَا غَيْرَ اللهِ.
الْحَادِيَةَ عَشْرَةَ: أَنَّهُ غَافِلٌ عَنْ دُعَاءِ الدَّاعِي لاَ يَدْرِي عَنْهُ.
الثَّانِيَةَ عَشْرَةَ: أَنَّ تِلْكَ الدَّعْوَةَ سَبَبٌ لِبُغْضِ الْمَدْعُو لِلدَّاعِي وَعَدَاوَتِهِ لَهُ.
الثَّالِثَةَ عَشْرَةَ: تَسْمِيَةُ تِلْكَ الدَّعْوَةِ عِبَادَةً لِلْمَدْعُو.
الرَّابِعَةَ عَشْرَةَ:كُفْرُ الْمَدْعُو بِتِلْكَ الْعِبَادَةِ.
الْخَامِسَةَ عَشْرَةَ: أَنَّ هَذِهِ الأُمُورَ سَبَبُ كَوْنِهِ أَضَلَّ النَّاسِ.
السَّادِسَةَ عَشْرَةَ: تَفْسِيرُ الآيَةِ الْخَامِسَةِ.
السَّابِعَةَ عَشْرَةَ: الأَمْرُ الْعَجِيبُ، وَهُوَ إِقْرَارُ عَبَدَةِ الأَوْثَانِ أَنَّهُ لاَ يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِلاَّ اللهُ، وَلأَِجْلِ هَذَا يَدْعُونَهُ فِي الشَّدَائِدِ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ.
الثَّامِنَةَ عَشْرَةَ: حِمَايَةُ الْمُصْطَفَى صلى الله عليه وسلم حِمَى التَّوْحِيدِ وَالتَّأَدُّبُ مَعَ اللهِ.



(1) قَالَ المُصَنِّفُ رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى: (بابٌ مِن الشِّركِ أنْ يَسْتَغِيثَ بِغَيْرِ اللهِ أَو يَدْعُوَ غَيْرَه).
قال شيخُ الإسلامِ: (الاسْتِغاثَةُ هي طَلَبُ الغَوْثِ، وهو إِزالَةُ الشِّدَّةِ، كالاسْتَنْصارِ طَلَبُ النَّصْرِ. والاسْتِعانَةِ طَلَبُ العَوْنِ).
قال الشيخ عبد الرحمن السعدي رحمه الله: (والفَرْقُ بَيْنَ الدُّعَاءِ والاسْتِغَاثَةِ: أنَّ الدُّعاءَ عامٌّ في كلِّ الأحوالِ, والاسْتغاثَةَ هي الدعاءُ للهِ في حالَةِ الشدَائِدِ، فيَتَعَيَّنُ على العبد أن يخلص كل ذلك لله وحده, وإلا فقد خرج من الدين بشركه, وتَجَرَّدَ أيضًا مِن العَقْلِ، فإنَّ أحدًا مِن الخَلْقِ لَيْسَ عِنْدَه مِن النَّفْعِ والدَّفْعِ مِثْقَالُ ذَرَّةٍ؛ لا عَن نَفْسِه ولاَ عَن غَيْرِه ، بَل الكُلُّ فقراءُ إلى اللهِ في كُلِّ شؤونِهم)انتهى.
والاستغاثةَ لا تَكونُ إلاَّ مِن المَكْروبِ، والدُّعاءُ يَكُونُ مِن المَكْروبِ وغيرِه.
وعَطْفُ الدُّعاءِ على الاستغاثةِ مِن عَطْفِ العَامِّ على الخاصِّ، فبينَهما عُمومٌ وخُصوصٌ مُطْلَقٌ، يَجْتَمِعانِ في مادَّةٍ، ويَنْفَرِدُ الدُّعاءُ عنها في مادَّةٍ؛ فكُلُّ استغاثةٍ دُعاءٌ، ولَيْسَ كُلُّ دُعاءٍ استغاثةً.
قال الشيخ صالح آل الشيخ : (الاستغاثة بغير الله: إذا كانت فيما لا يقدر عليه إلا الله؛ فهي شرك أكبر؛ وإذا كانت فيما يقدر عليه المخلوق، فهي جائزة؛ كما حصل من صاحب موسى إذ استغاث بموسى عليه السلام).
قال المصنف: (أو يدعو غيره) الدعاء هو العبادة، والدعاء نوعان:
1-دعاء المسألة: ما كان فيه طلب، وفيه سؤال، يرفع يديه لله -جل وعلا- ويدعو، هذا يسمى دعاء مسألة، وهو الذي يغلب عند عامة المسلمين في تسمية الدعاء.
2-دعاء العبادة؛ كما قال جل وعلا: {وأنَّ المساجد لله فلا تدعوا مع الله أحداً} يعني: لا تعبدوا مع الله أحداً، أو لا تسألوا مع الله أحداً، وكما قال النبي صلى الله عليه وسلم: ((الدعاء هو العبادة)).
قال شيخُ الإسلامِ: (فكُلُّ دُعاءِ عِبادةٍ مُسْتَلْزِمٌ لِدُعاءِ المَسْألةِ، وكُلُّ دُعاءِ مَسْألةٍ مُتَضَمِّنٌ لِدُعاءِ العِبادةِ.
يعني: أنَّ من سأل الله -جل وعلا- شيئاً، فهو داعٍ دعاء مسألة، وهذا متضمن أنه يعبد الله؛ لأن دعاء المسألة أحد أنواع العبادة، فدعاء المسألة متضمن للعبادة؛ لأن الله -جل وعلا- يحب من عباده أن يسألوه.
-دعاء العبادة مستلزم لدعاء المسألة، يعني: أن من صلى؛ فيلزم من أنه أنشأ الصلاة أنه يسأل الله القبول، يسأل الله الثواب؛ فيكون دعاء المسألة متضمن لدعاء العبادة، ودعاء العبادة مستلزم لدعاء المسألة.
وضابِطُ هذا: أنَّ كُلَّ أَمْرٍ شَرَعَه اللهُ لِعِبادِه وأَمَرَهم به فَفِعْلُه للهِ عِبادةٌ، فإذا صَرَفَ مِن تلك العِبادةِ شَيْئًا لَغيرِ اللهِ فهو مُشْرِكٌ مُصادِمٌ لِمَا بَعَثَ اللهُ به رَسُولَه مِن قولِه: {قُلِ اللهَ أَعْبُدُ مُخْلِصًا لَّهُ دِينِي}[الزمر:14]).
وإذا تقرر ذلك فهذا التفصيل، أوهذا التقسيم مهم جدّاً في:
-الحجة في القرآن.
-وفي فهم الحجج التي يوردها أهل العلم؛ لأنه قد حصل من الخرافيين، والداعين إلى الشرك، أنهم يؤولون الآية التي في الدعاء بالمسألة، أو الآية التي في المسألة بالدعاء.
قال شيخُ الإسلامِ في (الرَّسالةِ السَّنِيَّةِ): (فإذا كان على عَهْدِ النَّبيِّ- صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- ممَّن انْتَسَبَ إلى الإسلامِ مَن مَرَقَ مِنه مع عِبادتِه العَظِيمةِ، فَلْيُعْلَمْ أنَّ المُنْتَسِبَ إلى الإسلامِ والسُّنَّةِ في هذه الأَزْمَانِ قد يَمْرُقُ أيضًا مِن الإسلامِ لأسبابٍ، منها: الغُلُوُّ في بعضِ المَشايِخِ، بل الغُلُوُّ فيعَلِيِّ بنِ أَبِي طالِبٍ،بل الغُلُوُّ في المَسِيحِ عَلَيْهِ السَّلاَمُ، فكُلُّ مَن غَلا في نَبِيٍّ أو رَجُلٍ صالِحٍ، وجَعَل فيه نَوْعًا مِن الإلهيَّةِ مثلَ أن يَقولَ: يا سَيِّدِي فُلانُ ، انْصُرْنِي أو أَغِثْنِي؛ أو ارْزُقْنِي، وأَنَا في حَسْبِك، ونحوُ هذه الأقْوَالِ، فكُلُّ هذا شِرْكٌ وضَلالٌ يُسْتَتَابُ صاحِبُه، فإنْ تاب وإلاَّ قُتِلَ.
فإنَّ اللهَ سبحانَه وتعالى إنَّما أَرْسَلَ الرُّسُلَ وأَنْزَلَ الكُتُبَ ليُعْبَدَ وحْدَه لا شَرِيكَ له، ولا يُدْعَى مَعَه إلهٌ آخَرُ.
والَّذِين يَدْعُون مع اللهِ آلهةً أُخْرَى، مثلَ المَسِيحِ والملائكةِ والأَصْنامِ، لم يَكُونُوا يَعْتَقِدُون أنَّها تَخْلُقُ الخَلائِقَ، أو تُنْزِلُ المَطَرَ، أو تُنْبِتُ النَّباتَ، وإنَّما كانُوا يَعْبُدُونَهم، أو يَعْبُدُون قُبورَهم، أو يَعْبُدُون صُورَهم.
يَقولونَ: {مَا نَعْبُدُهُمْ إِلاَّ لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللهِ زُلْفَى}[الزُّمَر:3]، {وَيَقُولُونَ هَؤُلاَءِ شُفَعَاؤُنَا عِندَ اللهِ}[يُونُس:18]. فَبَعَثَ اللهُ سبحانَه رُسُلَه تَنْهَى أن يُدْعَى أَحَدٌ مِن دُونِه، لا دُعاءَ عِبادةٍ، ولا دُعاءَ اسْتغاثَةٍ) انتهى.
-وقال أيضًا: (مَن جَعَلَ بينَه وبينَ اللهِ وَسائِطَ يَتَوَّكَلُ عليهم ويَدْعُوهم ويَسْأَلُهم كَفَرَ إِجْماعًا).
وقال ابنُ القَيِّمِ رَحِمَه اللهُ: (ومِن أَنْواعِهِ -أيِ: الشِّرْكِ- طَلَبُ الحَوَائِجِ مِن المَوْتَى، والاسْتِغَاثةُ بهم والتَّوَجُّهُ إليهم، وهذا أَصْلُ شِرْكِ العَالَمِ، فإنَّ المَيِّتَ قد انْقَطَعَ عَمَلُه، وهو لا يَمْلِكُ لنفْسِه نَفْعًا ولا ضَرًّا، فَضْلاً عمَّن اسْتَغاثَ به، أو سَأَلَه أن يَشْفَعَ له إلى اللهِ، وهذا مِن جَهْلِه بالشَّافِعِ والمَشْفُوعِ عندَه).
قال عُلماؤُنا: (مَن قال: أَرْوَاحُ المَشايخِ حاضِرةٌ تَعْلَمُ يَكْفُرُ).
وقال الشَّيْخُ صُنْعُ اللهِ الحَلَبِيُّ الحَنَفِيُّ في كِتابِه في الرَّدِّ على مَن ادّعَى أنَّ للأَوْلِياءِ تَصَرُّفاتٍ في الحَياةِ وبعدَ المَماتِ على سَبِيلِ الكَرَامةِ,ويُسْتَغاثُ بهم في الشَّدائِدِ,وَبِهِمَمِهِمْ تُكْشَفُ الْمَهَمَّاتُ، فيَأْتُونَ قُبُورَهم، ويُنَادُونَهم في قَضاءِ الحاجاتِ,لهم الذَّبائِحَ والنُّذُورَ.
قال: (وهذا كَلامٌ فيه تَفْرِيطٌ وإِفْراطٌ، بل فيه الهَلاكُ الأَبَدِيُّ والعَذابُ السَّرْمَدِيُّ، لِمَا فيه مِن رَوَائِحِ الشِّرْكِ المُحَقَّقِ.
وفي التَّنْزِيلِ: {وَمَن يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِن بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَسَاءَتْ مَصِيرًا}[النِّساء:115].
ثم قال:فأمَّا قولُهم: إنَّ للأَوْلِياءِ تَصَرُّفاتٍ في حَياتِهم وبعدَ المَماتِ.
فيَرُدُّه قولُه تعالى:{أَإِلَهٌ مَّعَ اللهِ}[النَّحْل:64،61]{أَلاَ لَهُ الخَلْقُ وَالأَمْرُ} [الأَعْراف:54] {للهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ}[الشُّورَى:49] ونحوَه مِن الآياتِ الدَّالَّةِ على أَنَّهُ المُتَفَرِّدُ بالخَلْقِ والتَّدْبِيرِ والتَّصَرُّفِ والتَّقْدِيرِ، ولا شَيْءَ لِغيرِه في شَيءٍ مَا بوَجْهٍ مِن الوُجُوه، فالكُلُّ تحتَ مُلْكِه وقَهْرِه تَصَرُّفًا ومُلْكًا، وإِماتَةً وإحياءً وخَلْقًا، وتَمَدَّحَ الرَّبُّ تَبَارَك وتعالى بانْفَرادِه بمُلْكِه في آياتٍ مِن كِتابِه كقولِه تعالى: {هَلْ مِنْ خَالِقٍ غَيْرُ اللهِ}[فاطِر:3]، {وَالَّذِينَ تَدْعُونَ مِن دُونِهِ مَا يَمْلِكُونَ مِن قِطْمِير}ٍ[فاطِر:13]،فقولُه في الآياتِ كُلِّها:{مِن دُونِهِ}أي: مِن غيرِه, فإنَّه عامٌّ يَدْخُلُ فيه مَن اعْتَقَدْتَه، مِن وَلِيٍّ وشيطانٍ تَسْتَمِدُّه، فإنَّ مَن لم يَقْدِرْ على نَصْرِ نفْسِه كيف يَمُدُّ غيرَه؟), ولذك فإن إنَّ هذا القولَ وَخِيمٌ، وشِرْكٌ عَظِيمٌ.
وأمَّا القولُ بالتَّصَرُّفِ بعدَ المَماتِ: فهو أَشْنَعُ وأَبْدَعُ مِن القولِ بالتَّصَرُّفِ في الحياةِ. قال جَلَّ ذِكْرُه: {إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُم مَّيِّتُون}[الزُّمَر:30]{اللهُ يَتَوَفَّى الأَنفُسَ حِينَ مَوْتِـهَا وَالَّتِي لَمْ تَمُتْ فِي مَنَامِـهَا فَيُمْسِكُ الَّتِي قَضَى عَلَيْهَا الْمَوْتَ وَيُرْسِلُ الأُخْرَى إِلَى أَجَلٍ مُّسَمًّى}[الزُّمَر:42].
وفي الحديثِ:
((إذا مَاتَ ابْنُ آدَمَ انْقَطَعَ عَمَلُهُ إِلاَّ مِنْ ثَلاثٍ..)) الحديثَ.
فجَمِيعُ ذلك وما هو نحوُه دَالٌّ على انْقِطاعِ الحِسِّ والحَرَكةِ مِن المَيِّتِ، وأنَّ أرواحَهم مُمْسَكَةٌ، وأنَّ أعمالَهم مُنْقَطِعةٌ عن زِيادةٍ أو نُقْصانٍ، فدَلَّ ذلك على أَنْ ليس لِلميِّتِ تَصَرُّفٌ في ذَاتِه فَضْلاً عن غيرِه.
فإذا عَجَزَ عن حَرَكةِ نَفْسِه، فكيف يَتَصَرَّفُ في غيرِه؟ فاللهُ سبحانَه يُخْبِرُ أنَّ الأَرْواحَ عندَه، وهؤلاء المُلْحِدُون يَقُولونَ: إنَّ الأَرْواحَ مُطْلَقَةٌ مُتَصَرِّفةٌ, {قُلْ أَأَنتُمْ أَعْلَمُ أَمِ اللهُ}؟ [البَقَرَة:140].
قال: (وأمَّا اعْتِقادُهم: أنَّ هذه التَّصَرُّفاتِ لهم مِن الكَرَاماتِ، فهو مِن المُغالَطةِ؛ لأنَّ الكَرامةَ شيءٌ مِن عندِ اللهِ يُكْرِمُ به أَوْلِياءَه، لا قَصْدَ لهم فيه ولا تَحَدِّيَ، ولا قُدْرَةَ ولا عِلْمَ، كَمَا في قِصَّةِ مَرْيَمَ ابنةِ عِمْرانَ.
وأمَّا قولُهم: فيُسْتَغاثُ بهم في الشَّدائِدِ، فهذا أَقْبَحُ ممَّا قبلَه وأَبْدَعُ؛ لمُصادَمتِه قولَه جلَّ ذِكْرُه:{أَمَّن يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذَا دَعَاهُ وَيَكْشِفُ السُّوءَ وَيَجْعَلُكُمْ خُلَفَاءَ الأَرْضِ أَإِلَـهٌ مَّعَ اللهِ}[النَّمل:62].
فإنَّه جَلَّ ذِكْرُه قَرَّرَ أَنَّهُ الكاشِفُ لِلضُّرِّ لا غيرُه، وأَنَّهُ المُتَفَرِّدُ بإِجابةِ المُضْطَرِّين، وأَنَّهُ المُسْتَغاثُ لِذلك كُلِّه، وأَنَّهُ القادِرُ على دَفْعِ الضُّرِّ، القادِرُ على إِيصالِ الخَيْرِ.
فهو المُنْفَرِدُ بذلك، فإذا تَعَيَّنَ هو جَلَّ ذِكْرُهُ خَرَجَ غيرُه مِن مَلَكٍ ونَبِيٍّ ووَلِيٍّ).
قال: (والاسْتِغاثَةُ تَجوزُ في الأَسْبابِ الظَّاهَرةِ العادِيَّةِ مِن الأُمُورِ الِحسِّيَّةِ في قِتالٍ، أو إِدْراكِ عَدُوٍّ أو سَبُعٍ أو نحوِه، كَقولِهم: يا لَلْمُسْلِمِين.
وأمَّا الاسْتِغاثةُ بالقُوَّةِ والتَّأْثِيرِ، أو في الأُمورِ المَعْنَوِيَّةِ مِن الشَّدائِدِ؛ كالمَرَضِ، وخَوْفِ الغَرَقِ، والضِّيقِ،والفَقْرِ، وطَلَبِ الرِّزْقِ، ونحوِه فمِن خَصَائِصِ اللهِ، لا يُطْلَبُ فيها غيرُه).
قال: (وأمَّا كَوْنُهم مُعْتَقِدِين: التَّأْثِيرَ مِنهم في قَضاءِ حاجاتِهم، كَمَا تَفْعَلُه جاهِلِيَّةُ العَرَبِ، والصُّوفيَّةُ الجُهَّالُ، ويُنادُونَهم ويَسْتَنْجِدُون بهم؛ فهذا مِن المُنْكَرات, وصاحبه على شفا حفرة من السعير)انتهى باختصار.

(2) قَالَ المُصَنِّفُ رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى: (وقولِه تعالى: {وَلاَ تَدْعُ مِن دُونِ اللهِ مَا لاَ يَنفَعُكَ وَلاَ يَضُرُّكَ فَإِن فَعَلْتَ فَإِنَّكَ إِذًا مِّنَ الظَّالِمِينَ وَإِن يَمْسَسْكَ اللهُ بِضُرٍّ فَلاَ كَاشِفَ لَهُ إِلاَّ هُوَ وإِنْ يُرِدْكَ بِخَيْرٍ فَلاَ رَادَّ لِفَضْلِهِ يُصِيبُ بِهِ مَن يَشَاءُ مِن عِبَادِهِ وَهُوَ الغَفُورُ الرَّحِيمُ }[يُونُس:106]).
{ولا تدع}: هذا نهي، والنهي توجه إلى الفعل (تدعو) وإذا كان كذلك فإنه يعم أنواع الدعاء؛ دعاء المسألة, ودعاء العبادة؛ لأن النكرة إذا جاءت في سياق النهي، أو في سياق النفي، أو في سياق الشرط؛ فإنها تعم.
و{تدع}: نكرة؛ لأنها فعل مشتمل على مصدر، والمصدر حدث نكرة، فإذاً: هذا يعم نوعي الدعاء، وهذا مراد الشيخ، أو أحد مراداته من الاستدلال بهذه الآية: {ولا تدع من دون الله} يعني: نهى الله -جل وعلا- أن يُتوجه لغير الله بدعاء المسألة، أو بدعاء العبادة، يعني: بالطلب، أو بأي نوع من أنواع العبادات؛ فلا طلب يصلح فيما لا يقدر عليه إلا الله، إلا منه جل وعلا.
هذه كلها أنواع العبادات، هي من أنواع دعاء العبادة.
فهذه الآية دلت على النهي: أن يتوجه أحدٌ إلى من هو دون الله -جل وعلا- بدعاء مسالة، أو بدعاء عبادة، وكان أعظم هذا النهي أنه وجِّه إلى المصطفى -صلى الله عليه وسلم- الذي هو إمام المتقين، وإمام الموحدين، قال: {ولا تدع من دون الله}.
وقوله: {من دون الله} تشمل مع الله، أو من دون الله استقلالاً.
قال: {ما لا ينفعك ولا يضرك} و(ما): تشمل العقلاء، وغير العقلاء، يعني: تشمل:
الملائكة, الأنبياء, الرسل, الصالحين. وتشمل ما لا يعقل: (كالأصنام، والأحجار، والأشجار؛ هذا من جهة دلالة اللغة: قال الله -جل وعلا- لنبيه: {فإن فعلت} يعني: إن دعوت من دون الله أحداً، وذلك الأحد موصوف بأنه لا ينفعك ولا يضرك {فإنك إذاً من الظالمين} وهذا إذا كان في حق النبي -عليه الصلاة والسلام- الذي كمَّل الله له التوحيد -إذا حصل منه الشرك فإنه يصبح ظالماً، ويصبح مشركاً، وحاشاه عليه الصلاة والسلام من ذلك- فهذا تخويف لمن هو دونه ممن لم يُعصم، ولم يعط العصمة من ذلك.
والظلم المراد هنا: الشرك؛ كما قال جل وعلا: {إن الشرك لظلم عظيم}.
والله -جل وعلا- ذكر القاعدة العامة في ذلك، التي تقطع عروق الشرك من القلب، حيث قال: {وإن يمسسك الله بضر فلا كاشف له إلا هو} إذا مسك الله بضر، فمن يكشف الضر؟ يكشفه من قدَّره ومن قضاه عليك، فهذا يقطع التوجه لغير الله سبحانه.
قال: {وإن يمسسك الله بضر} بضر هنا أيضاً: نكرة جاءت في سياق الشرط؛ فيعم جميع أنواع الضر، سواء كان ضرّاً في الدين، أو كان ضرّاً في الدنيا من جهةالأبدان, أو الأموال, أو الأولاد, أو الأعراض, أو من أي شيء.
في الحقيقة الذي يكشف الضر هو الله جل وعلا, والمخلوق ولو كان يقدر، فإنما قَدَرَ بإقدار الله له إذ هو سبب من الأسباب, وإذا تبين ذلك، ظهر لك وجه استدلال المصنف بهذه الآية، ومناسبة الآية للترجمة.
وقولُه: {وَإِن يَمْسَسْكَ اللهُ بِضُرٍّ فَلاَ كَاشِفَ لَهُ إِلاَّ هُوَ وَإِن يُرِدْكَ بِخَيْرٍ فلا رَادَّ لِفَضْلِهِ يُصِيبُ بِهِ مَن يَشَاءُ مِن عِبَادِهِ }فإنَّهُ المُتَفَرِّدُ بِالمُلْكِ والقَهْرِ، والعَطَاءِ والمَنْعِ، والضَّرِّ والنَّفْعِ، دونَ كُلِّ ما سِوَاه.
فهذا ما أَخْبَرَ به في كِتابِه؛ مِن تَفَرُّدِه بالإلهيَّةِ والرُّبوبيَّةِ، ونَصَبَ الأَدِلَّةَ على ذلك.
فاعْتَقَدَ عُبَّادُ القُبورِ والمَشاهِدِ نَقِيضَ ما أَخْبَرَ به اللهُ،واتَّخَذُوهم شُرَكاءَ للهِ في اسْتَجْلابِ المَنافِعِ ودَفْعِ المَكارِهِ بسُؤَالِهم، والالْتِجاءِ إِلَيْهِم بالرَّغْبةِ والرَّهْبةِ والتَّضَرُّعِ، وغيرِ ذلك مِن أَنْوَاعِ العِبَادَةِ الَّتي لا يَسْتَحِقُّها إلاَّ اللهُ تَعالى، واتَّخَذُوهم شُرَكاءَ للهِ في رُبوبيَّتِه وإلهيَّتِه.
وهذا فَوْقَ شِرْكِ كُفَّارِ العَرَبِ القائِلِين: {مَا نَعْبُدُهُمْ إِلاَّ لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللهِ زُلْفَى}، {هَؤُلاَءِ شُفَعَاؤُنَا عِندَ اللهِ} فإنَّ أُولئك يَدْعُونَهم لِيَشْفَعُوا لهم ويُقَرِّبُوهم إلى اللهِ، وكانوا يَقُولونَ في تَلْبِيَتِهم: (لَبَّيَكَ لا شَرِيكَ لك إلاَّ شَرِيكًا هو لَكَ، تَمْلِكُه وما مَلَكَ).
وأمَّا هؤلاء المُشْرِكُونَ فاعْتَقَدُوا في أَهْلِ القُبورِ والمَشاهِدِ ما هو أَعْظَمُ مِن ذلك، فَجَعَلُوا لهم نَصِيبًا مِن التَّصَرُّفِ والتَّدْبِيرِ، وجَعَلُوهم مَعاذًا لهم ومَلاذًا في الرَّغَباتِ والرَّهَباتِ {سُبْحَانَ اللهِ عَمَّا يُشْرِكُونَ}.
وقولُه: {وَهُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ} أي: لمَن تَابَ إِلَيْهِ.
(3) قالَ المُصَنِّفُ رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى: (وقولُه: {فَابْتَغُواْ عِندَ اللهِ الرِّزْقَ وَاعْبُدُوهُ وَاشْكُرُواْ لَهُ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ}[العنكبوت:17]).
يَأْمُرُ تعالى عِبَادَه بابْتِغَاءِ الرِّزْقِ مِنه وحدَه دُونَ ما سِوَاه مِمَّن لا يَمْلِكُ لهم رِزْقًا مِن السماواتِ والأرضِ شيئًا.
فتَقْدِيمُ الظرْفِ يُفِيدُ الاخْتِصَاص،
وقولُه: {واعْبُدُوهُ} مِن عَطْفِ العامِّ على الخاصِّ.
(4) قالَ المُصَنِّفُ رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى: (وقولُه: {وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّن يَدْعُو مِن دُونِ اللهِ مَن لاَّ يَسْتَجِيبُ لَهُ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ وَهُمْ عَن دُعَائِهِمْ غَافِلُونَ وَإِذَا حُشِرَ النَّاسُ كَانُواْ لَهُمْ أَعْدَاءً وَكَانُواْ بِعِبَادَتِهِمْ كَافِرِينَ}[الأحْقَاف:5،6]).
فنَفَى سُبْحَانَه أن يكونَ أَحَدٌ أَضَلَّ مِمَّن يَدْعُو غيرَه، وأَخْبَرَ أَنَّهُ لا يَسْتَجِيبُ لَه ما طَلَبَ مِنه إلى يومِ القِيامَةِ, وأنه غافل عن داعيه.
قالَ أبو جَعْفَرِ بنُ جَرِيرٍ في قولِهِ: {وَإِذَا حُشِرَ النَّاسُ كَانُواْ لَهُمْ أَعْدَاءً}: أي إذا جُمِعَ الناسُ ليومِ القِيامَةِ في مَوْقِفِ الحِسَابِ كانَتْ هذه الآلِهَةُ التي يَدْعُونها في الدنيا لهم أعداءً؛ لأَنَّهُم يَتَبَرَّؤُون منهم.
{وَكَانُواْ بِعِبَادَتِهِمْ كَافِرِينَ}: أي وكَانَت آلِهَتُهم التي يَعْبُدُونها في الدنيا بعبادَتِهِم جاحِدِين.
-قالَ ابنُ جَرِيرٍ: ({وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ وَمَا يَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللهِ}مِن الملائِكَةِ والإِنْسِ والجِنِّ، وساقَ بسَنَدِهِ عنمُجَاهِدٍ قالَ: عيسى، وعُزَيْرٌ والمَلاَئِكَةُ).
ثم قالَ:(يقولُ تعالى ذِكْرُهُ: قالَت الملائِكةُ الذين كانَ هؤلاء المُشْرِكُون يَعْبُدُونهم مِن دُونِ اللهِ وعيسى: {مَا كَانَ يَنبَغِي لَنَا أَن نَّتَّخِذَ مِن دُونِكَ مِنْ أَوْلِيَاءَ} نُوالِيهم {أَنتَ وَلِيُّنَا مِن دُونِهِمْ}) انْتَهَى.
قال في فتح المجيد: (وأَكْثَرُ مَا يُسْتَعْمَلُ الدُّعاءُ في الكِتابِ والسنَّةِ واللُّغَةِ ولسانِ الصَّحَابَةِ ومَن بعدَهم من العُلَمَاءِ: في السُّؤالِ والطَّلَبِ، كما قالَ العُلَمَاءُ مِن أهلِ اللغةِ وغيرِهم: (الصلاةُ لغةً: الدُّعاءُ).
وقد قالَ تعالى: {وَالَّذِينَ تَدْعُونَ مِن دُونِهِ مَا يَمْلِكُونَ مِن قِطْمِيرٍ إِن تَدْعُوهُمْ لاَ يَسْمَعُوا دُعَاءَكُمْ وَلَوْ سَمِعُوا مَا اسْتَجَابُوا لَكُمْ وَيَوْمَ القِيَامَةِ يَكْفُرُونَ بِشِرْكِكُمْ وَلاَ يُنَبِّئُكَ مِثْلُ خَبِيرٍ}[فاطِر:13،14].
وقالَ: {قُلْ مَن يُنَجِّيكُم مِّن ظُلُمَاتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ تَدْعُونَهُ تَضَرُّعًاوَخُفْيَةً} [الأنعامُ:63].
وقالَ: {وَإِذَا مَسَّ الإِنسَانَ الضُّرُّ دَعَانَا لِجَنبِهِ أَوْ قَاعِدًا أَوْ قَائِمًا}[يُونُسُ:12].
وقالَ: {لاَّ يَسْأَمُ الإِنسَانُ مِن دُعَاءِ الْخَيْرِ وَإِن مَّسَّهُ الشَّرُّ فَيَؤُوسٌ قَنُوطٌ} [فُصِّلَتْ:49].
وقالَ: {إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ فَاسْتَجَابَ لَكُمْ}[الأنْفَال:9].
-وفي حَدِيثِ أَنَسٍ مَرْفُوعًا: ((الدُّعاءُ مُخُّ العِبادَةِ)).
وفي الحديثِ الصحيحِ: ((ادْعُوا اللهَ وَأَنْتُمْ مُوقِنُونَ بِالإجابَةِ)).
وفي آخَرَ: ((مَنْ لَمْ يَسْأَل اللهَ يَغْضَبْ عَلَيْهِ)).
وحديثِ: ((لَيْسَ شَيْءٌ أَكْرَمَ عَلَى اللهِ مِنَ الدُّعاءِ)) روَاه أحمدُ والتِّرْمِذِيُّ وابنُ ماجَةَ وابنُ حِبَّانَ والحاكِمُ وصَحَّحَه.
وقولِهِ: (الدُّعاءُ سِلاحُ الْمُؤمِنِ وَعِمَادُ الدِّينِ وَنُورُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ) روَاه الحاكِمُ وصحَّحَه.
وقولِه: (سَلُوا اللهَ كُلَّ شَيْءٍ حَتى الشِّسْعَ إذا انقَطَعَ) الحديثَ، وقالَ ابنُ عبَّاسٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُما: (أَفضلُ العِبادَةِ الدُّعاءُ) روَاه ابنُ المُنْذِرِ والحاكِمُ وصَحَّحَه.
وأمثالُ هذا في الكِتابِ والسنَّةِ أكْثَرُ مِن أن يُحْصَرَ، في الدعاءِ الذي هو السؤالُ والطَّلَبُ، فمَن جَحَدَ كَوْنَ السؤالِ والطَّلَبِ عِبَادَةً فقد صَادَمَ النصُوصَ وخالَفَ اللُّغَةَ واسْتِعْمَالَ الأمَّةِ سَلَفًا وخَلَفًا.
وقد شَرَعَ اللهُ تعالى في الصَّلاةِ الشرعِيَّةِ من دُعَاءِ المسأَلَةِ ما لا تَصِحُّ الصلاةُ إلا بِهِ، كما في الفاتِحَةِ ويينَ السجْدَتَيْنِ وفي التشَهُّدِ، وذلك عبادةٌ كالرُّكُوعِ والسُّجُودِ. فتَدَبَّرْ هذا المقامَ يَتَبَيَّنْ لك جَهْلُ الجاهِلِين بالتوحِيدِ.
قالَ ابن القيم رحمه الله: (قولُه تعالى: {ادْعُواْ رَبَّكُمْ تَضَرُّعًا وَخُفْيَةً} [الأعراف:55] يَتَنَاولُ نَوْعَي الدعاءِ، لكنه ظاهِرٌ في دعاءِ المسأَلَةِ مُتَضَمِّنٌ لدعاءِ العِبَادَةِ، ولهذا أَمَرَ بإِخْفَائِهِ).
- وقالَ الحَسَنُ: (بَيْنَ دُعَاءِ السِّرِّ ودُعاءِ العَلاَنِيَةِ سَبْعون ضِعْفًا، ولقد كانَ المُسلِمون يَجْتَهِدُون في الدعاءِ ولم يُسْمَعْ لهم صوتٌ إن كانَ إلا هَمْسًا بينَهم وبينَ ربِّهِم).
(5) قالَ المُصَنِّفُ رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى: (قولُه: {أَمَّن يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذَا دَعَاهُ وَيَكْشِفُ السُّوءَ وَيَجْعَلُكُمْ خُلَفَاءَ الأَرْضِ أَإِلَـهٌ مَّعَ اللهِ}[النَّمْل:62]).
يُبَيِّنُ تعالى أن المُشْرِكِين من العَرَبِ ونحوِهم قد عَلِمُوا أَنَّهُ لا يُجِيبُ المُضْطَرَّ ويَكْشِفُ السُّوءَ إِلاَّ اللهُ وحدَه، فذَكَرَ ذلك سُبْحَانَه مُحْتَجًّا عليهم في اتِّخَاذِهِم الشُّفَعَاءَ مِن دُونِهِ، ولهذا قالَ: {أَإِلَهٌ مَّعَ اللهِ} يعني: يَفْعَلُ ذلك.
فإذا كانَت آلِهَتُهُم لا تُجِيبُهُم في حالِ الاضْطِرارِ فلا يَصْلُحُ أن يَجْعَلُوها شُركاءَ للهِ الذي يُجِيبُ المُضْطَرَّ إذا دَعَاه ويَكْشِفُ السُّوءَ وَحْدَه.
وقالَ أبو جَعْفَرِ بنُ جَرِيرٍ:( المعنى: أم ما تُشْرِكون باللهِ خيرٌ، أم الذي يُجِيبُ المُضْطَرَّ إذا دعاه ويَكْشِفُ السُّوءَ النازِلَ به عنه؟)
وقولُه: {وَيَجْعَلُكُمْ خُلَفَاءَ الأَرْضِ} يقولُ: يَسْتَخْلِفُ بعدَ أمواتِكم في الأرضِ منكم خُلَفاءَ أحياءً يَخْلُفُونَهم.
وقولُه: {أَإِلَـهٌ مَّعَ اللهِ}: أَإِلَهٌ سِوَاه يَفْعَلُ هذه الأشياءَ بِكم وَيُنْعِمُ عليكم هذه النِّعَمَ.
وقولُه: {قَلِيلاً مَّا تَذَكَّرُونَ} يقولُ: تَذَكُّرًا قليلاً مِن عَظَمَةِ اللهِ وأَيَادِيه عندَكم، تَذَكَّرُون وتَعْتَبِرُون حُجَجَ اللهِ عليكم يَسِيرًا، فلذلك أَشْرَكْتُم باللهِ غيرَه في عِبَادَتِهِ) انتهى.
(6) قال المُصَنِّفُ رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى: (ورَوَى الطَّبَرَانِيُّ بإِسْنَادِهِ أَنَّهُ كَانَ في زَمَنِ النبيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مُنافِقٌ يُؤْذِي الْمُؤْمِنِينَ. فقالَ بَعْضُهُمْ: قُوموا بِنا نَسْتَغِيثُ بِرَسولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَنْ هَذا المُنَافِقِ، فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ((إِنَّهُ لا يُسْتَغاثُ بي، وَإِنَّما يُسْتَغَاثُ بِاللهِ))).
قولُه: (قُومُوا بِنا نَسْتَغِيثُ بِرَسولِ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- مِنْ هَذَا الْمُنافِقِ) لأَنَّهُ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يَقْدِرُ على كَفِّ أَذَاه.
قولُه: ((إِنَّهُ لا يُسْتَغاثُ بي، وَإِنَّما يُسْتَغَاثُ بِاللهِ)) فيه النصُّ على أَنَّهُ لا يُسْتَغَاثُ بالنبيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ولا مَن دُونَه.
فقد كَرِهَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أن يُسْتَعْمَلَ هذا اللفظُ في حَقِّهِ، وإن كان فيما يَقْدِرُ عليه في حياتِهِ؛ حِمَايَةً لجَنَابِ التوحيدِ، وسَدًّا لذَرَائِعِ الشِّرْكِ، وَأَدَبًا وتَوَاضُعًا لربِّهِ، وتَحْذِيرًا للأُمَّةِ من وسَائِلِ الشِّرْكِ في الأقْوَالِ والأَفْعَالِ.
فإذا كانَ هذا فيما يَقْدِرُ عليه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في حياتِهِ، فكيف يَجُوزُ أن يُسْتَغَاثَ به بعدَ وَفَاتِهِ ويُطلَبَ منه أمورٌ لا يَقْدِرُ عليها إلا اللهُ؟ كما جَرَى على أَلْسِنَةِ كَثِيرٍ من الشُّعَراءِ كالبُوصِيرِيِّ والبُرَعِيِّ وغَيرِهم، من الاسْتِغَاثَةِ بمَن لا يَمْلِكُ لنفْسِهِ ضَرًّا ولا نَفْعًا ولا مَوْتًا ولا حياةً ولا نُشُورًا، ويُعْرِضُون عن الاسْتِغَاثَةِ بالربِّ العظيمِ القادِرِ.

تم بحمد الله.












14- بَابُ قَوْلِ اللهِ تَعَالَى: {أَيُشْرِكُونَ مَا لاَ يَخْلُقُ شَيْئًا وَهُمْ يُخْلَقُونَ (191) وَلاَ يَسْتَطِيعُونَ لَهُمْ نَصْرًا ولا أَنفُسَهُمْ يَنصُرُونَ} [الأَعْرَاف:191،192]
-بَابُ قَوْلِ اللهِ تَعَالَى: {أَيُشْرِكُونَ مَا لاَ يَخْلُقُ شَيْئًا وَهُمْ يُخْلَقُونَ (191) وَلاَ يَسْتَطِيعُونَ لَهُمْ نَصْرًا ولا أَنفُسَهُمْ يَنصُرُونَ} [الأَعْرَاف:191،192]
وَقَوْلِهِ: {وَالَّذِينَ تَدْعُونَ مِن دُونِهِ مَا يَمْلِكُونَ مِن قِطْمِيرٍ (13) إن تَدْعُوهُمْ لا يَسْمَعُوا دُعَاءَكُمْ وَلَوْ سَمِعُوا مَا استَجَابُوا لَكُمْ وَيَومَ القِيَامَةِ يَكْفُرُونَ بِشِركِكُمْ وَلا يُنَبِّئُكَ مِثْلُ خَبِير}[فَاطِر:13،14].
وَفِي (الصَّحِيحِ) عَنْ أَنَسٍ قَالَ: (شُجَّ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم يَوْمَ أُحُدٍ، وَكُسِرَتْ رَبَاعِيَتُهُ، فَقَالَ: ((كَيْفَ يُفْلِحُ قَوْمٌ شَجُّوا نَبِيَّهُمْ؟)) فَنَزَلَتْ:{لَيْسَ لَكَ مِنَ الأَمْرِ شَيْءٌ}[آل عِمْرَان:28].
وَفِيهِ عَنِ ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا: ((أَنَّهُ سَمِعَ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ إِذَا رَفَعَ رَأْسَهُ مِنَ الرُّكُوعِ فِي الرَّكْعَةِ الأَخِيرَةِ مِنَ الْفَجْرِ: ((اللهُمَّ الْعَنْ فُلاَنًا وَفُلاَنًا))، بَعْدَ مَا يَقُولُ:((سَمِعَ اللهُ لِمَنْ حَمِدَهُ رَبَّنَا وَلَكَ الْحَمْدُ))؛ فَأَنْزَلَ اللهُ: {لَيْسَ لَكَ مِنَ الأَمْرِ شَيْءٌ}[آل عِمْرَان:28])).
وَفِي رِوَايَةٍ: ((يَدْعُو عَلَىصَفْوَانَ بْنِ أُمَيَّةَ، وَسُهَيْلِ بْنِ عَمْرٍو، وَالْحَارِثِ بْنِ هِشَامٍ، فَنَزَلَتْ: {لَيْسَ لَكَ مِنَ الأَمْرِ شَيْءٌ}[آل عِمْرَان:28])).
وَفِيهِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قَالَ: ((قَامَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم حِينَ أُنْزِلَ عَلَيهِ: {وَأَنذِرْ عَشِيرَتَكَ الأَقْرَبِينَ}[الشُّعَرَاء:214] فَقَالَ:((يَا مَعْشَرَ قُرَيْشٍ - أَوْ كَلِمَةً نَحْوَهَا - اشْتَرُوا أَنْفُسَكُمْ؛ لاَ أُغْنِي عَنكُمْ مِنَ اللهِ شَيْئًا، يَاعَبَّاسُ بْنَ عَبْدِ المُطَّلِبِ لاَ أُغْنِي عَنْكَ مِنَ اللهِ شَيْئًا، يَا صَفِيَّةُ -عَمَّةَ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم- لاَ أُغْنِي عَنْكِ مِنَ اللهِ شَيْئًا، وَيَا فَاطِمَةُ بِنْتَ مُحَمَّدٍ، سَلِينِي مِنْ مَالِي مَا شِئْتِ، لاَ أُغْنِي عَنْكِ مِنَ اللهِ شَيْئًا)).
فِيهِ مَسَائِلُ:
الأُولَى: تَفْسِيرُ الآيَتَيْنِ.
الثَّانِيَةُ: قِصَّةُ أُحُدٍ.
الثَّالِثَةُ: قُنُوتُ سَيِّدِ الْمُرْسَلِينَ وَخَلْفَهُ سَادَاتُ الأَوْلِيَاءِ يُؤَمِّنُونَ فِي الصَّلاَةِ.
الرَّابِعَةُ: أَنَّ الْمَدْعُوَّ عَلَيْهِمْ كُفَّارٌ.
الْخَامِسَةُ: أَنَّهُمْ فَعَلُوا أَشْيَاءَ مَا فَعَلَهَا غَالِبُ الْكُفَّارِ، مِنْهَا: شَجُّهُمْ نَبِيَّهُمْ، وَحِرْصُهُمْ عَلَى قَتْلِهِ، وَمِنْهَا: التَّمْثِيلُ بِالْقَتْلَى مَعَ أَنَّهُمْ بَنُو عَمِّهِمْ.
السَّادِسَةُ: أَنْزَلَ اللهُ عَلَيْهِ فِي ذَلِك {لَيْسَ لَكَ مِنَ الأَمْرِ شَيْءٌ}.
السَّابِعَةُ: قَوْلُهُ: {أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ أَوْ يُعَذِّبَهُمْ} فَتَابَ عَلَيْهِمْ فَآمَنُوا.
الثَّامِنَةُ: الْقُنُوتُ فِي النَّوَازِلِ.
التَّاسِعَةُ: تَسْمِيَةُ الْمَدْعُوِّ عَلَيْهِمْ فِي الصَّلاَةِ بَأَسْمَائِهِمْ وَأَسْمَاءِ آبَائِهِمْ.
الْعَاشِرَةُ: لَعْنُ الْمُعَيَّنِ فِي الْقُنُوتِ.
الْحَادِيَةَ عَشْرَةَ: قِصَّتُهُ صلى الله عليه وسلم لَمَّا أُنْزِلَ عَلَيْهِ: {وَأَنذِرْ عَشِيرَتَكَ الأَقْرَبِينَ}.
الثَّانِيَةَ عَشْرَةَ: جِدُّهُ صلى الله عليه وسلم فِي هَذَا الأَمْرِ بِحَيْثُ فَعَلَ مَا نُسِبَ بِسَبَبِهِ إِلَى الْجُنُونِ وَكَذَا لَوْ فَعَلَهُ مُسْلِمٌ الآنَ.
الثَّالِثَةَ عَشْرَةَ: قَوْلُهُ لِلأَبْعَدِ وَالأَقْرَبِ: ((لاَ أُغْنِي عَنْكَ مِنَ اللهِ شَيْئًا))، حَتَّى قَالَ: ((يَا فَاطِمَةُ بِنْتَ مُحَمَّدٍ.. لاَ أُغْنِي عَنْكِ مِنَ اللهِ شَيْئًا))
فَإِذَا صَرَّحَ وَهُوَ سَيِّدُ الْمُرْسَلِينَ بِأَنَّهُ لاَ يُغْنِي شَيْئًا عَنْ سَيِّدَةِ نِسَاءِ الْعَالَمِينَ، وَآمَنَ الإِنْسَانُ بِأَنَّهُ لاَ يَقُولُ إِلاَّ الْحَقَّ، ثُمَّ نَظَرَ فِيمَا وَقَعَ فِي قُلُوبِ خَوَاصِّ النَّاسِ الْيَوْمَ، تَبَيَّنَ لَهُ تَرْكُ التَّوْحِيدِ وَغُرْبَةُ الدِّينِ.



(1) قالَ المُصَنِّفُ رَحِمَه اللهُ تعالَى: (بابُ قولِ اللهِ تعالى: {أَيُشْرِكُونَ مَا لاَ يَخْلُقُ شَيْئاً وَهُمْ يُخْلَقُونَ وَلاَ يَسْتَطِيعُونَ لَهُمْ نَصْراً وَلاَ أَنفُسَهُمْ يَنصُرُونَ}[الأعراف:191،192]).
قولُه: {أَيُشْرِكُونَ} أي: في العِبادةِ.
قالَ المُفَسِّرُون في هذه الآيَةِ: هذا تَوبيخٌ وتَعنيفٌ للمشرِكينَ في عِبادتِهم مع اللهِ تعالى ما لا يَخْلُقُ شيئًا وهو مَخلوقٌ، والمخلوقُ لا يكونُ شَريكًا للخالِقِ في العِبادةِ التي خَلَقَهم لها؛ وبَيَّنَ أَنَّهُم لا يَستطيعونَ لهم نَصْرًا ولا أنْفُسَهم يَنْصُرون، فكيف يُشرِكون به مَن لا يَستطيعُ نَصْرَ عابِدِيهِ ولا نَصْرَ نفسِه؟
وهذا بُرهانٌ ظاهرٌ على بُطلانِ ما كانوا يَعبُدُونَه من دونِ اللهِ،
وهذا وَصْفُ كلِّ مخلوقٍ، حتى الملائكةِ، والأنبياءِ، والصالحينَ.
وأشرَفُ الخلْقِ مُحَمَّدٌ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قد كان يَسْتَنْصِرُ رَبَّه على المشرِكينَ ويَقولُ: ((اللهُمَّ أَنْتَ عَضُدِي وَنَصيرِي، بِكَ أَحُولُ وَبِكَ أَصُولُ، وَبِكَ أُقاتِلُ))
-فإن كان نَبِيًّا أو صالِحًا فقد شَرَّفَه اللهُ تعالى بإخلاصِ العِبادةِ له، والرِّضا به ربًّا ومَعبودًا، فكيف يَجوزُ أن يُجْعَلَ العابدُ مَعبودًا مع تَوجيهِ الْخِطابِ إليه بالنَّهْيِ عن هذا الشرْكِ؟
كما قالَ تعالى: {وَلاَ تَدْعُ مَعَ اللهِ إِلَـهًا آخَرَ لاَ إِلَـهَ إِلاَّ هُوَ} [القصص:88] .
فقد أَمَرَ عِبادَه من الأنبياءِ والصالحينَ وغيرِهم بإخلاصِ العِبادةِ له وَحدَه؛ ونَهاهُمْ أن يَعبُدُوا معه غيرَه؛ وهذا هو دينُه الذي بَعَثَ به رُسلَه، وأَنزلَ به كُتُبَه؛ ورَضِيَه لعِبادِه؛ وهو الإسلامُ، كما رَوَى البخاريُّ عن أبي هُريرةَ في سؤالِ جَبْرَائِيلَ عليه السلامُ قالَ: ((يَا رَسُولَ اللهِ، ما الإِسْلامُ؟
قالَ: الإِسْلامُ أَنْ تَعبُدَ اللهَ ولا تُشْرِكَ بِهِ شَيْئًا، وَتُقيمَ الصَّلاةَ؛ وتُؤتِيَ الزَّكاةَ الْمَفروضَةَ، وَتَصُومَ رَمَضانَ...)) الحديثَ.
والقرآن فيه كثير من البراهين على أن المستحق للعبادة هو الله -جل وعلا- وحده دون ما سواه، فمن تلك الأدلة والبراهين:
-ما في القرآن من أدلةٍ فيها إقرار المشركين بتوحيد الربوبية.
-ما في القرآن، من أن الله -جل جلاله- نصر رسله وأولياءه على أعدائهم؛ وأن كل طائفة من طوائف الشرك ذلت، وخضعت، وغُلبت أمام طوائف أهل الإيمان.
-أنه ما من طائفةٍ موحدةٍ بعث الله -جل وعلا- إمامها ورسولها بقتال المشركين، إلا وظهرت عليهم.
-ما في القرآن، من أنَّ المخلوق ضعيف,وأنه جاء إلى الحياة بغير اختياره، بل الله -جل وعلا- الذي أتى به إلى هذه الحياة، وأنه سيخرج من هذه الحياة بغير اختياره أيضاً، فهو إذاً: مقهور، ويعلم قطعاً أن الذي قهره وأذله وجعله على هذه الحالة ليس هو تلك الآلهة، وإنما هو الله -جل وعلا –وحده,وهذا إقرار عام يعلمه كل أحد من فطرته.
-أن الله -جل وعلا- له الأسماء الحسنى، وله الصفات العُلى؛ وأنه ذو النعوت الكاملة، وذو النعوت الجليلة: نعوت الجلال, ونعوت الجمال,ونعوت الكمال, وهو سبحانه له الكمال المطلق الذي لا يعتريه نقص بوجه من الوجوه.
فالبرهان على أن الله هو المستحق للعبادة وحده، أنه -جل وعلا- هو مالك الملك وحده، وهو الذي يُدبّر هذا الملكوت وحده، وهو الذي خلق العباد، والعباد صائرون إليه؛ أما الآلهة التي توجّه إليها العباد بالعبادة من الأنبياء، والأولياء، أو الملائكة، فإنما هم مخلوقون مربوبون، لا يَخلقون شيئاً وهم يُخلقون، وأيضاً لا يستطيعون نصراً لمن سألهم، وإنما ذلك لله جل وعلا.
فإذا كان أولئك ليس لهم من الأمر شيء,فإن الذي يستحق العبادة وحده هو الذي يفعل تلك الأفعال,فإذا كان كذلك فيجب أن يكون إذاً واحداً في أفعالهم، بألاّ يتوجهوا بالعبادة إلاّ إليه وحده,وهذا نوع احتجاج بما أقرّوا به: وهو توحيد الربوبية، على ما أنكروه: وهو توحيد الإلهية.
فهذا الباب قائم على هذه الحُجَّة؛ ولهذا من أعظم الحُجّة على المشركين، وعلى الذين توجهوا إلى الأموات، توجهوا إلى المقبورين بطلب تفريج الكربات، وطلب إغاثة اللهفات، وطلب إِنجاح الحاجات، وسؤال ما يحتاجه الناس، أعظم الحجة عليهم: أن تحتجَّ عليهم بتوحيد الربوبية.
وهؤلاء المشركون في هذه الأزمنة زادوا، كما قال الشيخ -رحمه الله- في القواعد الأربع: زادوا على مُشركي الجاهلية بأنهم اعتقدوا أن لتلك الآلهة، لتلك الأموات، أن لهم تصرفاً فِي الكون أيضاً؛ فنسبوا إليهم شيئاً من الربوبية، ولم يجعلوا توحيد الربوبية أيضاً خالصاً.

(2) قالَ المُصَنِّفُ رَحِمَه اللهُ تعالَى: (وقولِه: {وَالَّذِينَ تَدْعُونَ مِن دُونِهِ مَا يَمْلِكُونَ مِن قِطْمِيرٍ إِن تَدْعُوهُمْ لاَ يَسْمَعُواْ دُعَاءَكُمْ وَلَوْ سَمِعُواْ مَا اسْتَجَابُواْ لَكُمْ وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكْفُرُونَ بِشِرْكِـكُمْ وَلاَ يُنَبِّئُكَ مِثْلُ خَبِيرٍ}[فاطر:13،14]).
يُخْبِرُ تعالى عن حالِ الْمَدْعُوِّينَ من دونِه من الملائكةِ والأنبياءِ والأصنامِ وغيرِها بما يَدُلُّ على عَجْزِهم وضَعْفِهم وأَنَّهُم قد انْتَفَتْ عنهم الأسبابُ التي تكونُ في الْمَدْعُوِّ؛ وهي الْمُلْكُ، وسَماعُ الدعاءِ والقُدرةُ على استجابتِه، فمتى لم تُوجَدْ هذه الشُّروطُ تامَّةً بَطَلَتْ دَعوتُه فكيفَ إذا عُدِمَتْ بالْكُلِّيَّةِ؟
فنَفَى عنهم الْمُلْكَ بقولِه: {مَا يَمْلِكُونَ مِن قِطْمِيرٍ} والقِطْمِيرُ: اللِّفافةُ التي تكونُ على نَواةِ التمْرِ,ونَفَى عنهم سَماعَ الدعاءِ بقولِه: {إِن تَدْعُوهُمْ لاَ يَسْمَعُواْ دُعَاءَكُمْ} لأَنَّهُم ما بينَ مَيِّتٍ وغائبٍ عنهم، مُشْتَغِلٍ بما خُلِقَ له، مُسَخَّرٍ بما أُمِرَ به كالملائكةِ، ونفى عنهم القدرة على الاستجابة فقالَ: {وَلَوْ سَمِعُواْ مَا اسْتَجَابُواْ لَكُمْ} لأنَّ ذلك ليس إليهم؛ فإنَّ اللهَ تعالى لم يَأْذَنْ لأَحَدٍ من عِبادِه في دُعاءِ أَحَدٍ منهم، لا استقلالاً ولا واسطةً.
-وقولُه: {وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكْفُرُونَ بِشِرْكِـكُمْ} فتَبيَّنَ أنَّ دعوةَ غيرِ اللهِ شِرْكٌ.
-قالَ ابنُ كثيرٍ: (يَتَبَرَّؤونَ منكم).
وقولُه: {وَلاَ يُنَبِّئُكَ مِثْلُ خَبِيرٍ} أي: ولا يُخْبِرُكَ بعَواقِبِ الأمورِ ومآلِها وما تَصيرُ إليه مِثلُ خَبيرٍ بها.
قال في فتح المجيد: (والمشرِكون لم يُسَلِّموا للعَليمِ الخبيرِ ما أَخْبَرَ به عن مَعبوداتِهم فقالُوا: تَمْلِكُ وتَسمعُ وتَستجيبُ وتَشفَعُ لِمَن دَعَاهَا، ولم يَلْتَفِتُوا إلى ما أَخْبَرَ به الخبيرُ مِن أنَّ كلَّ معبودٍ يُعادِي عابِدَه يومَ القِيامةِ ويَتَبَرَّأُ منه؛ كما قالَ تعالى: {وَيَوْمَ نَحْشُرُهُمْ جَمِيعًا ثُمَّ نَقُولُ لِلَّذِينَ أَشْرَكُوا مَكَانَكُمْ أَنتُمْ وَشُرَكَاؤُكُمْ فَزَيَّلْنَا بَيْنَهُمْ، وَقالَ شُرَكَاؤُهْم مَا كُنتُمْ إِيَّانَا تَعْبُدُونَ فَكَفَى بِاللهِ شَهِيدًا بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ إِن كُنَّا عَنْ عِبَادَتِكُمْ لَغَافِلِينَ هُنَالِكَ تَبْلُو كُلُّ نَفْسٍ مَا أَسْلَفَتْ وَرُدُّوا إِلى اللهِ مَوْلاَهُمُ الحَقِّ وَضَلَّ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَفْتَرُونَ}[يونس:28-30], قالَ مُجاهِدٌ: {إِن كُنَّا عَنْ عِبَادَتِكُمْ لَغَافِلِينَ}: (يقولُ ذلك كلُّ شيءٍ كان يُعبَدُ من دونِ اللهِ).
فالكَيِّسُ يَستقبِلُ هذه الآياتِ التي هي الْحُجَّةُ والنورُ والبُرهانُ؛ بالإيمانِ والقَبولِ والعملِ، فيُجرِّدُ أعمالَه للهِ وَحدَه دُونَ كلِّ ما سِواهُ مِمَّنْ لا يَمْلِكُ لنفسِه نَفْعًا ولا دَفْعًا، فَضْلاً عن غيرِه)انتهى.
(3) قالَ المُصَنِّفُ رَحِمَه اللهُ تعالَى: (وفي (الصَّحيحِ) عَنْ أنسٍ قالَ: (شُجَّ النَّبِيُّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يَوْمَ أُحُدٍ.
فَقالَ:((كَيْفَ يُفْلِحُ قَوْمٌ شَجُّوا نَبِيَّهُم؟)) فَنَزَلَت: {لَيْسَ لَكَ مِنَ الأَمْرِ شَيْءٌ}[آل عمران:128]).
قولُه: (شُجَّ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ) قالَ أبو السعاداتِ: (الشَّجُّ في الرأسِ خاصَّةً في الأَصْلِ، وهو أن يَضْرِبَه بشيءٍ فيَجْرَحَه فيه ويَشُقَّه، ثم اسْتُعْمِلَ في غيرِه من الأعضاءِ).
قالَ القاضي: (ولِيُعْلَمَ أَنَّهُم من البَشَرِ تُصيبُهم مِحَنُ الدنيا، ويَطْرَأُ على أَجسامِهم ما يَطْرَأُ على أَجسامِ البَشَرِ ليُتَيَقَّنَ أَنَّهُم مَخلوقونَ مَربوبونَ، ولا يُفْتَتَنَ بما ظَهَرَ على أَيْدِيهم من الْمُعجزاتِ، ويُلَبِّسَ الشيطانُ مِن أَمْرِهم ما لَبَّسَه على النصارى وغيرِهم) انتهى.
قولُه: (فَأَنْزَلَ اللهُ: {لَيْسَ لَكَ مِنَ الأَمْرِ شَيْءٌ}) قالَ ابنُ عَطِيَّةَ: (كأنَّ النبيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَحِقَه في تلك الحالِ يَأْسٌ من فَلاحِ كُفَّارِ قُريشٍ؛ فقِيلَ له بسَبَبِ ذلك: {لَيْسَ لَكَ مِنَ الأَمْرِ شَيْءٌ}أي: عَواقبُ الأمورِ بيدِ اللهِ، فامْضِ أنت لِشَأْنِكَ، وَدُمْ على الدعاءِ لرَبِّكَ).
وقالَ ابنُ إِسحاقَ: {لَيْسَ لَكَ مِنَ الأَمْرِ شَيْءٌ}في عِبادِي إلا ما أَمَرْتُكَ به فيهم).
(4) قالَ المُصَنِّفُ رَحِمَه اللهُ تعالَى: (وفيه عن ابنِ عمرَ، أَنَّهُ سَمِعَ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ - إِذَا رَفَعَ رَأْسَهُ مِنَ الرُّكُوعِ في الرَّكْعَةِ الأخِيرةِ مِنَ الفَجْرِ:((اللهُمَّ العَنْ فُلانًا وَفُلانًا)) بَعْدَمَا يَقُولُ: ((سَمِعَ اللهُ لِمَنْ حَمِدَهُ رَبَّنَا وَلَكَ الحَمْدُ))فَأنْزَلَ اللهُ:{لَيْسَ لَكَ مِنَ الأَمْرِ شَيْءٌ}).
قولُه: (أَنَّهُ سَمِعَ رَسُولَ اللهِ) هذا القُنوتُ على هَؤلاءِ بعدَ ما شُجَّ وكُسِرَتْ رَبَاعِيَتُه يومَ أُحُدٍ.
قَوله: ((اللهُمَّ العَنْ فُلاَنًا وَفُلانًا)) قالَ أبو السَّعاداتِ: (أَصْلُ اللعنِ الطردُ والإبعادُ من اللهِ، ومن الْخَلْقِ السَّبُّ والدعاءُ).
وفيه: جَوازُ الدعاءِ على المشرِكينَ بأعيانِهم في الصلاةِ، وأنَّ ذلك لا يَضُرُّ الصلاةَ.
(5) قولُه: (وفي روايةٍ: (يَدْعُو على صَفْوانَ بنِ أُمَيَّةَ، وسُهَيْلِ بنِ عَمْرٍو، وَالحَارِثِ بنِ هِشامٍ)).
وذلك لأَنَّهُم رُؤوسُ المشرِكينَ يومَ أُحُدٍ، هم وأبو سُفيانَ بنُ حَرْبٍ، فما اسْتُجِيبَ لَه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فيهم، بلْ أَنزَلَ اللهُ: {لَيْسَ لَكَ مِنَ الأَمْرِ شَيْءٌ أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ أَوْ يُعَذِّبَهُمْ} فتابَ عليهم فأَسْلَمُوا وحَسُنَ إسلامُهم.
(6) قالَ المُصَنِّفُ رَحِمَه اللهُ تعالَى: (وفيهِ عَنْ أبي هُريرةَ قالَ: قامَ رَسُولُ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -حِينَ أنْزَلَ اللهُ عليهِ: {وَأَنذِرْ عَشِيرَتَكَ الأَقْرَبِينَ} [الشعراء:214], فقالَ: ((يَا مَعْشَرَ قُرَيشٍ -أَوْ كَلِمَةً نَحْوَها- اشْتَرُوا أَنْفُسَكُمْ، لا أُغْني عَنْكُمْ مِنَ اللهِ شَيْئًا، يا عَبَّاسُ بنَ عَبْدِ المطَّلِبِ لا أُغْني عَنْكَ مِنَ اللهِ شَيْئًا، يا صَفِيّةُ -عَمَّةَ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- لا أُغْني عَنْكِ مِنَ اللهِ شَيْئًا، يا فَاطِمَةُ بِنْتَ مُحَمَّدٍ، سَلِينِي مِنْ مَالي مَا شِئْتِ، لا أُغْني عَنْكِ مِنَ اللهِ شَيْئًا)).
قولُه: (حِينَ أَنْزَلَ اللهُ عَلَيْهِ: {وَأَنذِرْ عَشِيرَتَكَ الأَقْرَبِينَ}) عَشِيرَةُ الرجُلِ: هم بنو أَبِيهِ الأَدْنَوْنَ أو قَبيلتُه؛ لأَنَّهُم أَحَقُّ الناسِ بِبِرِّكَ وإحسانِك الدِّينيِّ والدُّنيويِّ؛ كما قالَ تعالى: {يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُواْ أَنفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ} [التحريم:6].
-وقد أَمَرَه اللهُ تعالى أيضًا بالنِّذارةِ العَامَّةِ، كما قالَ تعالى: {لِتُنذِرَ قَوْمًا مَّا أُنذِرَ آبَاؤُهُمْ فَهُمْ غَافِلُونَ}[يس:6]. {وَأَنذِرِ النَّاسَ يَوْمَ يَأْتِيهُمُ العَذَابُ}[إبراهيم:44].
قولُه: ((اشْتَرُوا أَنفُسَكُمْ)) أي: بتوحيدِ اللهِ، وإخلاصِ العِبادةِ له وَحدَه لا شَريكَ له، وطاعتِه فيما أَمَرَ به، والانتهاءِ عمَّا نَهَى عنه. فإنَّ ذلك هو الذي يُنْجِي من عذابِ اللهِ لا الاعتمادُ على الأنسابِ والأحسابِ، فإنَّ ذلك غيرُ نافعٍ عندَ ربِّ الأربابِ.
قولُه: ((لا أُغْنِي عَنْكُمْ مِنَ الله شَيْئًا))فيه حُجَّةٌ على مَن تَعلَّقَ على الأنبياءِ والصالحينَ، ورَغِبَ إليهم ليَشفَعُوا له ويَنفعوهُ، أو يَدْفَعُوا عنه، فإنَّ ذلك هو الشِّرْكُ الذي حَرَّمَه اللهُ تعالى، وأقامَ نَبِيَّهُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بالإنذارِ عنه، كما أَخْبَرَ تعالى عن المشرِكينَ في قولِه: {وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِن دُونِهِ أَوْلِيَاءَ مَا نَعْبُدُهُمْ إِلاَّ لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللهِ زُلْفَى}[الزمر:3]{هَؤُلاَءِ شُفَعَاؤُنَا عِندَ اللهِ}[يونس:18] فأَبْطَلَ اللهُ ذلك ونَزَّه نفسَه عن هذا الشرْكِ.
قولُه: ((سَلِينِي مِنْ مَالِي مَا شِئْتِ)) بَيَّنَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ لا يُنْجِي من عذابِ اللهِ إلا الإيمانُ والعملُ الصالحُ.
وفيه: أَنَّهُ لا يَجوزُ أن يُسألَ العبدُ إلا ما يَقْدِرُ عليه من أمورِ الدنيا.
وأمَّا الرحمةُ والْمَغفِرَةُ والْجَنَّةُ والنجاةُ من النارِونحوُ ذلك من كلِّ ما لا يَقْدِرُ عليه إلا اللهُ تعالى، فلا يَجوزُ أن يُطْلَبَ إلا منه؛ فإنَّ ما عندَ اللهِ لا يُنالُ إلا بتَجريدِ التوحيدِ، والإخلاصِ له بما شَرَعَه ورَضِيَهُ لعِبادِه أن يَتَقَرَّبُوا إليه به، فإذا كان لا يَنْفَعُ ابنَتَه وعَمَّه وعَمَّتَه وقَرابتَه إلا ذلك، فغيرُهم أَوْلَى وأَحْرَى، وفي قِصَّةِ عَمِّه أبي طالبٍ مُعْتَبَرٌ.
فانْظُرْ إلى الواقِعِ الآنَ من كثيرٍ من الناسِ من الالتجاءِ إلى الأمواتِ والتوَجُّهِ إليهم بالرَّغَبَاتِ والرَّهَباتِ، وهم عاجزونَ لا يَمْلِكون لأنفسِهم ضَرًّا ولا نَفْعًا، فَضْلاً عن غيرِهم يَتَبَيَّنْ لك أَنَّهُم لَيْسُوا على شيءٍ: {إِنَّهُمُ اتَّخَذُوا الشَّيَاطِينَ أَوْلِيَاءَ مِن دُونِ اللهِ وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُم مُّهْتَدُونَ}[الأعراف:30] أَظْهَرَ لهم الشيطانُ الشِّرْكَ في قالَبِ مَحَبَّةِ الصالحينَ، وكلُّ صالحٍ يَبْرَأُ إلى اللهِ من هذا الشِّرْكِ في الدنيا ويومَ يَقومُ الأشهادُ، ولا رَيبَ أنَّ مَحَبَّةَ الصالحينَ إنما تَحْصُلُ بِمُوافَقَتِهم في الدينِ، ومُتابَعَتِهم في طاعةِ ربِّ العالمينَ، لا باتِّخاذِهم أَنْدَادًا من دُونِ اللهِ يُحِبُّونَهم كحُبِّ اللهِ إشراكًا باللهِ، وعِبادةً لغيرِ اللهِ، وعَداوةً للهِ ورُسُلِهِ والصالحينَ من عِبادِه، كما قالَ تعالى: {وَإِذْ قالَ اللهُ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ أَأَنتَ قُلتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّيَ إِلَـهَيْنِ مِن دُونِ اللهِ قالَ سُبْحَانَكَ مَا يَكُونُ لِي أَنْ أَقُولَ مَا لَيْسَ لِي بِحَقٍّ إِن كُنتُ قُلْتُهُ فَقَدْ عَلِمْتَهُ تَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِي وَلاَ أَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِكَ إِنَّكَ أَنتَ عَلاَّمُ الْغُيُوبِ مَا قُلْتُ لَهُمْ إِلاَّ مَا أَمَرْتَنِي بِهِ أَنِ اعْبُدُواْ اللهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ وَكُنتُ عَلَيْهِمْ شَهِيدًا مَّا دُمْتُ فِيهِمْ فَلَمَّا تَوَفَّيْتَنِي كُنتَ أَنتَ الرَّقِيبَ عَلَيْهِمْ وَأَنتَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ}[المائدة:116،117].
-قالَ العَلاَّمَةُ ابنُ القَيِّمِ رَحِمَه اللهُ في هذه الآيةِ بعدَ كلامٍ سَبَقَ: (ثم نَفَى أن يكونَ قالَ لهم غيرَ ما أُمِرَ به، وهو مَحْضُ التوحيدِ فقالَ:{مَا قُلْتُ لَهُمْ إِلاَّ مَا أَمَرْتَنِي بِهِ أَنِ اعْبُدُواْ اللهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ}ثم أَخْبَرَ أنَّ شَهادتَه عليهم مُدَّةَ مَقَامِه فيهم، وأَنَّهُ بعدَ الوَفاةِ لا اطِّلاعَ له عليهم؛ وأنَّ اللهَ عزَّ وجَلَّ الْمُنْفَرِدُ بعدَ الوَفاةِ بالاطِّلاعِ عليهم فقالَ:{وَكُنتُ عَلَيْهِمْ شَهِيدًا مَّا دُمْتُ فِيهِمْ فَلَمَّا تَوَفَّيْتَنِي كُنتَ أَنتَ الرَّقِيبَ عَلَيْهِمْ وَأَنتَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ}وَصَفَهُ سُبحانَه بأن شَهادتَه فوقَ كلِّ شَهادةٍ وأَعَمُّ) انتهَى مُلَخَّصًا.

تم بحمد الله.


الساعة الآن 02:54 PM

Powered by vBulletin® Copyright ©2000 - 2024, Jelsoft Enterprises Ltd. TranZ By Almuhajir